خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧٠
وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٧١
-الأنفال

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال: ابن كثير: " عن الزهرى عن جماعة سماهم قالوا: بعثت قريش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى فداء أسراهم، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا.
وقال العباس: يا رسول الله! قد كنت مسلماً! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول، فإن الله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابنى أخيك نوفل بن الحارث، وعقيل بن أبى طالب، وحليفك عتبة بن عمرو أخى بنى الحارث بن فهر.
قال العباس: ما ذاك عندى يا رسول الله، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأين المال الذى دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها: إن أصبت فى سفرى هذا فهذا المال الذى دفنته لبنىّ: الفضل، وعبد الله، وقثم؟
قال: والله يا رسول الله إنى لأعلم أنك رسول الله. إن هذا الشئ ما علمه أحد غيرى وغير أم الفضل، فاحسب لى يا رسول الله ما أصبتم منى: - عشرين أوقية من مال كان معى -.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم لا، ذاك شئ أعطانا الله منك.
ففدى نفسه وابنى أخويه وحليفه. فأنزل الله - تعالى - فيه { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ... } الآية.
قال العباس: فأعطانى الله مكان العشرين الأوقية فى الإسلام، عشرين عبداً كلهم فى يده مال يضرب به. مع ما أرجو من مغفرة الله - تعالى -"
.
وفى صحيح البخارى "عن أنس: أن رجالاً من الأنصار قالوا: يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه.
فقال - صلى الله عليه وسلم -: لا والله! لا تذرون منه درهما"
. هذا والآية الكريمة وإن كانت قد نزلت فى العباس إلا أنها عامة فى جميع الأسرى؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأن الخطاب فيها موجه إلى سائر الأسرى لا إلى فرد منهم دون آخر.
والمعنى: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ } أى: قل للذين تحت تصرف أيدكم { مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ } أى: من أسرى المشركين فى بدر الذين أخذتم منهم الفداء لتطلقوا سراحهم.
قل لهم - أيها النبى الكريم - { إِن يَعْلَمِ ٱللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً } أى: إيماناً وتصديقاً وعزماً على اتباع الحق ونبذ الكفر والعناد.. إن يعلم الله - تعالى - منكم ذلك { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } من فداء، بأن يخلفه عليكم فى الدنيا، ويمنحكم الثواب الجزيل فى الآخرة.
ولقد صدق الله - تعالى - وعده مع من آمن وعمل صالحاً من هؤلاء الأسرى، فأعطاهم الكثير من نعمه كما قال العباس - رضى الله عنه -
وقوله: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } زيادة فى حضهم على الدخول فى الإِيمان.
وقوله: { وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به تأكيد ما قبله من الوعد بالخير والمغفرة.
أى: والله - تعالى - واسع المغفرة، والرحمة لمن استجاب للحق، وقدم العمل الصالح.
والتعبير، بقوله: { لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ } للإِشعار بأن هؤلاء الأسرى المشركين قد صاروا فى قبضة المؤمنين وتحت تصرفهم، حتى لكأن أيديهم قابضة عليهم.
وأسند وجود الخير فى قلوبهم إلى علم الله - تعالى - للإِشارة إلى أن ادعاء الإِيمان باللسان فقط لا يكفل لهم الحصول على الخير الذى فقدوه ولا يوصلهم إلى مغفرة الله - تعالى - فعليهم أن يخلصوا لله فى إيمانهم حتى ينالوا فضله وثوابه، فهو - سبحانه - عليم بذات الصدور.
وقوله: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } إنذار لهم بسوء المصير إذا مالجوا فى عنادهم وغدرهم، وبشارة من الله - تعالى - لرسوله والمؤمنين بأن العاقبة ستكون لهم.
أى: وإن يرد هؤلاء الأسرى نقض عهودهم معك - يا محمد - والاستمرار فى محاربتك ومعاداتك.. فلا تهتم بهم، ولا تجزع من خيانتهم فهم قد خانوا الله - تعالى - من قبل هذه الغزوة بكفرهم وجحودهم لنعمه فكانت نتيجة ذلك أن أمكنك منهم، وأظفرك بهم، وسينصرك عليهم بعد ذلك كما نصرك عليهم فى بدر، والله - تعالى - عليم بما يسرونه وما يعلنونه، حكيم فى تدبيره وصنعه.
فالآية الكريمة إنذار للأسرى إذا ما استحبوا العمى على الهدى، وتبشير للرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن خيانتهم سيكون وبالها عليهم.
قال الفخر الرازى: وقوله { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } قال الأزهرى: يقال أمكننى الأمر يمكننى فهو ممكن ومفعول الإِمكان محذوف.
والمعنى: فأمكن المؤمنين منهم، أى: أنهم خانوا الله بما أقدموا عليه من محاربة الرسول يوم بدر. فأمكن الله منهم قتلا وأسرا، وذلك نهاية الإِمكان والظفر. فنبه الله بذلك على أنهم ذاقوا وبال ما فعلوه، فإن عادوا كان التمكين منهم ثابتاً حاصلاً، وفيه بشارة للرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه يتمكن من كل من يخونه وينقض عهده.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى حدثت عن أسرى غزوة بدر ما يأتى:
1- أن على المؤمنين فى كل زمان ومكان أن يجعلوا جهادهم خالصاً لوجه الله ومن أجل إعلاء كلمته ونصرة دينه، وذلك بأن يبالغوا فى قتال أعدائه وأعدائهم إذلالا للكفر وإعزازاً للحق، وأن يؤثروا كل ذلك على أعراض الدنيا ومتعها.
2- أن أخذ الفداء من الأسرى لا شئ فيه فى ذاته، وإنما عاتب الله المؤمنين على أخذه من أسرى بدر، لأن هذه الغزوة كانت المعركة الأولى بين المؤمنين والمشركين، وكان إذلال المشركين فيها عن طريق المبالغة فى قتلهم أهم من أخذ الفداء منهم، وأظهر فى كسر شوكتهم، وعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين.
قال ابن كثير. وقد استقر الحكم فى الأسرى عند جمهور العلماء، أن الإِمام مخير فيهم، إن شاء قتل - كما فل ببنى قريظة - وإن شاء فادى بمال - كما فعل بأسرى بدر - أو بمن أسر من المسلمين، كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا فى سبى سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ فى مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين، وإن شاء استرق من أسر. هذا مذهب الإِمام الشافعى وطائفة من العلماء، وفى المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر فى موضعه.
3- أن الذين شهدوا بدراً من المسلمين كانت لهم مكانتهم السامية، ومنزلتهم العالية، عند الله - تعالى -.
ومما يدل على ذلك أنه - سبحانه - عفا عن خطئهم فى أخذ الفداء من الأسرى ثم زادهم فضلاً ومنة فجعل غنائم الحرب حلالا لهم، بعد أن كانت محرمة على أتباع الرسل السابقين.
ففى البخارى عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلى. نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لى الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتى أدركته الصلاة فليصل وأحلت لى الغنائم ولم تحل لأحد قبلى، وأعطيت الشفاعة، وكان النبى يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" .
4- أن الإِسلام لا يستبقى الأسرى لديه للإِذلال والقهر والاستغلال، وإنما يستبقيهم ليوقظ فى فطرتهم نور الحق الذى باتباعه يعوضهم الله عما أخذ منهم فى الدنيا، ويمنحهم ثوابه ومغفرته فى الآخرة.
أما إذا استمروا فى عداوتهم للحق، فان الدائرة ستدور عليهم.
5- أن الإِيمان لا يكون صحيحا إلا إذا صاحبه التصديق والإِذعان.
قال ابن العربى: لما أسر من أسر من المشركين فى بدر، تكلم قوم منهم بالإِسلام، ولم يمضوا فيه عزيمة، ولا اعترفوا به اعترافا جازما، ويشبه أنهم أرادوا أن يتقربوا من المسلمين ولا يبعدوا عن المشركين فنزلت الآية: { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لِّمَن فِيۤ أَيْدِيكُمْ مِّنَ ٱلأَسْرَىٰ... }. الآية.
قال علماؤنا: إن تكلم الكافر بالإِيمان فى قلبه وبلسانه ولم يمض فيه عزيمة لم يكن مؤمنا، وإذا وجد مثل ذلك من المؤمن كان كافرا إلا ما كان من الوسوسة التى لا يقدر المرء على دفعها، فإن الله قد عفا عنها وأسقطها.
وقد بين الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الحقيقة فقال: { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ } أى إن كان هذا القول منهم خيانة ومكرا { فَقَدْ خَانُواْ ٱللَّهَ مِن قَبْلُ } بكفرهم ومكرهم بك وقتالهم لك، فأمكنك منهم. وإن كان هذا القول منهم خيرا ويعلمه الله فيقبل ذلك منهم، ويعوضهم خيرا مما أخذ منهم، ويغفر لهم ما تقدم من كفرهم وخيانتهم ومكرهم.
ثم ختم الله - تعالى - سورة الأنفال بالحديث عن علاقة المسلمين بعضهم ببعض، وعن علاقتهم بغيرهم من الكفار عن الأحكام المنظمة لهذه العلاقات فقال - تعالى -: { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ...بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.