خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَآلُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
١٧
-المائدة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

اللام فى قوله: { لَّقَدْ كَفَرَ } واقعة جواباً لقسم مقدر.
والمراد بالكفر: ستر الحق وإنكاره، والانغماس فى الباطل والضلال. والمعنى: أقسم لقد كفر أولئك النصارى الذين قالوا كذبا وزورا: إن الله المستحق للعبادة والخضوع هو المسيح عيسى ابن مريم.
قال بعض العلماء ما ملخصه: "لقد اتفق النصارى على أن يسوع عندهم فيه عنصر إلهى" وإذا كان الأمر المعروف عندهم أن يسوع ابن الله وفيه عنصر إلهى فقد قالوا: إن الألوهية قد حلت فيه. ولازم ذلك القول أن يكون هو الله، أو هو إله يعبد ومهما يكون فقد قالوا باتحاد عنصر الألوهية فيه. وقد قال فى ذلك البيضاوى: "هم الذين قالوا بالاتحاد منهم. وقيل: لم يصرح به أحد منهم. ولكنهم لما زعموا أن فيه لاهوتا، وقالوا: لا إله إلا واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم".
وذلك بلا ريب ينتهى إلى القول بأنهم يعتقدون أن المسيح هو الله، وإن لم يصرحوا بذلك، فهو لازم قولهم باتحاد عنصر الأولوهية فيه مع الله.
وإن ذلك الكلام تخريج على أن النصارى مذهب واحد فى اعتقاد الألوهية وأنه ابن الله وبذلك يكون قوله - تعالى - فى أواخر هذه السورة
{ لَّقَدْ كَفَرَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } متلاقيا مع هذا النص الكريم فهنا صرح بلازم قولهم وهناك صرح بذات قولهم.
والحقيقة أن النصارى اليوم - وهم لا يزالون يغيرون ويبدلون - يصرحون بأن الأقانيم ثلاثة. وأنها شىء واحد. وينتهون إلى أن المسيح هو الله، والله هو روح القدس. فقد قال الدكتور بوست فى تاريخ الكتاب المقدس: "طبيعة الله عبارة عن ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر هى: الله الأب، والله الإِبن والله الروح القدس فإلى الأب ينتمى الخلق بواسطة الابن وإلى الابن الفداء، وإلى الروح القدس التطهير. غير أن ثلاثة الأقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. أما مسألة التثليث فغير واضحة فى العهد القديم، كما هى فى العهد الجديد".
وفى هذا الكلام يتبين أن النصارى يصرحون بأن الابن هو الله، ولا يكون الكلام بطريق اللازم لقولهم، بل بطريق الصريح منه. فهم يصرحون بأن الله هو الابن، كما أن الله هو الأب، كما أن الله هو روح القدس.
هذا، وقد أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد على أولئك الذين قالوا { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } بما يكشف عن جهلهم وضلالهم فقال - تعالى -:
{ قل فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }.
أى: قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء النصارى الذين قالوا: { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْمَسِيحُ ٱبْنُ مَرْيَمَ } قل لهم على سبيل الإِنكار والتوبيخ والتجهيل: من ذا الذى يملك من أمر الله وإرادته شيئاً يدفع به الهلاك عن المسيح وعن أمه وعن سائر أهل الأرض، إن أراد الله - سبحانه - أن يهلكهم ويبيدهم؟ لا شك أن أحدا لن يستطيع أن يمنع إرادته - سبحانه - لأنه هو المالك لأمر الوجود كله، ولا يملك أحد من أمره شيئاً يستطيع به أن يصرفه عن عمل يريده؛ أو يحمله على أمر لا يريده، أو يستقل بعمل دونه. وما دام الأمر كذلك فدعوى أن الله هو المسيح ابن مريم ظاهرة البطلان، لأن المسيح وأمه من مخلوقات الله التى هى قابلة لطروء الهلاك والفناء عليها. وحاشا للمخلوق الفانى أن يكون إلها وإنما الألوهية لله الخالق الباقى
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِين } قال الإِمام الرازى ما ملخصه: "احتج - سبحانه - على فساد ما ذهب إليه النصارى بقوله: { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } وهذه جملة شرطية قدم فيها الجزاء على الشرط.
والتقدير: إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعا فمن الذى يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره. وقوله { فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً } أى: فمن يملك من أفعال الله شيئاً والملك هو القدرة. يعنى فمن الذى يقدر على دفع شىء من أفعال الله - تعالى - ومنع شىء من مراده.
وقوله: { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } يعنى: أن عيسى مشاكل لمن فى الأرض فى الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلم كونه - تعالى - خالقا للكل مدبراً للكل وجب أن يكون أيضاً خالقاً لعيسى".
وفى توجيه الأمر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم للرد عليهم تثبيت له وتقوية لحجته حتى يبطل قولهم الفاسد إبطالا يزداد معه المؤمنون إيمانا بالحق الذى آمنوا به.
قال أبو السعود: وإنما نفيت المالكية المذكورة بالاستفهام الإنكارى عن أحد مع تحقيق الإِلزام والتبكيت لا بنفيها عن المسيح فقط، لتحقيق الحق بنفى الألوهية عن كل ما عداه - سبحانه - وإثبات المطلوب فى ضمنه بالطريق البرهانى.
وتعميم إرادة الإِهلاك للكل - مع حصول المطلوب بقصرها على المسيح - لتهويل الخطب، وإظهار كمال العجز ببيان أن الكل تحت قهره - تعالى - وملكوته. لا يقدر أحد على دفع ما أريد به. فضلا عن دفع ما أريد بغيره.
وللإِيذان بأن المسيح أسوة لسائر المخلوقات فى كونه عرضة للهلاك، كما أنه أسوة لها فيما ذكر من العجز، وعدم استحقاق الألوهية".
وتخصيص الأم بالذكر مع اندارجها فى عموم المعطوف، لزيادة تأكيد عجز المسيح، وأنه هو وأمه عبدان من عباد الله لا يقدران على رفع الهلاك عنهما.
وعطف عليهما قوله { وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } من باب عطف العام على الخاص، ليكونا قد ذكرا مرتين. مرة بالنص عليهما. ومرة بالاندراج فى العام، وذلك على سبيل التوكيد والمبالغة فى تعلق نفاذ الإِرادة فيهما.
وقوله { وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } تأكيد لاختصاص الألوهية به - تعالى - إثر بيان انتفائها عما سواه.
أى: والله - تعالى - وحده دون أن ينازعه منازع. أو يشاركه مشارك، ملك جميع الموجودات، والتصرف المطلق فيها، إيجادا وإعداما، وإحياء وإماته. فهو المالك للسموات وما فيها وللأرض وما عليها، ولما بينهما من فضاء تجرى فيه السحب بأمره، ويطير فيه الطير بإذنه وقدرته. وما المسيح وأمه إلا من جملة ما فى الأرض، فهما عبدان من عباد الله يدينان له - سبحانه - بالعبادة والطاعة والخضوع.
وقال - سبحانه - { وَمَا بَيْنَهُمَا } ولم يقل وما بينهن مع أن السموات بلفظ الجمع، لأن المراد بالسموات والأرض النوعان أو الصنفان.
أى: ولله - تعالى - وحده ملك السموات والأرض وما بين هذين النوعين من مخلوقات خاضعة لمشيئة الله وقدرته.
وقوله { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } جملة مستأنفة مسوقة لبيان بعض أحكام الملك والألوهية على وجه يزيح ما اعترى النصارى من شبه فى أمر المسيح لولادته من غير أب، وإحيائه الموتى، وإبرائه الأكمه والأبرص، كل ذلك بإذن الله.
أى أنه - سبحانه - يخلق ما يشاء أن يخلقه من أنواع الخلق بالكيفية التى يريدها تبعا لمشيئته وإرداته.
فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنثى كما هو المعتاد بين الناس، وتارة يخلقه بدون أب أو أم كما هو الشأن فى خلق آدم، وتارة يخلقه بدون أب كما هو الشأن فى خلق عيسى، إلى ذلك من مخلوقاته التى ليست مقصورة على نوع واحد بل هى شاملة لهذا الكون بما فيه من إنسان وحيوان وجماد، فكل ما تعلقت إرادته بإيجاده أوجده، وكل ما تعلقت إرادته بإعدامه أعدمه، لا راد لمشيئته ولا معقب لحكمه ولا حائل دون نفاذ قدرته.
وقوله: { وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله.
أى: والله - تعالى - قدير على كل شىء ومالك لكل شىء ومهيمن على كل شىء لا يغلبه شىء طلبه، ولا يعجزه أمر أراده وما عيسى وأمه إلا من مخلوقاته وعبيده، وحاشا للمخلوق العاجز أن يكون إلها من دون الله - عز وجل -.
فهذه الآية الكريمة تحكى أقوال النصارى الباطلة فى شأن عيسى - عليه السلام - وترد عليهم بما يزهق باطلهم، ويثبت أن عيسى إنما هو عبد من عباد الله وأن العبادة إنما تكون لله الواحد القهار.
ثم ساق - سبحانه - بعض دعاوى أهل الكتاب الباطلة وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال - تعالى -:
{ وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَارَىٰ نَحْنُ... }