خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٦١
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦٢
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٦٣
قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
١٦٤
وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٥
-الأنعام

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

أى: قل يا محمد لهؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، ولغيرهم ممن أرسلت إليهم، قل لهم جميعاً: لقد هدانى خالقى ومربينى إلى دين الإِسلام الذى ارتضاه لعباده { دِيناً قِيَماً } أى: ثابتاً أبداً لا تغيره الملل والنحل ولا تنسخه الشرائع والكتب.
وقوله { دِيناً } نصب على البدل من محل { إِلَىٰ صِرَاطٍ } لأن معناه هدانى صراطاً، أو مفعول لمضمر يدل عليه المذكور. أى: عرفنى ديناً.
وقوله { قِيَماً } صفى لـ { دِيناً } والقَيِّم والقِيَم لغتان بمعنى واحد وقرىء بهما.
وقوله { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } منصوب بتقدير أعنى أو عطف بيان لـ { دِيناً } و { حَنِيفاً } حال من إبراهيم. أى: هدانى ربى ووفقنى إلى دين الإِسلام الذى هو الصراط المستقيم والدين القيم المتفق مع ملة إبراهيم الذى كان مائلا عن كل دين باطل إلى دين الحق، والذى ما كان أبدا { مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } مع الله آلهة أخرى فى شأن من شئونه. لا كما يزعم المشركون وأهل الكتاب أن إبراهيم كان على دينهم.
ثم قل لهم للمرة الثانية: إن صلاتى التى أتوجه بها إلى ربى { وَنُسُكِي } أى عبادتى وتقربى إليه - وهو من عطف العام على الخاص - وقيل المراد به ذبائح الحج والعمرة. { وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي } أى: ما أعمله فى حياتى من أعمال وما أموت عليه من الإِيمان والعمل الصالح.
كل ذلك { للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فأنا متجرد تجرداً كاملا لخالقى ورازقى بكل خالجة فى القلب، وبكل حكة فى هذه الحياة.
فهو - سبحانه - رب كل شىء. ولا شريك له فى ملكه، بذلك القول الطيب، وبذلك العمل الخالص أمرت وأنا أول المسلمين الممتثلين لأوامر الله والمنتهين عن نواهيه من هذه الأمة.
ثم قال لهم للمرة الثالثة على سبيل التعجب من حالهم، والاستنكار لواقعهم: { أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } أى: أغير الله - تعالى - تريدوننى أن أطلب رباً فأشركه فى عبادته، والحال والشأن أنه - سبحانه - هو رب كل شىء ومليكه، وهو الخالق لكل شىء.
فجملة { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } حال فى موضع العلة لإِنكار ما هم عليه من ضلال.
ثم بين - سبحانه - أن كل إنسان مجازى بعمله فقال: { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا } أى: لا تجترح نفس إثما إلا عليها من حيث عقابه. فلا يؤاخذ سواها به، وكل مرتكب لإِثم فهو وحده المعاقب به.
{ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } أى: ولا تحمل نفس مذنبة ولا غير مذنبة ذنب نفس أخرى، وإنما تتحمل الآثمة وحدها عقوبة إثمها الذى ارتكبته بالمباشرة أو بالتسبب.
قال القرطبى: وأصل الوزر الثقل، ومنه قوله تعالى
{ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } وهو هنا الذنب كما فى قوله تعالى { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَىٰ ظُهُورِهِمْ } ثم بين - سبحانه - نهايتهم فقال: { ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ } أى: رجوعكم بعد الموت يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } بتمييز الحق من الباطل، ومجازاة كل إنسان بما يستحقه من خير أو شر على حسب علمه.
ثم ختمت السورة بهذه الآية { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ ٱلأَرْضِ } أى: خلائف القرون الماضية، فأورثكم أرضهم لتخلفوهم فيها وتعمروها بعدهم.
وخلائف: جمع خليفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة، لأنه يخلفه.
وقوله: { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أى: فاوت بينكم فى الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوىء والمناظر والأشكال والألوان وغير ذلك.
ثم بين - سبحانه - العلة فى ذلك فقال: { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } أى: ليختبركم فى الذى أنعم به عليكم، يختبر الغنى فى غناه ويسأله عن شكره، ويختبر الفقير فى فقره ويسأله عن صبره.
وفى الحديث الشريف الذى رواه الإمام مسلم عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"إن الدنيا حلوة خضرة. وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بنى إسرائيل كانت فى النساء" .
ثم رهب - سبحانه - من معصيته، ورغب فى طاعته فقال: { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } لمن عصاه وخالف رسله. { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن أطاعه واتبع سبيل المؤمنين الصادقين.
أما بعد: فهذه هى سورة الأنعام التى عالجت من مبدئها إلى نهايتها قضية العقيدة بكل مقوماتها علاجاً قوياً حكيماً يهدى إلى الرشد لمن عنده الاستعداد لذلك، والتى طوفت بالنفس البشرية فى الكون كله لترشدها إلى خلق هذا الكون، وتجعلها تستجيب له وتنتفع بما منحها من نعم، والتى كشفت عن مواطن الشرك ومظاهره فى كل مظانه ومكامنه. لتدمغه وتدحضه وتخلص النفس البشرية والحياة الإِنسانية من أمراضه وأدرانه.
تلك هى سورة الأنعام التى نزلت مشعة بالملأ العظيم من الملائكة وذلك تفسير تحليلى لها، لا نزعم أننا استقصينا فيه كل ما يتعلق بهذه السورة الكريمة، من توجيهات وهدايات، وإنما هو قبسات من نور القرآن الكريم، نرجو الله أن ينفع به، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
{ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.