خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
٥٩
قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٦٠
قَالَ يَٰقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَـٰلَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ
٦١
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ
٦٢
أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٦٣
فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ
٦٤
-الأعراف

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

تلك هى قصة نوح مع قومه كما وردت فى هذه السورة، وقد وردت بصورة أكثر تفصيلا فى سورة هود، والمؤمنون، ونوح وغيرها.
وقوله: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ } جواب قسم محذوف، أى: والله لقد أرسلنا نوحا إلى قومه والدليل على هذا القسم وجود لامه فى بدء الجملة.
قال الآلوسى: "واطرد استعمال هذه اللام مع قد فى الماضى - على ما قال الزمخشرى - وقل الاكتفاء بها وحدها. والسر فى ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التى هي جوابها، فكانت مظنة لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه، لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد".
وينتهى نسب نوح - عليه السلام - إلى شيث بن آدم - عليه السلام - وقد ذكر نوح فى القرآن فى ثلاث وأربعين موضعا.
وقوم الرجل أقرباؤه الذين يجتمعون معه فى جد واحد. وقد يقيم الرجل بين الأجانب فيسميهم قومه مجازا للمجاورة.
وكان قوم نوح يعبدون الأصنام فأرسل الله إليهم نوحا ليدلهم على طريق الرشاد.
قال ابن كثير: قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: كان أول ما عبدت الأصنام أن قوما صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجد، وصوروا صور أولئك الصالحين فيها ليتذكروا حالهم وعبادتهم فيتشبهوا بهم، فلما طال الزمان جعلوا أجسادا على تلك الصور، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين: وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسرا فلما تفاقم الأمر بعث الله - تعالى - رسوله نوحا فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له".
وقوله: { فَقَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } حكاية لما وجهه نوح لقومه من إرشادات، أى: قال لهم بتلطف وأدب تلك الكلمة التى وجهها كل رسول لمن أرسل إليهم: اعبدوا الله وحده لا شريك له، فإنه هو المستحق للعبادة، أما سواه فلا يملك نفعا أو ضرا.
وكلمة { غَيْرُهُ } قرئت بالحركات الثلاث، بالرفع على أنها صفة لإِله باعتبار محله الذى هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية. وقرأ الكسائى بالجر باعتبار اللفظ، وقرىء بالنصب على الاستثناء بمعنى، ما لكم من إله إلا إياه.
ثم حكى القرآن أن نوحا حذر قومه من سوء عاقبة التكذيب، وأظهر لهم شفقته بهم وخوفه عليهم فقال: { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أى: إنى أخاف عليكم إذا ما سرتم فى طريق الكفر والضلال وتركتم عبادة الله وحده عذاب يوم عظيم، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه ولتكميل الإِنذار.
قال صاحب الكشاف: "فإن قلت ما موقع الجملتين بع قوله: { ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } قلت: الأولى - وهى ما لكم من إله غيره - بيان لوجه اختصاصه بالعبادة، والثانية وهى - إنى أخاف ... إلخ - بيان الداعى إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون ما كانوا يعبدونه من دون الله. واليوم العظيم: يوم القيامة، أو يوم نزول العذاب بهم وهو الطوفان".
بهذا الأسلوب المقنع المهذب دعا نوح قومه إلى وحدانية الله. فكيف كان ردهم عليه؟ لقد ردوا عليه ردا سقيما حكاه القرآن فى قوله: { قَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ }.
الملأ: الأشراف والسادة من القوم. سموا بذلك لأنهم يملأون العيون مهابة. وقيل: هم الرجال ليس فيهم نساء. والملأ: اسم جمع لا واحد له من لفظه: كرهط.
والجملة الكريمة مستأنفة، كأنه قيل فماذا قالوا له؟ فقيل: قال الملأ ... إلخ والرؤية هنا قلبية ومفعولاها الضمير والظرف، وقيل: بصرية فيكون الظرف فى موضع الحال. أى: قال الأشراف من قوم نوح له عندما دعاهم إلى وحدانية الله: إنا لنراك بأمرك لنا بعبادة الله وحده وترك آلهتنا فى انحراف بين عن طريق الحق والرشاد.
يقال: ضل الطريق يضل وضل عنه ضلالا وضلالة، أى زل عنه فلم يهتد إليه، وجعلوا الضلال ظرفا له { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } مبالغة فى وصفهم له وزادوا فى المبالغة بأن أكدوا ذلك بالجملة المصدرة بإن ولام التأكيد.
ورحم الله ابن كثير فقد قال عند تفسيره لهذه الآية. وهكذا حال الفجار، إنما يرون الأبرار فى ضلالة، كقوله - تعالى -:
{ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوۤاْ إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ لَضَالُّونَ } ). ( { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَـٰذَآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } إلى غير ذلك من الآيات.
ويرد نوح على قومه بأسلوب عف مهذب، فينفى عن نفسه الضلالة، ويكشف لهم عن حقيقة دعوته ومصدرها فيقول - كما حكى القرآن عنه -:
{ قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ } أى: قال نوح لقومه مستميلا لقلوبهم: يا قوم ليس بى أدنى شىء مما يسمى بالضلال فضلا عن الضلال المبين الذى رميتمونى به، فقد نفى الضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه، لأن التاء فى - ضلالة - للمرة الواحدة منه، ونفى الأدنى أبلغ من نفى الأعلى، والمقام يقتضى ذلك، لأنهم لما بالغوا فى رميه بالضلال المبين، رد عليهم بما يبرئه من أى لونه من ألوانه. وفى تقديم الظرف (بي) تعريض بأنهم هم فى ضلال واضح.
ثم قفى على نفى الضلالة عنه بإثبات مقابلها لنفسه وهى الهداية والتبليغ عن الله - تعالى - فقال: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
فأنت ترى أن نوحاً - عليه السلام - بعد أن نفى عن نفسه أى لون من ألوان الضلالة وصف نفسه بأربع صفات كريمة:
أولها: قوله: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى: لست بمنجاة من الضلال الذى أنتم فيه فحسب، ولكنى فضلا عن ذلك رسول من رب العالمين إليكم لهدايتكم وإنقاذكم مما أنتم فيه من شرك وكفر.
قال الجمل: (وقد جاءت لكن هنا أحسن مجىء لأنها ين نقيضين، لأن الإِنسان لا يخلو من أحد شيئين: ضلال أو هدى، والرسالة لا تجامع الضلال و { مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } صفة لرسول ومن لابتداء الغاية).
وثانيها: قوله: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي } أى: أبلغكم ما أوحاه الله إلى من الأوامر والنواهى، والمواعظ والزواجر، والبشائر والنذائر، والعبادات والمعاملات.
قال الآلوسى: وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبى واحدة، رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معانى ما أرسل - عليه السلام - به من العبادات والمعاملات - أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس - عليه السلام - والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير رسالته وتقرير أحكامها.
وثالثها: قوله: { وَأَنصَحُ لَكُمْ } أى: أبلغكم جميع تكاليف الله وأتحرى ما فيه صلاحكم وخيركم فأرشدكم إليه وآخذكم نحوه.
وأنصح: مأخوذ من النصح - وهو كما قال القرطبى - إخلاص النية من شوائب الفساد، يقال: نصحته ونصحت له نصيحة ونصاحة - أى أرشدته إلى ما فيه صلاحه - ويقال: رجل ناصح الجيب، أى: نقى القلب. والناصح الخالص من العسل وغيره، مثل الناصع. وكل شىء خلص فقد نصح.
والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصح، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يعرفهم جميع أوامر الله ونواهيه وجميع أنواع التكاليف التى كلفهم الله بها، وأما النصح فمعناه أن يرغبهم فى قبول تلك الأوامر والنواهى والعبادات ويحذرهم من عذاب الله إن عصوه.
وأما الصفة الرابعة فهى قوله: { وَأَعْلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أى: أبلغكم رسالات ربى وأنصح لكم عن إخلاص، وأعلم فى الوقت نفسه من الأمور الغيبية التى لا تعلم إلا عن طريق الوحى أشياء لا علم لكم بها، لأن الله قد خصنى بها.
أو المعنى: وأعلم من قدرة الله الباهرة، وشدة بطشه على أعدائه، ما لا تعلمونه فأنا أحذركم عن علم، وأنذركم عن بينة
{ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } قال ابن كثير: وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغا نصيحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله فى هذه الصفات كما جاء فى صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعاً: "أيها الناس، إنكم مسئولون عنى، فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها عليهم، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد" .
وبعد أن وصف نوح نفسه بتلك الصفات الأربع، وبين لهم وظيفته أكمل بيان أخذ ينكر عليهم استبعادهم أن يخصه الله بالنبوة فقال:
{ أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنْكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } الهمزة فى أول الجملة للاستفهام الإِنكارى، والواو بعدها للعطف على محذوف مقدر بعد الهمزة.
والمعنى: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر أى موعظة من ربكم وخالقكم على لسان رجل من جنسكم، تعرفون مولده ونشأته.
ولقد حكى القرآن عن قوم نوح أنهم عجبوا من أن يختار الله رسولا منهم، قال - تعالى -:
{ فَقَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بِهَـٰذَا فِيۤ آبَآئِنَا ٱلأَوَّلِينَ }.
وقوله: { لِيُنذِرَكُمْ } علة للمجىء، أى: وليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصى.
وقوله: { وَلِتَتَّقُواْ } علة ثانية مرتبة على العلة التى قبلها، أى: ولتوجد منكم التقوى، وهى الخشية من الله بسبب الإِنذار.
وقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } علة ثالثة مترتبة على التى قبلها. أى: ولترحموا بسبب التقوى إن وجدت منكم.
قال بعض العلماء: وهذا الترتيب فى غاية الحسن، لأن المقصود من الإِرسال الإِنذار، ومن الإِنذار التقوى. ومن التقوى الفوز بالرحمة.
وفائدة حرف الترجى { وَلَعَلَّكُمْ } التنبيه على عزة المطلب، وأن التقوى غير موجبة للرحمة، بل هى منوطة بفضل الله، وأن المتقى ينبغى ألا يعتمد على تقواه ولا يأمن عذاب الله.
وإلى هنا نكون قد عرفنا أسلوب نوح فى دعوته كما جاء فى هذه السورة الكريمة، فماذا كان موقف قومه؟
لقد صرحت السورة الكريمة بأن موقفهم كان قبيحا، ولذا عوقبوا بما يناسب جرمهم قال - تعالى -: { فَكَذَّبُوهُ } أى: فكذب قوم نوح نبيهم ومرشدهم نوحا، وأصروا على التكذيب مع أنه دعاهم إلى الهدى ليلا ونهاراً، وسراً وجهاراً، ومع أنه مكث فيهم "ألف سنة إلا خمسين عاما" كانت نتيجة ذلك - كما حكى القرآن:
{ فَأَنجَيْنَاهُ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ } أى: فأنجيناه من الغرق هو والذين آمنوا معه بأن حملناهم فى السفينة التى صنعها. والفاء فى { فَأَنجَيْنَاهُ } للسببية.
قيل كان عدد الذين آمنوا معه أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل غير ذلك. والقرآن قد صرح بأن المؤمنين به كانوا قلة، فقال:
{ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } { وَأَغْرَقْنَا ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ } عمين: جمع عم صفة مشبهة، يقال: هو عم - كفرح - لأعمى البصيرة.
أى: وأغرقنا بالطوفان أولئك الذين كذبوا بآياتنا من قوم نوح لأنهم كانوا قوماً عمى البصائر عن الحق والإِيمان لا تنفع فيهم المواعظ ولم يجد معهم التذكير.
وهذه سنة الله فى خلقه أن جعل حسن العاقبة للمؤمنين، وسوء العذاب للجاحدين. ثم تحكى لنا السورة بعد ذلك قصة هود - عليه السلام - مع قومه، فيقول الله - تعالى -: { وَإِلَىٰ عَادٍ.... }.