خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ
١٥
وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٦
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
١٧
ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ
١٨
إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٩
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قوله - سبحانه - { زَحْفاً }: مصدر زحف وأصله للصبى، وهو أن يزحف على إسته قبل أن يمشى. ثم أطلق على الجيش الكثيف المتوجه لعدوه لأنه لكثرته وتكاتفه يرى كأنه جسم واحد يزحف ببطء وإن كان سريع السير.
قال الجمل: وفى المصباح: زحف القوم زحفا وزحوفا. ويطلق على الجيش الكثير زحف تسمية بالمصدر والجمع زحوف مثل فلس وفلوس. ونصب قوله: { زَحْفاً } على أنه حال من المفعول وهو { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين نحوكم.
والأدبار: جمع دبر - بضمتين - وهو الخلف، ومقابله القبل وهو الأمام، ويطلق لفظ الدبر على الظهر وهو المراد هنا.
والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا { إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } زاحفين نحوكم لقتالكم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ ٱلأَدْبَارَ } أى. فلا تفروا منهم، ولا تولوهم ظهوركم منهزمين، بل قابلوهم بقوة وغلظة وشجاعة، فإن من شأن المؤمن أن يكون شجاعا لا جبانا، ومقبلا غير مدبر.
فالمراد من تولية الأدبار: الانهزام، لأن المنهزم يولى ظهره وقفاه لمن انهزم منه.
وعدل من لفظ الظهور إلى الأدبار، تقبيحا للانهزام، وتنفيرا منه، لأن القبل والدبر يكنى بهما عن السوءتين.
ثم بين - سبحانه - أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين فقال - تعالى -: { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }.
وقوله: { مُتَحَرِّفاً } من التحرف بمعنى الميل والانحراف من جهة إلى جهة بقصد المخادعة فى القتال وهو منصوب على الحالية.
وقوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ } من التحيز بمعنى الانضمام. تقول: حزت الشئ أحوزه إذا ضممته إليك. وتحوزت الحية أى انطوت على نفسها.
والفئة: الجماعة من الناس. سميت بذلك لرجوع بعضهم إلى بعض فى التعاضد والتناصر. من الفئ بمعنى الرجوع إلى حالة محمودة.
والمعنى: أن تولية الأدبار محرمة إلا فى حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن عند توليته الأدبار مائلا عن مكانه إلى مكان آخر أصلح للقتال فيه، أو أن يكون منعطفا إلى قتال طائفة من الأدبار أهم من الطائفة التى أمامه، أو أن يوهم عدوه بأنه منهزم أمامه استدراجا له، ثم يكر عليه فيقتله.
الحالة الثانية: أن يكون فى توليه منحازا إلى جماعة أخرى من الجيش ومنضما إليها للتعاون معها على القتال، حيث إنها فى حاجة إليه.
وهذا كله من أبواب خدع الحرب ومكايدها.
وقد توعد - سبحانه - الذى ينهزم أمام الأعداء فى غير هاتين الحالتين بقوله: { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ }.
أى: ومن يول الكافرين يوم لفائهم دبره غير متحرف ولا متحيز فقد رجع متلبسا بغضب شديد كائن من الله - تعالى - ومأواه الذى يأوى إليه فى الآخرة جهنم وبئس المصير هى.
وقوله: { فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ... } جواب الشرط لقوله، ومن يولهم.
هذا، ومن الأحكام التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
1- وجوب مصابرة العدو، والثبات فى وجهه عند القتال، وتحريم الفرار منه.
قال الآلوسى: فى الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز. أُخرج الشيخان وغيرهما عن أبى هريرة - رضى الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"اجتنبوا السبع الموبقات - أى المهلكات - قالوا: يا رسول الله وما هن قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات" .
ثم قال: وجاء وعد - التولى الزحف - من الكبائر فى غير ما حديث.
2- أن الخطاب فى الآيتين لجميع المؤمنين وليس خاصاً بأهل بدر. قال الفخر الرازى ما ملخصه: اختلف المفسرون فى أن هذا الحكم - وهو تحريم التولى أمام الزحف - هل هو مختص بيوم بدر أو هو حاصل على الإِطلاق؟
فنقل عن أبى سعيد الخدرى والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بمن كان انهزم يوم بدر. قالوا: والسبب فى اختصاص بدر بهذا الحكم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان حاضراً يوم بدر.. وأنه - سبحانه - شدد الأمر على أهل بدر، لأنه كان أول الجهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه لزم منه الخلل العظيم.
والقول الثانى: أن الحكم المذكور فى هذه الآية كان عاماً فى جميع الحروب بدليل أن قوله - تعالى - { يَآأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ... } عام فيتناول جميع الصور. أقصى ما فى الباب أنه نزل فى واقعة بدر، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب".
وهذا القول الثانى هو الذى نرجحه، لأن ظاهر الآية يفيد العموم لكل المؤمنين فى كل زمان ومكان، ولأن سورة الأنفال كلها قد نزلت بعد الفراغ من غزوة بدر لا قبل الدخول فيها.
3- أن الآيتين محكمتان وليستا منسوختين. أى أن تحريم التولى يوم الزحف على غير المتحرف أو المتحيز ثابت لم ينسخ.
وقد رجح ذلك الإِمام ابن جرير فقال ما ملخصه: "سئل عطاء بن أبى رباح عن قوله { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } فقال: هذه الآية منسوخة بالآية التى فى الأنفال بعد ذلك وهى قوله - تعالى -:
{ { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ... } وليس لقوم أن يفروا من مثليهم.
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام فى كل من ولى الدبر عن العدو منهزما.
وأولى التأويلين بالصواب فى هذه الآية عندى: قول من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت فى أهل بدر. وحكمها ثابت فى جميع المؤمنين. وأن الله حرم على المؤمنين إذا لقوا العدو أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرف القتال، أو التحيز إلى فئة من المؤمنين، حيث كانت من أرض الإِسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتال منهزما - بغير نية إحدى الخلتيين اللتين أباح الله التولية بهما - فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا: هى محكمة غير منسوخة، لما قد بينا فى غير موضع، أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ وله فى غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها: من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قوله - تعالى - { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ }.
ثم بين لهم - سبحانه - بعض مظاهر فضله عليهم ليزدادوا شكراً له، وطاعة لأمره فقال - تعالى -: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
قال القرطبى: قوله - تعالى -: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ }، أى يوم بدر. روى أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم لما صدروا عن بدر.
ذكر كل واحد منهم ما فعل فقال: قتلت كذا، وأسرت كذا، فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك. فنزلت الآية إعلاما بأن الله هو المميت والمقدر لجميع الأشياء، وأن العبد إنما يشارك بكسبه وقصده..."
وقال ابن كثير: قال على بن طلحة عن ابن عباس:
"رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم -، يديه - يعنى يوم بدر - فقال: يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا، فقال جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها فى وجوههم فأخذ قبضة من التراب فرمى بها فى وجوههم" ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين.
وقال السدى:
"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلى يوم بدر أعطنى حصا من الأرض فناوله حصا عليه تراب، فرمى به فى وجوه القوم" ، فلم يبق مشرك إلا دخل فى عينيه من ذلك التراب شئ، ثم ردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، وأنزل الله: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ... }.
وقال أبو معشر المدنى
"عن محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظى قالا: لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضه من تراب فرمى بها فى وجوه القوم وقال:شاهت الوجوه" ، فدخلت فى أعينهم كلهم. وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله. { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ }.
وهناك روايات أخرى ذكرت أن قوله - تعالى - { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } المقصود به رميه - صلى الله عليه وسلم - لأبى بن خلف يوم أحد، أو رميه لكنانة بن أبى الحقيق فى غزوة خيبر، أو رميه المشركين فى غزوة حنين.
قال ابن كثير: وقد روى فى هذه القصة عن عروة ومجاهد وعكرمة وقتادة وغير واحد من الأئمة أنها نزلت فى رمية النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر... وسياق الآية فى سورة الأنفال فى قصة بدر لا محالة، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم.
والمعنى: إنكم - أيها المؤمنون - لم تقتلوا المشركين فى بدر بقوتكم وشجاعتكم، ولكن الله - تعالى - هو الذى أظفركم بحوله وقوته، بأن خذلهم، وقذف فى قلوبهم الرعب، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، ومنحكم من معونته ورعايته ما بلغكم هذا النصر.
والفاء فى قوله: { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ... } يرى صاحب الكشاف أنها جواب شرط محذوف تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمْ } لأنه هو الذى أنزل الملائكة، وألقى الرعب فى قلوبهم، وشاء النصر والظفر وأذهب عن قلوبكم الفزع والجزع.
وقوله: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } خطاب للنبى - صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين.
أى: { وَمَا رَمَيْتَ } بالرعب فى قلوب الأعداء { إِذْ رَمَيْتَ } فى وجوههم بالحصباء يوم بدر { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ } - تعالى - هو الذى { رَمَىٰ } بالرعب فى قلوبهم فهزمهم ونصركم عليهم.
أو المعنى: ما أوصلت الحصبا إلى أعينهم إذ رميتهم بها، ولكن الله هو الذى أوصلها إليها.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة الكريمة: يعنى أن الرمية التى رميتها - يا محمد - لم ترمها أنت على الحقيقة، لأنك لو رميتها ما بلغ أثرها إلا ما يبلغه أثر رمى البشر، ولكنها كانت رمية الله، حيث أثرت ذلك الأثر العظيم.. فأثبت الرمية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن صورتها وجدت منه، ونفاها عنه، لأن أثرها الذى لا تطيقه البشر فعل الله - عز وجل -، فكان الله - تعالى - هو فاعل الرمية على الحقيقة، وكأنها لم توجد من الرسول - صلى الله عليه وسلم - أصلا.
وقال الآلوسى: واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه - تعالى - وإنما لهم كسبها ومباشرتها وقال الإِمام: أثبت - سبحانه - كونه - صلى الله عليه وسلم - راميا، ونفى كونه راميا، فوجب حمله على أنه - صلى الله عليه وسلم - رمى كسبا، والله - تعالى - رمى خلقا.
فإن قيل: لماذا ذكر مفعول القتل منفياً ومثبتاً ولم يذكر للرمى مفعول قط؟
فالجواب - كما يقول أبو السعود -: "أن المقصود الأصلى بيان حال الرمى نفيا وإثباتا، إذ هو الذى ظهر منه ما ظهر، وهو المنشأ لتغير المرمى به فى نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عينى كل واحد من أولئك الأمة الجمة شئ من ذلك.
وقوله - سبحانه -: { وَلِيُبْلِيَ ٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاۤءً حَسَناً } بيان لبعض وجوه حكمته - سبحانه - فى خذلان الكافرين، ونصر المؤمنين.
وقوله { لِيُبْلِيَ } من البلاء بمعنى الاختبار. وهو يكون بالنعمة لإِظهار الشكر، كما يكون بالمحنة لإِظهار الصبر. والمراد به هنا: الإِحسان والنعمة والعطاء، ليزداد المؤمنون شكراً لربهم الذى وهبهم ما وهب من نعم.
واللام للتعليل متعلقة بمحذوف مؤخر.
والمعنى، ولكى يحسن - سبحانه - إلى عباده المؤمنين، وينعم عليهم بالنصر والغنائم، ليزدادوا شكراً له، فعل ما فعل من خذلان الكافرين وإذلالهم.
وقوله { إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } تذييل قصد به الحض على طاعة الله، والتحذير من معصيته، أى: إن الله سميع لأقوالكم ودعائكم، عليم بضمائركم وقلوبكم، فاستبقوا الخيرات لتنالوا المزيد من رعايته ونصره.
ثم يقرر - سبحانه سنة من سننه التى لا تتخلف، وهى تقوية الحق وتوهين الباطل. وليزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم، وثباتا على ثباتهم فيقول: { ذٰلِكُمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ ٱلْكَافِرِينَ }.
قال الإِمام الرازى: قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { موهن } - بفتح الواو وتشديد الهاء والتنوين. من التوهين. تقول وهنت الشئ أى ضعفته -، { كيد } بالنصب على المفعولية. وقرأ حفص عن عاصم { موهن كيد } بالإضافة. وقرأ الباقون { موهن } بالتخفيف، - من أوهننه فأنا موهنه بمعنى أضعفته - { وكيد } بالنصب وتوهين الله كيدهم ومكرهم يكون بأشياء منها: إطلاع المؤمنين على عوراتهم، وإلقاء الرعب فى قلوبهم، وتفريق كلمتهم.
واسم الإِشارة { ذٰلِكُمْ } يعود إلى ما سبق من نعمة الإِبلاء والقتل والرمى وغير ذلك من النعم. وهو مبتدأ وخبره محذوف. وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُوهِنُ... } معطوف عليه.
المعنى: ذلكم الذى منحته إياكم من العطاء الحسن، والقتل للمشركين، والإِمداد بالملائكة، وإنزال الماء عليكم. ذلكم كله نعم منى إليكم، ويضاف إلى ذلك كله أنه - سبحانه - مضعف لكيد الكافرين ومفسد لمكرهم بكم.
قال ابن كثير: وهذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنهم فى تبار ودمار" وبعد أن ذكر - سبحانه - عباده المؤمنين بما حباهم به من منن فى غزوة بدر، ليستمروا على طاعتهم له ولرسوله.. أتبع ذلك بتوجيه الخطاب إلى الكافرين الذين حملهم الرسوخ فى الكفر على أن يدعو الله أن يجعل الدائرة فى بدر على أضل الفريقين فقال - تعالى -: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ }.
روى الإِمام أحمد والنسائى والحاكم وصححه، عن ثعلبة، أن أبا جهل قال حين التقى القوم - فى بدر -: اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه - أى فأهلكه - الغداة. فكان المستفتح.
وعن السدى أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أهدى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ... } الآية.
قال الراغب: وقوله: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ... } أى: إن طلبتم الظفر، أو طلبتم الفتاح أى الحكم.. والفتح إزالة الإِغلاق والإِشكال.. ويقال: فتح القضية فتاحا. أى فصل الأمر فيها وأزال الإِغلاق عنها. قال - تعالى -:
{ رَبَّنَا ٱفْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِٱلْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْفَاتِحِينَ } }. والاستفتاح: الاستنصار - أى طلب النصر - قال - تعالى - { { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ... } }. والمعنى: إن تطلبوا الفتح أى: القضاء والفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين { فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } أى: فقد جاءكم الفصل والقضاء فيما طلبتم حيث حكم الله وقضى بينكم وبين المؤمنين، بأن أعزهم ونصرهم لأنهم على الحق، وخذلكم وأذلكم لأنكم على الباطل.
فالخطاب مسوق للكفارين على سبيل التهكم بهم، والتوبيخ لهم، حيث طلبوا من الله - تعالى - القضاء بينهم وبين المؤمنين، والنصر عليهم، فكان الأمر على عكس ما أرادوا حيث حكم الله فيهم بحكمه العادل وهو خذلانهم لكفرهم وجحودهم، وإعلاء كلمة المؤمنين، لأنهم على الطريق القويم.
وقوله: { وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أى: وأن تنتهوا عن الكفر وعداوة الحق، يكن هذا الانتهاء خيراً لكم من الكفر ومحاربة الحق.
وقوله: { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ... } تحذير لهم من التمادى فى الباطل بعد ترغيبهم فى الانقياد للحق.
أى: { وَإِن تَعُودُواْ } إلى محاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين وعداوتهم { نَعُدْ } عليكم بالهزيمة والذلة. وعلى المؤمنين بالنصر والعزة، ولن تستطيع فئتكم وجماعتكم - ولو كثرت - أن تدفع عنكم شيئاً من تلك الهزيمة وهذه الذلة، فإن الكثرة والقوة لا وزن لها ولا قيمة إذا لم يكن الله مع أصحابها بعونه وتأييده.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تذييل قصد به تثبيت المؤمنين، وإلقاء الطمأنينة فى نفوسهم.
أى: وأن الله مع المؤمنين بعونه وتأييده، ومن كان الله معه فلن يغلبه غالب مهما بلغت قوته.
قال الجمل: "قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بفتح "أن" والباقون بكسرها فالفتح من أوجه:
أحدها: أنه على لام العلة والمعلل تقديره، ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت.
والثانى: أن التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث أنه خبر مبتدأ محذوف. أى: والأمر أن الله مع المؤمنين.
والوجه الأخير يقرب فى المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف.
هذا وما جرينا عليه من أن الخطاب فى قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ.. } للمشركين هو رأى جمهور المفسرين.
ومنهم من يرى أن الخطاب فى الآية الكريمة للمؤمنين، وعليه يكون المعنى: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ... } أى تطلبوا - أيها المؤمنون - النصر على أعدائكم { فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ } أى: فقد جاءكم النصر من عند الله كما طلبتم.
{ وَإِن تَنتَهُواْ } أى عن المنازعة فى أمر الانفال، وعن التكاسل فى طاعة الله ورسوله، { فَهُوَ } أى هذا الانتهاء { خَيْرٌ لَّكُمْ }.
{ وَإِن تَعُودُواْ } إلى المنازعات والتكاسل { نَعُدْ } عليكم بالإِنكار وتهييج الأعداء.
{ وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أى: ولن تفيدكم كثرتكم شيئاً مهما كثرت إن لم يكن الله معكم بنصره.
وأن الله - تعالى - مع المؤمنين الصادقين فى إيمانهم وطاعتهم له.
والذى يبدو لنا أن كون الخطاب للكافرين أرجح، لأن أسباب النزول تؤيده، فقد سبق أن بينا أن الكافرين عند خروجهم إلى بدر تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر اهدى الجندين.. وأن أبا جهل قال حين التقى القوم:
اللهم أينا أقطع للرحم.. فأحنه الغداة. قال ابن جرير: فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله فى ذلك { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ ٱلْفَتْحُ.. }.
ولعل مما يرجح أن الخطاب فى قوله - تعالى - { إِن تَسْتَفْتِحُواْ... } للكافرين، أن بعض المفسرين - كابن جرير وابن كثير - ساروا فى تفسيرهم للآية على ذلك، وأهملوا الرأى القائل بأن الخطاب للمؤمنين فلم يذكروه أصلا.
أما صاحب الكشاف فقد ذكره بصيغة "وقيل" وصدر كلامه بكون الخطاب للكافرين فقال: قوله - تعالى -: { إِن تَسْتَفْتِحُواْ.. } خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم. وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف، وأوصلنا للرحم، وأفكنا للعانى..."
وبذلك نرى هذه الآيات الكريمة التى افتتحت بنداء المؤمنين، قد أمرتهم بالثبات عند لقاء الأعداء.. وبينت لهم جوانب من مظاهر فضل الله عليهم، ورعايته لهم.. ورغبت المشركين فى الانتهاء عن شركهم وعن محاربتهم للحق، وحذرتهم من التمادى فى باطلهم وطغيانهم.. وأخبرتهم فى ختامها بأن الله - تعالى - مع المؤمنين بتأييده ونصره.
ثم وجهت السورة الكريمة نداء ثانياً إلى المؤمنين، أمرتهم بطاعة الله ورسوله، ونهتهم عن التشبه بالكافرين وأمثالهم من المنافقين.
فقال - تعالى -: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ...وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ }.