خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ
٣١
وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٢
وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
٣٣
وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٣٤
وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ
٣٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ
٣٦
لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٣٧
قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ
٣٨
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣٩
وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ
٤٠
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال ابن كثير: "عن ابن عباس فى قوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أنه قال: تشاورت قريش ليلة بمكة - فى شأن النبى - صلى الله عليه وسلم، وذلك بعد أن رأوا أمره قد اشتهر، وأن غيرهم قد آمن به - فقال بعضهم إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق. وقال بعضهم بل اقتلوه. وقال بعضهم بل أخرجوه. ثم اتفقوا أخيرا على قتله -، فأطلع الله تعالى نبيه على ذلك، وأمره أن لا يبيت فى مضجعه، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - عليا أن يبيت مكانه ففعل وخرج النبى - صلى الله عليه وسلم - حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليا يحسبونه النبى - صلى الله عليه وسلم - فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليا قالوا له أين صاحبك؟ قال: لا أدرى. فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا فى الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو دخل هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال" .
وقد ذكر ابن كثير وغيره روايات أخرى تتعلق بهذه الآية، إلا أننا نكتفى بهذه الرواية، لإفادتها بالمطلوب فى موضوعنا، ولأن غيرها قد اشتمل على أخبار أنكرها بعض المحققين، كما أنكرها ابن كثير نفسه.
وقوله: { وَإِذْ يَمْكُرُ.. } تذكير من الله - تعالى - لنبيه وللمؤمنين ببعض نعمه عليهم، حيث نجى نبيه - صلى الله عليه وسلم - من مكر المشركين حين تآمروا على قتله وهو بينهم بمكة.
قال ابن جرير: أنزل الله على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد قدومه المدينة سورة الأنفال، يذكره نعمه عليه - ومن ذلك قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } الآية.
وقوله { يَمْكُرُ } من المكر، وهو - كما يقول الراغب - صرف الغير عما يقصده بحيلة وذلك ضربان: مكر محمود وذلك أن يتحرى بمكره فعلا جميلا ومنه قوله - تعالى - { وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ }. ومكر مذموم، وهو أن يتحرى بمكره فعلا قبيحا، ومنه قوله - تعالى - { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } وقال - سبحانه - وتعالى - فى الأمرين:
{ { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } }. وقوله: "ليثبتوك" أى ليحبسوك. يقال أثبته إذا حبسته.
والمعنى: واذكر - يا محمد - وقت ان نجيتك من مكر أعدائك، حين تآمروا عليك وأنت بين اظهرهم فى مكة، لكى { يُثْبِتُوكَ } أى: يحسبوك فى دارك، فلا تتمكن من لقاء الناس ومن دعوتهم إلى الدين الحق { أَوْ يَقْتُلُوكَ } بواسطة مجموعة من الرجال الذين اختلفت قبائلهم فى النسب، حتى يتفرق دمك فيهم فلا تقدر عشيرتك على الأخذ بثأرك من هذه القبائل المتعددة.. { أَوْ يُخْرِجُوكَ } أى: من مكة منفيا مطاردا حتى يحولوا بينك وبين لقاء قومك.
وقوله: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } بيان لموضع النعمة والمنة، أى: والحال أن هؤلاء المشركين يمكرون بك وبأتباعك المكر السئ، والله - تعالى - يرد مكرهم فى نحورهم، ويحبط كيدهم، ويخيب سعيهم، ويعاقب عليه عقابا شديداً، ويدبر أمرك وأمر أتباعك، ويحفظكم من شرورهم، فهو - سبحانه - أقوى الماكرين، وأعظمهم تأثيرا، وأعلمهم بما يضر منه وما ينفع.
قال الآلوسى: قوله { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } أى: برد مكرهم ويجعل وخامته عليهم، أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين، وذلك بأن أخرجهم إلى بدر، وقلل المسلمين فى أعينهم حتى حملوا فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد.
{ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ } إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره - سبحانه - وإطلاق هذا المركب الإِضافى عليه - تعالى - إن كان باعتبار أن مكره - سبحانه - أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإِضافة للتفضيل، لأن لمكر الغير - أيضا نفوذا أو تأثيراً فى الجملة.. وإن كان باعتبار أنه - سبحانه - لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا ما يستوجب الممكور به، فلا شركة لمكر الغير فيه، وتكون الإِضافة حينئذ للاختصاص، لانتفاء المشاركة..
هذا والصورة التى يرسمها قوله - تعالى -: { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ } صورة عميقة التأثير، ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون، والله من ورائهم محيط، ويمكر بهم ويبطل كيدهم وهم لا يشعرون.
إنها صورة ساخرة، وهى فى الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة... قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شئ محيط؟
والتعبير القرآنى يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة فى التصوير، فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور".
ثم حكى القرآن بعد ذلك جانبا من الدعاوى الكاذبة التى تفوه بها المشركون فقال - تعالى - { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ }.
وقد ذكر كثير من المفسرين
"أن القائل لهذا القول: النضر بن الحارث؛ فإنه كان قد ذهب إلا بلاد فارس فأحضر منها قصصاً عن ملوكهم.. ولما قدم مكة ووجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو القرآن قال للمشركين: لو شئت لقلت مثل هذا، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا قام من مجلس، جاء بعده النضر فجلس فيه وحدث المشركين بأخبار ملوك الفرس والروم، وغيرهم ثم قال: أينا أحسن قصصا؟ أنا أو محمد؟ وقد أمكن الله منه يوم بدر، فقد أسره المقداد بن عمرو، فأمر النبى - صلى الله عليه وسلم - بضرب عنقه وقال فيه: إنه كان يقول فى كتاب الله - عز وجل - ما يقول" .
وأسند - سبحانه - قول النضر إلى جميع المشركين، لأنهم كانوا راضين بقوله، ولأنه كان من زعمائهم الذين يقودونهم إلى طريق الغواية.
والأساطير - كما يقول ابن جرير -: جمع أسطر، وهو جمع الجمع، لأن واحد الأسطر سطر. ثم يجمع السطر: أسطر وسطور، ثم يجمع الأسطر أساطير وأساطر. وقد كان بعض أهل العربية يقول: واحد الأساطير: أسطورة - كأحاديث وأحدوثة.
والمراد بها: تلك القصص والحكايات التى كتبها الكاتبون عن القدامى، والتى يغلب عليها طابع الخرافة والتخيلات التى لا حقيقة لها.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم الكذب والتمادى فى الطغيان، أنهم كانوا إذا تتلى عليهم آيات الله { قَالُواْ } بصفاقة ووقاحة: { قَدْ سَمِعْنَا } أى: قد سمعنا ما قرأته علينا - يا محمد - ووعيناه { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } أى لو نشاء لقلنا مثل هذا القرآن الذى تتلوه علينا يا محمد وما هو إلا من قصص الأولين وحكاياتهم التى سطرها بعضهم عنهم وليس من عند الله - تعالى -.
ولا شك أن قولهم هذا يدل على تعمدهم الكذب على أنفسهم وعلى الناس فإن هذا القرآن - الذى زعموا أنهم لو شاءوا لقالوا مثله - قد تحداهم فى نهاية المطاف أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وانقلبوا خاسرين.
والذى نعتقده أن قولهم هذا، ما هو إلا من قبيل الحرب النفسية التى كانوا يشنونها على الدعوة الإِسلامية، بقصد تضليل البسطاء، والوقوف فى وجه تأثير القرآن فى القلوب، ومحاولة طمس معالم الحق ولو إلى حين.
ولكنهم لم يفلحوا. فإن نور الحق لا تحجبه الشبهات الزائفة، ولا يعدم الحق أن يجد له أنصاراً حتى من أعدائه، يكفى هنا أن نستشهد بما قاله الوليد بن المغيرة فى وصف القرآن الكريم: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن اسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر.. وما يقول هذا بشر".
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لقوله - تعالى - { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا... }: نفاجة منهم وصلف تحت الراعدة، فإنهم لم يتوانوا فى مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة، وإلا فما منعهم إن كانوا مستطيعين أن يشاؤوا غلبة من تحداهم وقرعهم بالعجز حتى يفوزوا بالقدح المعلى دونه، مع فرط أنفتهم، واستنكافهم أن يغلبوا فى باب البيان خاصة..."
ثم تمضى السورة فى حديثها عن رذائل مشركى قريش، فتحكى لونا عجيبا من ألوان عنادهم، وجحودهم للحق. فتقول: { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }..
وقائل هذا القول: النضر بن الحارث صاحب القول السالف { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا... } ذكر ذلك عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير.
وأخرج البخارى عن أنس بن مالك أن قائل ذلك: أبو جهل بن هشام. وأخرجه ابن جرير عن ابن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض: أأكرم الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين قد بلغ بهم العناد والجحود أنهم لم يكتفوا بإنكار أن القرآن من عند الله، وأن محمدا قد جاءهم بالحق.. بل أضافوا إلى ذلك قولهم: اللهم إن كان هذا الذى جاءنا به محمد من قرآن وغيره هو الحق المنزل من عندك، فعاقبنا على إنكاره والكفر به، بأن تنزل علينا حجارة من السماء تهلكنا. أو تنزل علينا عذابا أليما يقضى علينا.
قال الجمل: قوله: { هُوَ ٱلْحَقَّ } قرأ العامة "الحق" بالنصب على أنه خبر الكون ولفظ { هُوَ } للفصل. وقرأ الأعمش وزيد بن على "الحق" بالرفع ووجهها ظاهر برفع لفظ "هو" على الابتداء، والحق خبره، والجملة خبر الكون.
وفى إطلاقهم { ٱلْحَقَّ } على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله من عند الله؛ تهكم بمن يقول ذلك سواء أكان هذا القائل - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو المؤمنين.
وأل فيه للعهد: أى الحق الذى ادعى محمد أنه جاء به من عند الله.
وقوله: { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } متعلق بمحذوف صفة لقوله { حِجَارَةً } وفائدة هذا الوصف الدلالة على أن المراد بها حجارة معينة مخصوصة لتعذيب الظالمين.
قال صاحب الكشاف: وهذا أسلوب من الجحود بليغ. يعنى إن كان القرآن هو الحق فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر.. ومرادهم نفى كونه حقا، وإذا انتفى كونه حقا لم يستوجب منكره عذابا، فكان تعليق العذاب بكونه حقا، مع اعتقاد أنه ليس بحق كتعليقه بالمحال فى قولك: إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة من السماء.
فإن قلت: ما فائدة قوله { مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } والأمطار لا تكون إلا منها؟
قلت: كأنهم يريدون أن يقولوا: فأمطر علينا السجيل وهى الحجارة المسومة للعذاب، فوضع حجارة من السماء موضع السجيل.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة، فقال الرجل: أجهل من قومى قومك، فقد قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دعاهم إلى الحق: { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ... } ولم يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
ولقد كان هذا الرجل حكيما فى رده على معاوية، لأنه كان الأولى بأولئك المشركين أن يقولوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه.. ولكن العناد الجامح الذى استولى عليهم جعلهم يؤثرون الهلاك على الإِذعان للحق ويفضلون عبادة الأصنام على اتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - الذى دعاهم إلى عبادة الله وحده.. وهكذا النفوس عندما تنغمس فى الأحقاد وتتمادى فى الجحود. وتنقاد للأهواء والشهوات، وتأخذها العزة بالإِثم. ترى الباطل حقا، والحق باطلا، وتؤثر العذاب وهى سادرة فى باطلها، على الخضوع للحق والمنطق والصواب.
ثم تعقب السورة على هذا الدعاء الغريب الذى حكته عن مشركى مكة، فتبين الموجب لإِمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }.
أى: وما كان الله مريداً لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذيب استئصال وإهلاك، وأنت مقيم فيهم - يا محمد - بمكة، فقد جرت سنته - سبحانه - ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين.
واللام فى قوله { لِيُعَذِّبَهُمْ } لتأكيد النفى، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم غير مستقيم فى الحكمة.
والمراد بالاستغفار فى قوله: { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } استغفار من بقى بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبى - صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
أى: ما كان الله مريداً لتعذيبهم وأنت فيهم - يا محمد - وما كان - أيضا - مريداً تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله، وهم الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك فى المدينة.
قالوا: ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله - تعالى - فى آية أخرى: { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أى: لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما.
وأسند - سبحانه - الاستغفار إلى ضمير الجميع، لوقوعه فيما بينهم، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل. كما يقال: قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم.
ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور: استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم: غفرانك. فى طوافهم بالبيت، أو ما يشبه ذلك من معانى الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه - سبحانه - يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة.
ويرجع ابن جرير أن المراد بقوله: { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء: وأولى هذه الأقوال عندى بالصواب قول من قال: تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه، فهم للعذاب مستحقون..."
قال بعض المحققين: والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.
ثم قال: روى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -
"أنزل الله على أمَانَينِ لأمتى { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ... } الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة" .
قال ابن كثير: ويشهد لهذا ما رواه الإِمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم. فقال الله - تعالى - فبعزتى وجلالى لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى" .
ثم بين - سبحانه - بعض الجرائم التى ارتكبها المشركون، والتى تجعلهم مستحقين لعذاب الله، فقال - تعالى -: { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ ٱللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }.
والمعنى: وأى شئ يمنع من عذاب مشركى قريش بعد خروجك - يا محمد - وخروج المؤمنين المستضعفين من بين أظهرهم؟ إنه لا مانع أبدا من وقوع العذاب عليهم وقد وجد مقتضيه منهم، حيث اجترحوا من المنكرات والسيئات ما يجعلهم مستحقين للعقاب الشديد.
فالاستفهام فى قوله { وَمَا لَهُمْ.. } إنكارى بمعنى النفى. أى: لا مانع من تعذيب الله لهم وقوله { وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } جملة حالية مبينة لجريمة من جرائمهم الشنيعة، أى: لا مانع يمنع من تعذيبهم: وكيف لا يعذبون وحالهم أنهم يمنعون المؤمنين عن الطواف بالمسجد الحرام، ومن زيارته. ومن مباشرة عباداتهم عنده..؟ إنهم لا بد أن يعذبوا على هذه الجرائم.
ولقد أوقع الله بهم عذابه فى الدنيا: ومن ذلك ما حدث لهم يوم بدر من قتل صناديدهم ومن أسر وجهائهم.
وأما عذابهم فى الآخرة فهو أشد وأبقى من عذابهم فى الدنيا.
وقوله: { وَمَا كَانُوۤاْ أَوْلِيَآءَهُ } رد على ما كانوا يقولونه بالباطل: نحن ولاة البيت الحرام، فلنا أن نصد من نشاء عن دخوله، ولنا أن نبيح لمن نشاء دخوله.
أى: إن هؤلاء المشركين ما كانوا فى يوم من الأيام أهلا لولاية البيت الحرام بسبب شركهم وعداوتهم - لله تعالى - رب هذا البيت.
وقوله { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بيان للمستحقين لولاية البيت الحرام، بعد نفيها عن المشركين.
أى: إن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا لولاية البيت الحرام، وليسوا أهلا لأن يكونوا أولياء لله - تعالى - بسبب كفرهم وجحودهم، وإنما المستحقون لذلك هم المتقون الذين صانوا أنفسهم عن الكفر وعن الشرك وعن كل ما يغضب الله، ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون ذلك بسبب جهلهم وتماديهم فى الجحود والضلال.
وقد جاءت جملة { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ ٱلْمُتَّقُونَ } مؤكدة بأقوى ألوان التأكيد، لنفى كل ولاية على البيت الحرام سوى ولايتهم هم.
ونفى - سبحانه - العلم عن أكثر المشركين، لأن قلة منهم كانت تعلم أنه لا ولاية لها على المسجد الحرام ولكنها كانت تجحد ذلك عناداً وغروراً. أو أن المراد بالأكثر الكل، لأن للأكثر حكم الكل فى كثير من الأحكام، كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم.
ثم حكى - سبحانه - لونا آخر من ألوان ضلال هؤلاء المشركين وجحودهم فقال: { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ ٱلْبَيْتِ إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ }.
وقال القرطبى ما ملخصه: قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة، يصفقون ويصفرون، فكان ذلك عبادة فى ظنهم.
والمكاء: الصفير. يقال مكا يمكو مكوا ومكاء إذا صفر.
والتصدية: التصفيق. يقال: صدى يصدى تصدية إذا صفق.
قال قتادة: المكاء: ضرب بالأيدى، والتصدية: الصياح.
والمعنى: أن هؤلاء المشركين لم تكن صلاتهم عند البيت الحرام إلا تصفيقا وتصفيراً، وهرجا ومرجا لاوقار فيه، ولا استشعار لحرمة البيت، ولا خشوع لجلاله الله - تعالى -، وذلك لجلهلهم بما يجب عليهم نحو خالقهم، ولحرصهم على أن يسيئوا إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ القرآن، أو وهو يطوف بالبيت، أو وهو يؤدى شيئا من شعائر الإِسلام وعباداته. فقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا إذا سمعوا القرآن رفعوا أصواتهم بالصياح والغناء ليمنعوا الناس من سماعه. قال - تعالى -:
{ { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْفِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } }. وروى ابن جرير أن ابن عمر حكى فعلهم، فصفر، وأمال خده وصفق بيديه.
وقال مجاهد إنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبى - صلى الله عليه وسلم - صلاته.
وعن سعيد بن جبير: كانت قريش يعارضون النبى - صلى الله عليه وسلم - فى الطواف يستهزئون به، يصفرون ويصفقون.
وقال الفخر الرازى: فإن قيل المكاء والتصدية ما كانا من جنس الصلاة فكيف جاز استثناؤهما من الصلاة؟
قلنا: فيه وجوه: الأول: أنهم كانوا يعتقدون أن المكاء والتصدية من جنس الصلاة فخرج هذا الاستثناء على حسب، معتقدهم.
الثانى: أن هذا كقولك: وددت الأمير فجعل جفائى صلتى. أى: أقام الجفاء مقام الصلة فكذا هنا.
الثالث: الغرض منه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له. كما تقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء. يريد من كان السخاء عيبه فلا عيب له.
وقوله: { فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } وعيد لهم على كفرهم وجحودهم، واستهزائهم بشعائر الله.
أى: فذوقوا - أيها الضالون - العذاب الشديد بسبب كفركم وعنادكم واستهزائكم بالحق الذى جاءكم به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله، ثم حكى - سبحانه - ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا فى الخير ولكن فى الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.. }.
روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهرى وغيره قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلُّهم - أى جيشهم المهزوم - إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل، وصفوان بن أمية فى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم فى بدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب، ومن كانت له فى تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا. ففلعوا. قال: ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - تعالى - { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ.. } الآية.
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: نزلت فى أبى سفيان بن حرب، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة، فقاتل بهم النبى - صلى الله عليه وسلم -:
وروى عن الكلبى والضحاك ومقاتل أنها نزلت فى المطعمين يوم بدر، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش... كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر.
قال ابن كثير: وعلى كل تقدير فهى عامة وإن كان سبب نزولها خاصا.
أى: أن الآية الكريمة تتناول بوعيدها كل من يبذل أمواله فى الصد عن سبيل الله، وفى تأييد الباطل ومعارضة الحق.
المعنى: أن الذين كفروا بالحق لما جاءهم { يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } لافى جوه الخير، وإنما ينفقونها { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } أى: ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول فى الدين الذى يوصلهم إلى رضا الله وإلى طريقه القويم.
واللام فى قوله: { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول فى دين الله الذى جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم -، والذى يرونه ديناً مخالفاً لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته فى زعمهم.
وقوله: { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ... } بيان لما سيؤول إليه أمرهم فى الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة.
أى: فسينفقون هذه الأموال فى الشرور والعدوان، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم، لأنهم لم يصلوا - ولن يصلوا - من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون. وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإِذلال فى الدنيا، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر فى النهاية لأتباع الحق لالأتباع الباطل.
وقوله: { فَسَيُنفِقُونَهَا } خبر إن فى قوله { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ.. } واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى.
وفى تكرير الإِنفاق فى شبه الشرط والجزاء، إشعار بكمال سوء إنفاقهم، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم فى خير أو ما يشبه الخير، وإنما أنفقوها فى الشرور المحضة.
وجاء العطف بحرف { ثُمَّ } للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم. فهم قد قصدوا بنفقتهم الوقوف فى وجه الحق والانتصار على المؤمنين.. ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح، فقد ذهبت أموالهم سدى، وغلبوا المرة بعد المرة، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين.
وقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } بيان لسوء مصيرهم فى الآخرة، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم فى الدنيا.
أى: أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة فى الدنيا، أما فى الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها.
وقوله: { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ... } بيان لحكمته - سبحانه - فى هزيمة الكافرين وحشرهم إلى جهنم.
وقوله: { فَيَرْكُمَهُ } أى: فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض يقال: ركم الشئ يركمه، إذا جمعه وألقى بعضه على بعضه. وارتكم الشئ وتراكم أى: اجتمع.
والمعنى: أنه - سبحانه - فعل ما فعل من خذلان الكافرين وحشرهم إلى جهنم، ومن تأييد المؤمنين وفوزهم برضوانه، ليتميز الفريق الخبيث وهو فريق الكافرين، من الفريق الطيب وهو فريق المؤمنين، فإذا ما تمايزوا جعل - سبحانه - الفريق الخبيث منضما بعضه على بعض، فيلقى به فى جهنم جزاء خبثه وكفره. واللام فى قوله { لِيَمِيزَ } متلعقة بقوله { يُغْلَبُونَ } أو بقوله { يُحْشَرُونَ } ويجوز أن يكون المراد بالخبيث ما أنفقه الكافرون من أموال للصد عن سبيل الله، وبالطيب ما أنفقه المؤمنون من أموال لإِعلاء كلمة الله.
وعليه تكون اللام فى قوله { لِيَمِيزَ } متعلقة بقوله: { ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً } أى: أنه - سبحانه - يميز هذه الأموال بعضها من بعض، ثم يضم الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض، فيلقى بها وبأصحابها فى جهنم.
والتعبير بقوله - سبحانه - { فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً } تعبير مؤثر بليغ، لأنه يصور الفريق الخبيث كأنه لشدة تزاحمه وانضمام بعضه إلى بعض شئ متراكم مهمل، يقذف به فى النار بدون اهتمام أو اعتبار.
واسم الإِشارة فى قوله: { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } يعود إلى هذا الفريق الخبيث، أى: أولئك الكافرون الذين أنفقوا أموالهم فى الصد عن سبيل الله هم الخاسرون لدنياهم وآخرتهم.
وبعد كل هذا التهديد والوعيد للكافرين.. يوجه - سبحانه - خطابه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - يأمره فيه أن يبلغهم حكم الله إذا ما انتهوا عن كفرهم، كما يأمر المؤمنين أن يقاتلوهم حتى تكون كلمة الله هى العليا، فيقول - سبحانه -: { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ }.
أى: { قُل } يا محمد لهؤلاء الذين كفروا بالحق لما جاءهم، من أهل مكة وغيرهم، قل لهم: { إِن يَنتَهُواْ } عن كفرهم وعداوتهم للمؤمنين { يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } من كفرهم ومعاصيهم { وَإِنْ يَعُودُواْ } إلى قتالك ويستمروا فى ضلالهم وكفرهم وطغيانهم، انتقمنا منهم، ونصرنا المؤمنين عليهم { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } على ذلك.
أى: فقد مضت سنة الله - تعالى - فى الأولين، وسنته لا تتخلف فى أنه - سبحانه - يعذب المكذبين بعد إنذارهم وتبليغهم دعوته، وينصر عباده المؤمنين وينجيهم ويمكن لهم فى الأرض. وقد رأى هؤلاء المشركون كيف كانت عاقبة أمرهم فى بدر، وكيف أهلك - سبحانه - الكافرين من الأمم قبلهم.
وجواب الشرط لقوله { وَإِنْ يَعُودُواْ } محذوف والتقدير: وإن يعودوا ننتقم منهم.
وقوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } تعليل للجواب المحذوف.
قال الآلوسى: قوله { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أى عادة الله الجارية فى الذين تحزبوا على الأنبياء، من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة. ونظير ذلك قوله - سبحانه -
{ { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته لقوله - سبحانه - { { وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً } باعتبار جريانها على أيديهم. ويدخل فى الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر.
والآية حث على الإِيمان وترغيب فيه.. واستدل بها على أن الإِسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو وصوم أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى المالكية ذلك كله فى المرتد إذا تاب لعموم الآية..."
وقوله: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله... } أمر من الله - تعالى - للمؤمنين بقتال الكافرين إذا ما استمروا فى كفرهم وطغيانهم.
والمعنى: عليكم - أيها المؤمنون - إذا ما استمر أولئك الكافرون فى كفرهم وعدوانهم، أن تقاتلوهم بشدة وغلظة، وأن تستمروا فى قتالهم حتى تزول صولة الشرك، وحتى تعيشوا أحرارا فى مباشرة تعاليم دينكم، دون أن يجرؤ أحد على محاولة فتنتكم فى عقيدتكم أو عبادتكم.. وحتى تصير كلمة الذين كفروا هى السفلى.
قال الجمل: وقوله: { وَقَاتِلُوهُمْ... } معطوف على قوله { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ }. ولكن لما كان الغرض من الأول التلطف بهم وهو وظيفة النبى وحده جاء بالإفراد. ولما كان الغرض من الثانى تحريض المؤمنين على القتال جاء بالجمع فخوطبوا جميعا.
وقوله { فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أى: فإن انتهوا عن كفرهم وعن معاداتكم، فكفوا أيديكم عنهم، فإن الله - تعالى - لا يخفى عليه شئ من أعمالهم، وسيجازيهم عليها بما يستحقون من ثواب أو عقاب.
وقوله { وَإِن تَوَلَّوْاْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } بشارة منه - سبحانه - للمؤمنين بالنصر والتأييد.
أى: وإن أعرضوا عن الإِيمان ولم ينتهوا عن الكفر والطغيان { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَوْلاَكُمْ } أى: ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بولايته ونصرته، فهو - سبحانه - { نِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } لأنه لا يضيع من تولاه، ولا يهزم من نصره.
وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد فتحت الباب للكافرين حتى يفيئوا إلى رشدهم، وينتهوا عن كفرهم، وبشرتهم بأنهم إذا فعلوا ذلك غفر الله لهم ما سلف من ذنوبهم.. أما إذا استمروا فى كفرهم ومعاداتهم للحق، فقد أمر الله عباده المؤمنين بقتالهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله..
أى أن القتال فى الإِسلام شرعه الله - تعالى - من أجل إعلاء كلمته ومن أجل رفع الأذى والفتنة والعدوان عمن يعتنقون دينه وشريعته.
هذا، وقد ساق ابن كثير عند تفسيره الآيات جملة من الأحاديث التى تشهد بأن القتال فى الإِسلام إنما شرعه الله - تعالى - لإعلاء كلمته، وليس لأجل الغنيمة أو السيطرة على الغير.. وأنه لا يجوز لمسلم أن يقتل إنسانا بعد نطقه بالشهادتين. فقال -رحمه الله -: وقوله - تعالى - { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ... }.
روى البخارى عن ابن عمر أن رجلا جاءه - فى فتنة ابن الزبير - فقال له يا أبا عبد الرحمن، ألا تصنع ما ذكره الله فى كتابه
{ { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } الآية. فما يمنعك من القتال؟ فقال يا ابن أخى لأن أعير بهذه الآية ولا أقاتل، أحب إلى من أن أعير بالآية التى تقول: { { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا } الآية.
فقال الرجل: فإن الله يقول: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } فقال ابن عمر: "قد فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإِسلام قليلا، فكان الرجل يفتن فى دينه: إما أن يقتلوه، وإما أن يوثقوه حتى كثر الإِسلام فلم تكن فتنة..
وعن سعيد بن جبير قال: خرج إلينا ابن عمر فقال له قائل: كيف ترى فى قتال الفتنة؟ فقال له ابن عمر وهل تدرى ما الفتنة؟ كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يقاتل المشركين، وكان الدخول عليهم فتنة، وليس بقتالكم على الملك.
وفى رواية أنه قال: قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله.
ثم قال ابن كثير: وقوله { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } أى؛ بقتالكم عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه وإن لم تعلموا بواطنهم { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }..
وفى الصحيح
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال الرجل لا إله إلا الله، فضربه فقتله فذكر ذلك للرسول - صلى الله عليه وسلم - فقال لأسامة: أقتلته بعد ما قال لا إله إلا الله؟ فكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ فقال: يا رسول الله إنما قالها تعوذا فقال. هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يقول ويكرر عليه من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة، قال أسامة: حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت إلا يومئذ" .
وبعد هذا الحديث المتنوع عن مكر الكافرين وعن دعاويهم الكاذبة، وعن وجوب مقاتلتهم إذا ما استمروا فى طغيانهم وعدوانهم.. بعد كل ذلك بين - سبحانه - للمؤمنين كيفية قسمة الغنائم التى كثيرا ما تترتب على قتال أعدائهم، فقال - تعالى -: { وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ... }.