خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٥٢
ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
٥٣
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ
٥٤
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والكاف فى قوله: { كَدَأْبِ }، للتشبيه، والجار والمجرور فى موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والدأب: أصله الدوام والاستمرار، يقال: دأب فلان على كذا يدأب دأباً - بفتح الهمزة - ودأباً - بسكونها - ودؤوباً، إذا دوام عليه وجد فيه، ثم غلب استعماله فى الحال والشأن والعادة، لأن الذى يستمر فى عمل أمدا طويلا يصير هذا العمل عادة من عاداته، وحالا من أحواله، فهو من باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم.
والآل - كما يقول الراغب - مقلوب عن الأهل، ويصغر على أهيل، إلا أنه خص بالإِضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات ودون الأزمنة والأمكنة يقال: آل فلان، ولا يقال: آل رجل، ولا يقال: آل الحجام.. بل يضاف إلى الأشرف والأفضل يقال: آل الله، وآل السلطان، والأهل يضاف إلى الكل، فيقال: أهل الله، وأهل الحجام، وأهل زمان كذا..
والمقصود بآل فرعون: هو وأعوانه وبطانته، لأن الآل يطلق على أشد الناس التصاقا واختصاص بالمضاف إليه.
والمعنى: شأن هؤلاء الكافرين الذين حاربوك يا محمد، والذين هلك منهم من هلك فى بدر، شأنهم وحالهم وعادتهم فيما اقترفوه من الكفر والعصيان وفيما فعل بهم من عذاب وخذلان، كشأن آل فرعون الذين استحبوا العمى على الهدى، والذين زينوا له الكفر والطغيان حتى صار عادته له ولهم، وقد أخذهم - سبحانه - أخذ عزيز مقتدر، بسبب كفرهم وفجورهم.
وقد خص - سبحانه - فرعون وآله بالذكر من بين الأمم الكافرة، لأن فرعون كان أشد الطغاة طغيانا، وأكثرهم غرورا وبطرا، وأكثرهم فى الاستهانة بقومه وفى الاحتقار لعقولهم وكيانهم.
ألم يقل لهم - كما حكى القرآن عنه -
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } }. وألم يبلغ به غروره أن يقول لهم: { { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَـٰذِهِ ٱلأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِيۤ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } أما آله وبطانته وأعوانه، فهم الذين زينوا له السوء، وحرضوه على البطش موسى لأنه جاءهم بالحق، ولقد حكى الله عنهم نفاقهم وضلالهم وانغماسهم فى الآثام فى آيات كثيرة، ومن ذلك قوله - تعالى -: { { وَقَالَ ٱلْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَآءَهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ } }. ولقد وصف الله - تعالى - قوم فرعون بهوان الشخصية، وتفاهة العقل، والخروج عن كل مكرمة فقال: { { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } وذلك لأن الأمة التى تترك الظالم وبطانته يعيثون فى الأرض فساداً، لا تستحق الحياة، ولا يكون مصيرها إلا إلى التعاسة والخسران.
وقوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } تفسير لصنيعهم الباطل، ودأبهم على الفساد والضلال.
والمراد بآيات الله: ما يعم المتلوة فى كتب الله - تعالى -، والبراهين والمعجزات الدالة على صدق الأنبياء فيما يبلغونه عن ربهم.
وفى إضافتها إلى الله: تعظيم لها وتشريف، وتنبيه إلى قوة دلالتها على الحق والخير.
وقوله: { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ } معطوف على قوله { كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } لبيان ما ترتب على كفرهم من عقوبات أليمة.
وفى التعبير بالأخذ إشارة إلى شدة العذاب، فهو - سبحانه - قد أخذهم كما يؤخذ الأسير الذى لا يستطيع الفكاك من آسره.
والباء فى قوله: { بِذُنُوبِهِمْ } للسببية أى كفروا بآيات الله فعاقبهم - سبحانه - بسبب كفرهم وفسوقهم عن أمره.
ويجوز أن تكون للملابسة، أى: أخذهم وهم ملتبسون بذنوبهم دون أن يثوبوا منها، أو يقلعوا عنها.
وعلى الوجهين فالجملة الكريمة تدل على كمال عدل الله - تعالى - لأنه ما عاقبهم إلا لأنهم استحقوا العقاب.
والمراد بذنوبهم: كفرهم وما ترتب عليه من فسوق وعصيان، وأصل الذنب: الأخذ بذنب الشئ أى بمؤخرته، ثم أطلق على الجريمة، لأن مرتكبها يعاقب بعدها.
وقوله: { إِنَّ ٱللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } تذييل مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ الشديد، بسبب الكفر والمعاصى.
أى: إن الله - تعالى - قوى لا يغلبه غالب، ولا يدفع قضاءه دافع، شديد عقابه لمن كفر بآياته، وفسق عن أمره.
وقوله: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ... } بيان لسنة من سننه - تعالى - فى خلقه، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار، ولسلب نعمه عنهم وعن أشباههم من العصاة والجاحدين واسم الإِشارة: { ذٰلِكَ } يعود إلى تعذيب الكفرة المعبر عنه بقوله - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ }.
وهو، أى: اسم الإِشارة مبتدأ وخبره قوله - سبحانه - { بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً.. } إلخ.
والمعنى: ذلك الذى نزل بهؤلاء الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهى، فقد جرت سنته - سبحانه - فى خلقه، واقتضت حكمته فى حكمه ألا يبدل نعمه بنقم إلا بسبب ارتكاب الذنوب، واجتراح السيئات، فإذا لم يتلق الناس نعمه - عز وجل - بالشكر والطاعة، وقابلوها بالكفر والعصيان، بدل نعمتهم بنقم جزاء وفاقا.
وشبيه بهذا قوله - تعالى - فى آية أخرى:
{ { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } }. قال الفخر الرازى: قال القاضى: معنى الآية أنه - تعالى - أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر، ويعدلوا عن الكفر، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر، فقد غيروا نعمة الله - تعالى - على أنفسهم، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم، والمنح بالمحن.
قال: وهذا من أوكد ما يدل على أنه - تعالى - لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة.
وقال صاحب الكشاف: "فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركى مكة حتى غير الله نعمته عليهم، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة؟.
قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين فى إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإِمهال وعاجلهم بالعذاب.
وقوله: { وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } معطوف على قوله: { بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً } إلخ.
أى: ذلك التعذيب بسبب جحودهم للنعم، وبسبب أنه - سبحانه - سميع لما نطقوا به من سوء، وعليم بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات، وقد عاقبتهم على ذلك بما يستحقون من عذاب:
{ { وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } }. ثم ذكر - سبحانه - ما عليه المشركون من جحود وغرور وعناد على سبيل التأكيد والتوبيخ فقال: { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ }.
أى: أن شأن هؤلاء المشركين الذين حاربوك يا محمد، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة، كقوم نوح وقوم هود..، كذب أولئك جميعا بآيات ربهم التى أوجدها - سبحانه - لهدايتهم وسعادتهم.. فكانت نتيجة ذلك أن أهلكهم - سبحانه - بسبب ما ارتكبوه من ذنوب، وبسبب استعمالهم النعم فى غير ما خلقت له.
{ وَأَغْرَقْنَآ آلَ فِرْعَونَ } الذين زينوا له الكفر والبطر والطغيان.
{ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ } أى: وكل من الأقوام المذكورين ومن على شاكلتهم فى الكفر والضلال، كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم لهم، وإعراضهم عنهم مع أن الأنبياء ما جاءوا إلا لهدايتهم.
وجمع الضمير فى { كَانُواْ } و { ظَالِمِينَ } مراعاة لمعنى { كُلٌّ } لأنها متى قطعت عن الإِضافة جاز مراعاة لفظها تارة، ومراعاة معناها أخرى، واختير هنا مراعاة المعنى لأجل الفواصل.
قال الجمل: فإن قلت: ما الفائدة من تكرير هذه الآية مرة ثانية؟.
قلت: فيها فوائد منها: أن الكلام الثانى يجرى مجرى التفصيل للكلام الأول، لأن الآية الأولى فيها ذكر أخذهم، والثانية ذكر إغراقهم فذلك تفسير للأول.
ومنها: أنه ذكر فى الآية الأولى أنهم كفروا بآيات الله وفى الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم، ففى الآية إشارة إلى أنهم كفروا بآيات الله وجحدوها، وفى الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها، وكفرهم بها.
ومنها: أن تكرير هذه القصة للتأكيد.
وبعد، فإن المتدبر فى هذه الآيات الكريمة، يراها تصور تصويرا واضحا سنة من سنن الله فى خلقه، وهى أنه - سبحانه - لا يسلب نعمه عن قوم إلا بسبب ذنوب اقترفوها، وأنه - تعالى - لا ينزل عقوباته بهم إلا بعد لجاجهم فى طغيانهم، وإدبارهم عن نصح الناصحين.
ورحم الله الأستاذ الإِمام محمد عبده فقد كتب مقالا جيداً صدره بقوله تعالى: { ذٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. }.
ومما جاء فى هذا المقال قوله: تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم.
أرشدنا - سبحانه - إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحى اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التى سنها - سبحانه - على أساس الحكمة البالغة، إن الله لا يغير ما بقوم من عز وسلطان، ورفاعة وخفض عيش، وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل، وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله فى الأمم السابقة، والتدبر فى أحوال الذين حادوا عن صراط الله فهلكوا، أو حل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة فى الرأى، والصدق فى القول، والسلام فى الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية على الحق، والقيام بنصرته والتعاون على حمايته.. خذلوا العدل ولم يجمعوا همهم على إعلاء كلمته واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية.. فأخذهم بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها فى التحلى بالفضائل وجعل هلاكها ودمارها فى التخلى عنها.
سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته - سبحانه - فى الخلق والإِيجاد، وتقدير الأرزاق وتحديد الآجال..
وبعد أن شرح - سبحانه - أحوال المهلكين من شرار الكفرة، شرع فى بيان أحوال الباقين منهم، وتفصيل أحكامها، فقال - تعالى -: { إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ... إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ }.