الوسيط في تفسير القرآن الكريم
هذا هو الدرس الأول من قصة موسى مع فرعون وفيه نرى ما دار بين موسى وفرعون من محاورات، وما دار بين موسى والسحرة من مناقشات ومساجلات انتهت بإيمان السحرة وهم يضرعون إلى الله بلسان صادق، وقلب سليم فيقولون - كما حكى القرآن عنهم -: { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }. ولنبدأ فى تفسير آيات هذا الدرس من أولها فنقول:
قوله - تعالى - { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } معطوف على ما قبله من قصص الأنبياء الذين تحدثت عنهم السورة الكريمة.
وموسى - عليه السلام - هو ابن عمران من نسل لاوى بن يعقوب. ويرى بعض المؤرخين أن ولادة موسى كانت فى حوالى القرن الثالث عشر قبل الميلاد، وأن بعثته كانت فى عهد منفتاح بن رمسيس الثانى.
وفرعون: لقب لملوك مصر القدماء، كلقب قيصر لملوك الروم، وكسرى لملوك الفرس، والمعنى: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل الذين سبق الحديث عنهم - وهم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب - بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا التى تدل على صدقه فيما يبلغه عن ربه إلى فرعون وملئه، وهم اشراف قومه، ووجهاء دولته.
قال بعض العلماء: "ولم يقل - سبحانه - إلى فرعون وقومه، لأن الملك ورجال الدولة هم الذين كانوا مستعبدين لبنى إسرائيل، وبيدهم أمرهم، وليس لسائر المصريين من الأمر شىء، ولأنهم كانوا مستعبدين - أيضا ولكن الظلم على بنى إسرائيل الغرباء كان أشد".
وقوله { بِآيَاتِنَآ } متعلق بمحذوف وقع حالا من مفعول بعثنا، أو صفة لمصدره. أى: بعثناه - عليه السلام - ملتبسا بها. أو بعثناه بعثاً ملتبساً بها.
والمراد بها الآيات التسع وهى العصا، واليد البيضاء، والسنون، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.
ثم بين - سبحانه - فى الآية الأولى من هذه القصة كيف تلقى فرعون وملؤه دعوة موسى وآياته فقال: { فَظَلَمُواْ بِهَا } أى: فكفروا بهذه الآيات تكبراً وجحوداً، فكان عليهم وزر ذلك، وقد عدى الظلم هنا بالباء مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى الكفر، إذ هما من واد واحد قال - تعالى - { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } ويجوز أن تكون الباء للسببية والمفعول محذوف، أى: ظلموا أنفسهم بسببها بأن عرضوها للعقاب المهين. أو ظلموا الناس بصدهم عن الإِيمان بهذه الآيات، واستمروا على ذلك إلى أن حق عليهم العذاب الأليم.
ثم ختمت الآية بالأمر بالتدبر فى أحوال هؤلاء الظالمين وفيما حل بهم من سوء المصير فقال - تعالى - { فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُفْسِدِينَ } أى: فانظر أيها الرسول الكريم - أو أيها العاقل - كيف كانت عاقبة فرعون وملئه الذين أفسدوا فى الأرض، لقد أخذهم الله بذنوبهم فأغرقهم فى اليم، وموسى وقومه ينظرون إليهم، وتلك عاقبة كل من طغى وآثر الحياة الدنيا.
ووضع - سبحانه - المفسدين موضع ضميرهم للايذان بأن الظلم مستلزم للافساد.
و { كَيْفَ } خبر لكان مقدم عليها لاقتضائه الصدارة. وعاقبة، اسمها، وهذه الجملة الاستفهامية فى محل نصب على إسقاط حرف الجر، إذ التقدير: فانظر بعين عقلك إلى كيفية ما فعلناه بهم.
وهكذا نرى السورة الكريمة ترينا فى أول آية من هذه القصة الغرض الذى سيقت من أجله وهو التدبر فى عواقب المكذبين، والتخويف من المصير الذى ساروا إليه، وتنهى الناس فى كل زمان ومكان عن السير على منوالهم. والسورة الكريمة عندما ترينا ذلك فى مطلع هذه القصة تكون متناسقة كل التناسق مع أسلوبها الذى اختارته فى دعوة الناس إلى وحدانية الله وإلى مكارم الأخلاق، وهو أسلوب التذكير بالنعم، والتحذير من عواقب الظلم والطغيان - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك فى التمهيد بين يدى السورة.
ثم بعد هذا التنبيه الاجمالى إلى مآل المفسدين، أخذت السورة تحكى لنا ما دار بين موسى - عليه السلام - وبين فرعون بصورة مفصلة فقالت: { وَقَالَ مُوسَىٰ يٰفِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى: قال موسى - عليه السلام - لفرعون فى أدب واعتزاز إنى رسول من رب العالمين، أرسلنى إليك لأدعوك لعبادته والخضوع له.
ثم بين له أنه بمقتضى هذه الرسالة لا يقول إلا كلمة الحق فقال: { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } أى: جدير بألا أقول على الله إلا القول الحق.
و { حَقِيقٌ }: صفة { رَسُولٌ } أو خبر لمبتدأ محذوف أى: أنا حقيق. أو خبر بعد خبر. و { عَلَى } بمعنى الباء.
وقرأ أبىّ "حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق" وقرأ عبد الله ابن مسعود "حقيق ألا أقول".
وقرأ نافع "حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق" أى: واجب وحق على أن لا أخبر عنه - تعالى - إلا بما هو حق وصدق.
ثم قال: { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ }أى: قد جئتكم بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلا على صدقى فيما جئتكم به. وفى قوله { مِّن رَّبِّكُمْ } إشعار بأن ما جاء به من حجج وبراهين لم يكن من صنعه. وإنما هو من عند رب العالمين، الذى بيده ملكوت كل شىء.
{ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أى: قد جئتكم ببينة عظيمة الشأن فى الدلالة على صدقى. فأطلق بنى إسرائيل من أسرك واعتقهم من رقك وقهرك، ودعهم يخرجون أحراراً من تحت سلطانك ليذهبوا معى إلى دار سوى دارك.
وإلى هنا يكون موسى - عليه السلام - قد بين لفرعون طبيعة رسالته وطالبه برفع الظلم عن المظلومين فماذا كان رد فرعون.
يحكى القرآن رده فيقول: { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ } أى: بمعجزة تشهد بصدقك من عند من أرسلك كما تدعى { فَأْتِ بِهَآ } أى: فأحضرها عندى ليثبت بها صدقك فى دعواك { إِن كُنتَ مِنَ ٱلصَّادِقِينَ } فى دعواك أنك من الملتزمين لقول الحق.
وعبر بإن المفيدة للشك فى تحقيق مضمون الجملة الشرطية، للايذان بأنه ليس معتقداً فى صدق موسى - عليه السلام.
وهنا يحكى لنا القرآن ما أسرع بفعله موسى للرد على فرعون فقال: { فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ }: أى فألقى موسى عصاه التى كانت بيده أمام فرعون فإذا هى ثعبان مبين، أى: ظاهر بين لاخفاء فى كونه ثعباناً حقيقياً يسعى فى خفة وسرعة كأنه جان.
والثعبان: الذكر العظيم من الحيات، وقيل: إنه الحية مطلقا.
وقد ذكر بعض المفسرين روايات عن ضخامة هذا الثعبان وأحواله، إلا أننا أضربنا عنها صفحا لضعفها.
ثم حكى القرآن معجزة أخرى لموسى تشهد بصدقة فقال: { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } النزع: إخراج الشىء من مكانه. أى: وأخرج موسى يده من درعه بعد أن أدخلها فيه أو من طوق قميصه، أو من إبطه فإذا هى بيضاء بياضاً عجيبا خارقا للعادة من غير أن يكون بها على من مرض أو غيره. قيل: إنه كان لها شعاع يغلب ضوء الشمس.
قال الآلوسى: قوله { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أى: بيضاء بياضا نورانيا خارجا عن العادى يجتمع عليه النظار. وقيل المعنى: بيضاء لأجل النظار لا أنها بيضاء فى أصل خلقتها، لأنه - عليه السلام - كان آدم - أى أسمر - شديد الأدمة فقد أخرج البخارى عن عبد الله بن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وأما موسى فآدم جثيم سبط كأنه من رجال الزط" وعنى صلى الله عليه وسلم بالزط جنسا من السودان والهنود.
وبذلك يكون موسى قد أتى بالبينة التى تدعو فرعون وملأه إلى الإِيمان به فهل آمنوا؟ كلا إنهم ما آمنوا بل استمروا فى ضلالهم، وحكى لنا القرآن أن حاشية فرعون السيئة، وأصحاب الجاه والغنى فى دولته غاظهم ما جاء به موسى، يدل على ذلك قوله - تعالى - { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }.
أى: قال الأشراف من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم، أى: راسخ فى علم السحر، ماهر فيه. ولم يكتفوا بهذا القول الباطل، بل أخذوا يثيرون الناس على موسى، ويهولون لهم الأمر ليقفوا فى وجهه فقالوا { { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } }.
أى: يريد هذا الساحر أن يسلب منكم ملككم، وأن يصبح هو ملكا على مصر، فماذا تأمرون لإِتقاء هذا الخطر الداهم؟ وبماذا تشيرون فى أمره؟ فهو من الأمر بمعنى المشاورة. يقال: آمرته فآمرنى. أى: شاورته فأشار على.
قال صاحب الكشاف: فإن قلت قد عزى هذا الكلام إلى فرعون فى سورة الشعراء حيث قال: { قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ } أى قال فرعون للملأ حوله { { إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } }؟ وهنا عزى إلى الملأ فكيف الجمع، قلت: قد قاله هو وقالوه هم فحكى قوله هناك وقولهم هٰهنا. أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ فقالوه لأعقابهم. أو قالوه عنه للناس عن طريق التبليغ كما يفعل الملوك، يرى الواحد منهم الرأى فيكلم به من يليه من الخاصة، ثم تبلغه الخاصة العامة.. وقولهم: { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } من امرته فأمرنى بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأى: وقيل: { فَمَاذَا تَأْمُرُونَ } من كلام فرعون، قاله للملأ لما قالوا له: إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم "كأنه قيل: فماذا تأمرون؟ فأجابوه: ارجه وأخاه..".
ثم حكى القرآن ما أشار به الملأ من قوم فرعون فقال: { قَالُوۤاْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي ٱلْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }.
أرجه: أصله أرجئه - وقد قرىء به - حذفت الهمزة وسكنت الهاء، تشبيها للضمير المنفصل بالضمير المتصل. والإِرجاء التأخير. يقال: ارجيت هذا الأمر وارجأته، إذا أخرته. ومنه { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } والمدائن: أى: البلاد جمع مدينة، وهى من مدن بالمكان - كنصر - إذا أقام به، و { حَاشِرِينَ } أى: جامعين، يقال: حشر الناس - من باب نصر وضرب - يحشرهم حشرا إذا جمعهم، ومنه: يوم الحشر والمحشر.
والمعنى: "قال الملأ من قوم فرعون حين استشارهم فى أمر موسى: أخر أمره وأمر أخيه ولا تتعجل بالقضاء فى شأنهما، وأرسل فى مدائن ملكك رجالا أو جماعات من الشرطة يجمعون إليك السحرة المهرة، لكى يقفوا فى وجه هذا الساحر العليم، ويكشفوا عن سحره ويبطلوه بسحر مثله أو أشد" وكان السحر فى عهد فرعون من الأعمال الغالبة التى يحسنها كثير من أهل مملكته.
وقال بعضهم: الأمر بالتأخير دل على أنه تقدم منه أمر آخر، وهو الهم بقتله، فقالوا له: أخره ليتبين حاله للناس.
وقال القاسمى: "تدل الآية على معجزة عظيمة لموسى، وتدل على جهل فرعون وقومه، حيث لم يعلموا أن قلب العصا حية تسعى لا يقدر عليه إلا الله وتدل على أن من عادة البشر أن من رأى أمراً عظيما أن يعارضه، فلذلك دعا فرعون بالسحرة وتدل على أنهم أنكروا أمره محافظة على الملك والمال، لذلك قالوا { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } فيدل على أن من أقوى الدواعى إلى ترك الدين، المحافظة على الرياسة والمال والجاه كما هى عادة الناس فى هذا الزمن".
وقوله { فِي ٱلْمَدَآئِنِ } متعلق بأرسل، و { حَاشِرِينَ } نعت لمحذوف أى: رجالا حاشرين. ومفعوله محذوف. أى: حاشرين السحرة، بدليل ما بعده.
ولا يذكر السياق القرآنى بعد ذلك أنهم أرسلوا إلى السحرة، ولا أنهم جمعوهم، وإنما يترك ذلك للعقل يفهمه حيث لا داعى لذكر هذه التفاصيل. ويتجه القرآن إلى الحديث عما دار بين السحرة وبين فرعون بعد أن جمعوا من مدائن الصعيد بمصر حيث كان مقرهم هناك فيقول: { وَجَآءَ ٱلسَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْوۤاْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ ٱلْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }.
أى: وأقبل السحرة سريعا على فرعون بعد أن أرسل إليهم فقالوا له بلغة المحترف الذى مقصده الأول مما يعمله الأجر والعطاء: إن لنا لأجراً عظيما إن كانت لنا الغلبة على هذا الساحر العليم؟ فهم يستوثقون أولا من جزالة الأجر وضخامته. وهنا يجيبهم فرعون بقوله: نعم لكم أجر مادى جزيل إذا انتصرتم عليه، وفضلا عن ذلك فأنتم تكونون بهذا الانتصار من الظافرين بقربى وجوارى. فهو يغريهم بالأجر المادى ويعدهم بالقرب المعنوى من قلبه تشجيعا لهم على الإِجادة، وهو وهم لا يعلمون أن الموقف ليس موقف الاحتراف والمهارة والتضليل، وإنما هو موقف المعجزة والرسالة والاتصال بالقوة الغالبة التى لا يستطيع الوقوف فى وجهها الساحرون ولا المتجبرون وغيرهم.
هذا، وقد اختلف المفسرون فى عدد هؤلاء السحرة فقيل، كانوا اثنين وسبعين ساحراً، وقيل كانوا أكثر من ذلك بكثير.
وبعد أن اطمأن السحرة على الأجر، وتطلعت نفوسهم إليه، يحكى لنا القرآن أنهم توجهوا إلى موسى بلغة الواثق من قوته، المتحدى لخصمه: { قَالُواْ يٰمُوسَىٰ إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ ٱلْمُلْقِينَ }.
أى: أنت يا موسى مخير بين أن تلقى عصاك أولا؛ وبين أن نلقى نحن أولا وأنت تفعل ما تشاء بعدنا، وكأنهم يقولون له: وفى كلتا الحالتين فنحن على ثقة من الفوز والنصر فأرح نفسك واستسلم لنا مقدما.
ويرى الزمخشرى أن تخييرهم إياه أدب حسن راعوه معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا كالمتناظرين قبل أن يتخاوضوا فى الجدال، والمتصارعين قبل أن يتآخذوا فى الصراع.
ولقد حكى لنا القرآن فى سورة طه أن موسى نصحهم بعدم الدخول معه فى معركة هم الخاسرون فيها قطعا فقال: { قَالَ لَهُمْ مُّوسَىٰ وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ } أما هنا فيحكى لنا القرآن أن موسى - عليه السلام - قد طلب منهم أن يلقوا أولا مستهينا بتحديهم له، غير مبال بهم ولا بمن جمعهم، لأنه قد اعتمد على خالقه { قَالَ أَلْقَوْاْ فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }.
أى: قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون أولا، فلما ألقوا ما كان معهم من الحبال والعصى { سَحَرُوۤاْ أَعْيُنَ ٱلنَّاسِ } أى: خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة فى الخارج مع أنه لم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، ولذا لم يقل - سبحانه - سحروا الناس.
وقوله { وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } أى: خوفوهم وأفزعوهم بما فعلوا من السحر. { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } أى: فى باب السحر، أو فى عين من رآه، فإنه ألقى كل واحد منهم عصاه، فصارت كأنها ثعابين.
والتعبير بقوله - سبحانه - { وَٱسْتَرْهَبُوهُمْ } تعبير مصور بليغ، فهو يوحى بأنهم استجاشوا وجدان الناس قسرا، وساقوهم سوقا بوسائل مصطنعة مفتعلة لا تستند إلى واقع سليم.
روى أنهم ألقوا حبالا غلاظا وخشبا طوالا، فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضا.
وروى أنهم لونوا حبالهم وخشبهم وجعلوا فيها ما يوهم الحركة. قيل: جعلوا فيها الزئبق.
وقال بعض العلماء: قيل إنها كانت عصيا مجوفة قد ملئت زئبقا، وقد حفروا قبل ذلك تحت المواضع أسراباً ملؤها نارا، فلما طرحت عليها العصى المجوفة المملوءة بالزئبق حركها، لأن شأن الزئبق إذا أصابته النار أن يطير، فأخبر الله أن ذلك كان مموها على غير حقيقته. فعلى هذا يكون سحرهم لأعين الناس عبارة عن هذه الحيلة الصناعية.
ويمضى القرآن فيبين لنا أن هذا السحر العظيم الذى استرهب الناس وسحر أعينهم، قد تهاوى فى لحظة، وانطوى فى ومضة، وزالت آثاره بعد أن قذفه موسى بسلاح الحق الذى سلحه به ربه، استمع إلى القرآن وهو يحكى ذلك فيقول: { وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }.
اللقف: التناول بسرعة. يقال: لقف الشىء يلقفه لقفا ولقفانا، أخذه بسرعة.
والإِفك: الكذب. يقال أفَك يأفِك، وأفك يأفك إفكا وأفكا - كضرب وعلم - إذا كذب، واصله من الأفك - بفتح أوله - وهو بمعنى صرف الشىء عن وجهه الذى يجب أن يكون عليه. واطلق على الكذب إفك - بكسر الهمزة - لكونه مصروفا عن وجه الحق، ثم صار حقيقة فيه.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى - بعد أن أوجس خيفة مما رآه من أمر السحرة - أن الق عصاك ولا تخف إنك أنت الأعلى، فألقاها فإذا هى تبتلع وتلتقم بسرعة ما يكذبون ويموهون به أولئك السحرة { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ } أى: ظهر وتبين الحق الذى عليه موسى - وفسد وبطل ما كانوا يعملون من الحيل والتخييل وذهب تأثيره. وترتب على ذلك أن أصابت الهزيمة المنكرة فرعون وملأه وسحرته فى ذلك المجمع العظيم، الذى حشر الناس له فى يوم عيدهم وزينتهم، وانقلب الجميع إلى بيوتهم صاغرين أذلاء، بعد أن أنزل بهم موسى الخذلان والخيبة.
وان قوله { أَنْ أَلْقِ } يجوز أن تكون مفسرة لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإِيحاء، ويجوز أن تكون مصدرية فتكون هى وما بعدها مفعول الايحاء.
والفاء فى قوله { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } فصيحة أى: فألقاها فصارت حية فإذا هى تلقف ما يأفكون.
وإنما حذف هذا المقدر للإِيذان بمسارعة موسى إلى الالقاء، وبغاية سرعة الانقلاب، كأن ابتلاعها لما يأفكون قد حصل متصلا بالأمر بالإِلقاء.
و { مَا } فى قوله { مَا يَأْفِكُونَ } موصولة والعائد محذوف أى: الذى يأفكونه، أو مصدرية وهى مع الفعل بمعنى المفعول أى: فإذا هى تلقف المأفوك.
وفى التعبير بقوله - سبحانه - { فَوَقَعَ ٱلْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تجسيم لهذا الحق الذى كان عليه موسى، وتثبيت واستقرار له، حتى لكأنه شىء ذو ثقل نزل على شىء آخر خفيف الوزن فأزاله ومحاه من الوجود.
وهذه الآيات الكريمة تصور لنا كيف أن الباطل قد يسحر عيون الناس ببريقه لفترة من الوقت، وقد يسترهب قلوبهم لساعة من الزمان، حتى ليخيل إلى الكثيرين الغافلين أنه غالب وجارف. ولكن ما إن يواجهه الحق الهادىء الثابت المستقر بقوته التى لا تغالب حتى يزهق ويزول، وينطفىء كشعلة الهشيم، وإذا بأتباع هذا الباطل يصيبهم الذل والصغار، وهم يرون صروحهم تتهاوى، وآمالهم تتداعى، أمام نور الحق المبين، وإذا بتحديهم الصريح، وتطاولهم الأحمق يتحول إلى استسلام مهين، وذل مشين.
ثم يحكى لنا القرآن بعد ذلك موقف السحرة بعد أن رأوا بأعينهم أن ما فعله موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر فقال: { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَٱنقَلَبُواْ صَاغِرِينَ وَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سَاجِدِينَ } أى: خروا سجدا، كأنما - كما قال الزمخشرى - قد القاهم ملق لشدة خرورهم أو لم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا فكأنهم ألقوا.
والمراد أن ظهور بطلان سحرهم، وإدراكهم بأن موسى على الحق، قد حملهم على السجود لله - تعالى - وأن نور الحق قد بهرهم وجعلهم يسارعون إلى الإِيمان حتى لكأن أحدا قد دفعهم إليه دفعا، وألقاهم إليه إلقاء.
وقوله { قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } أى: قال السحرة بعد أن تبين لهم الحق وخروا ساجدين لله، آمنا بمالك أمر العالمين ومدبر شئونهم، والمتصرف فيهم، وجملة { رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ } بدل من الجملة التى قبلها، أو صفة لرب العالمين، أو عطف بيان. وفائدة ذلك نفى توهم من يتوهم أن رب العالمين قد يطلق على غير الله - تعالى - كقول فرعون { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } وهكذا نرى أثر الحق عندما تخالط بشاشته القلوب الواعية، لقد آمن السحرة وصرحوا بذلك أمام فرعون وشيعته، لأنهم أدركوا عن يقين قطعى أن ما جاء به موسى - عليه السلام - ليس من قبيل السحر، والعالم فى فنه هو أكثر الناس استعداداً للتسليم بالحقيقة حين تتكشف له، ومن هنا فقد تحول السحرة من التحدى السافر إلى التسليم المطلق أمام صوله الحق الذى لا يجحده إلا مكابر حقود.
ولكن فرعون وملأه لم يرقهم ما شاهدوا من إيمان السحرة، ولم يدركوا لانطماس بصيرتهم فعل الإِيمان فى القلوب، فأخذ يتوعدهم بالموت الأليم ويحكى القرآن ذلك فيقول: { قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ } أى: قال فرعون منكراً على السحرة إيمانهم، آمنتم برب موسى وهارون قبل أن آمركم أنا بذلك؟ فهو لغروره وجهله ظن أن الإِيمان بالحق بعد أن تبين يحتاج إلى استئذان.
ثم أضاف إلى ذلك اتهامهم بأن إيمانهم لم يكن عن إخلاص ليصرف الناس عنهم فقال: { إِنَّ هَـٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي ٱلْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا } أى: إن ما صنعتموه من الإِيمان برب موسى وهارون ليس عن اقتناع منكم بذلك، بل هو حيلة احتلتموها أنتم وموسى قبل أن يلقى كل منكم بسحره، لكى تخرجوا من مصر أهلها الشرعيين، وتخلص لكم ولبنى إسرائيل.
وغرضه من هذا القول إفهام قبط مصر أن إيمان السحرة كان عن تواطؤ مع موسى، وأنهم يهدفون من وراء ذلك إلى إخراجهم من أوطانهم، فعليهم. - أى القبط - أن يستمسكوا بدينهم وأن يعلنوا عداوتهم لموسى وللسحرة ولبنى إسرائيل.
ولا شك أن هذا لون من الكذب الخبيث أراد من ورائه فرعون صد الناس عن الإِيمان بموسى - عليه السلام -.
ثم أتبع هذا الاتهام الباطل بالوعيد الشديد فقال: { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أى: فسوف تعلمون عاقبة ما فعلتم. ثم فصل هذا الوعيد بقوله: { لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ }.
أى: أقسم لأقطعن من كل شق منكم عضواً مغايراً للآخر، كاليد من الجانب الأيمن، والرجل من الجانب الأيسر، ثم لأصلبنكم أجمعين تفضيحاً لكم، وتنكيلا لأمثالكم. ومع أن فرعون قد توعد هؤلاء المؤمنين بالعذاب والتشويه والتنكيل والموت القاسى البطىء الموهوب، فإننا نراهم يقابلون كل ذلك بالصبر الجميل، والإِيمان العميق، والاستهانة ببطش فرعون وجبروته فيقولون له بكل ثبات واطمئنان: { إِنَّآ إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } قال صاحب الكشاف: "فيه أوجه: أن يريدوا إنا لا نبالى بالموت لانقلابنا إلى لقاء ربنا ورحمته وخلاصنا منك ومن لقائك. أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب. أو إنا جميعاً يعنون أنفسهم وفرعون ننقلب إلى الله فيحكم بيننا. أو إنا لا محالة ميتون منقلبون إلى الله فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه".
ثم قالوا له على سبيل الاستهزاء والتوبيخ { وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَآءَتْنَا } أى: وما تكره منا وتعيب إلا الإِيمان بالله، مع أن ما تكرهه منا وتعيبه علينا هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلباً لمرضاتك.
يقال: نقم عليه أمره، ونقمت منه نقما - من باب ضرب - عبته وكرهته أشد الكراهة.
قال الجمل: "وقوله { إِلاَّ أَنْ آمَنَّا } يجوز أن يكون فى محل نصب مفعول به، أى: ما تعيب علينا إلا إيماننا. ويجوز أن يكون مفعولا من أجله. أى: ما تنال منا وتعذبنا لشىء من الأشياء إلا لإِيماننا. وعلى كل من القولين فهو استثناء مفرغ".
ثم ختموا مناقشتهم لفرعون بالانصراف عنه والالتجاء إلى الله - تعالى - فقالوا: { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أى: يا ربنا افض علينا صبراً واسعاً لنثبت على دينك، وتوفنا إليك حالة كوننا مسلمين لك مذعنين لأمرك ونهيك، مستسلمين لقضائك.
وبذلك يكون السحرة قد ضربوا للناس فى كل زمان ومكان أروع الأمثال فى التضحية من أجل العقيدة، وفى الوقوف أمام الطغيان بثبات وعزة، وفى الصبر على المكاره والآلام، وفى المسارعة إلى الدخول فى الطريق الحق بعد أن تبين لهم، وفى التعالى عن كل مغريات الحياة.
قال قتادة: كانوا فى أول النهار كفاراً سحرة. وفى آخره شهداء بررة، فرضى الله عنهم وحشرنا فى زمرتهم.
وبعد هذا الحديث الذى ساقته السورة عما دار بين موسى وفرعون، وبين موسى والسحرة، والذى انتهى بإيمان السحرة برب العالمين بعد ذلك بدأت السورة تحكى لنا ما قاله الملأ من قوم فرعون بعد هزيمتهم المنكرة، وما قاله موسى - عليه السلام - لقومه بعد أن بلغهم وعيد فرعون وتهديده لهم، وما رد به قومه عليه مما يدل على سفاهتهم فقالت: { وَقَالَ ٱلْمَلأُ.... }.