خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
٢٤
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

والمعنى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } إيماناً حقاً { لاَ تَتَّخِذُوۤاْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ } المشركين { أَوْلِيَآءَ } وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم، وتطلعونهم على ما لا يجوز إطلاعهم عليه من شئونكم، وتلقون إليهم بالمودة... فإن ذلك يتنافى مع الإِيمان الحق، ومع الإخلاص للعقيدة وإيثارها على كل ما سواها من زينة الحياة.
والمراد النهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة أى فرد من أفراد المشركين، لأن الجمع إذا قوبل بالجمع يوزع الفرد على الفرد، كما فى قوله - تعالى -
{ { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } }. قال القرطبى: وخص - سبحانه - الآباء والإِخوة إذ لا قرابة أقرب منها. فنفى الموالاة بينهم ليبين أن القرب قرب الأديان لا قرب الأبدان.
ولم يذكر الأبناء فى هذه الآية، إذ الأغلب من البشر أن الأبناء هم التبع للآباء. والإِحسان والهبة مستثناه من الولاية.
"قالت أسماء: يا رسول الله إن أمى قدمت على راغبة وهى مشركة أفأصلها؟ قال نعم. صلى أمك" .
وقوله - سبحانه -: { إِنِ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْكُفْرَ عَلَى ٱلإِيمَانِ } قيد فى النهى عن اتخاذهم أولياء. والاستحباب: طلب المحبة: يقال: استحب له بمعنى أحبه كأنه طلب محبته.
أى: لا تتخذوهم أولياء إن اختاروا الكفر على الإِيمان وأصروا على شركهم وباطلهم.. أما إذا أقلعوا عن ذلك ودخلوا فى دينكم، فلا حرج عليكم من اتخاذهم أولياء وأصفياء.
وقوله: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } تذييل قصد به الوعيد والتهديد لمن يفعل ذلك.
أى: ومن يتولهم منكم فى حال استحبابهم الكفر على الإِيمان. فأولئك الموالون لهم هم الظالمون لأنفسهم، لأنهم وضعوا الموالاة فى غير موضعها، وتجاوزوا حدود الله التى نهاهم عن تجاوزها. وسيجازيهم - سبحانه - على ذلك بما يستحقونه من عقاب.
ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس هذه الحقيقة: وهى أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال - تعالى -: { قُلْ } يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين: { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } الذين أنتم بضعة منهم، { وَأَبْنَآؤُكُمْ } الذين هم قطعة منكم { وَإِخْوَانُكُمْ } الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم { وَأَزْوَاجُكُمْ } اللائى جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة { وَعَشِيرَتُكُمْ } أى: أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة { وَأَمْوَالٌ ٱقْتَرَفْتُمُوهَا } أى: اكتسبتموها فهى عزيزة علكيم.
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتساب مطلقاً:
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أى: تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الايمان.
يقال: كسد الشئ من باب نصر وكرم. كساداً وكسوداً. إذا قل رواجه وربحه. { وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أى: ومنازل تعجبكم الإِقامة فيها.
قل لهم يا محمد: إن كان كل ذلك - من الآباء والأبناء والإِخوان والأزواج والعشيرة، والأموال، والتجارة، والمساكن - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ }.
أى: إن كانت هذه الأشياء أحسن فى نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد فى سبيل إعلاء كلمة الحق، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل.
فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الأباء والأبناء... على محبة الله ورسوله، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين.
وقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى: والله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى:
(1) تحريم موالاة الكافرين مهما بلغت درجة قرابتهم، واعتبار - هذه الموالاة من الكبائر، لوصف فاعلها بالظلم: قال - تعالى -: { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ }.
(2) قوة إيمان الصحابة، وسرعة امتثالهم لأوامر الله، فإنهم فى سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم فى الدين، بل وحاربوهم وقتلوهم.
قال ابن كثير: روى الحافظ البيهقى من حديث عبد الله بن شوذب قال: جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه. فلما أكثر الجراح، قصده ابنه أبو عبيدة فقتله، فأنزل الله فيه هذه الآية - التى بآخر سورة المجادلة -
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } }. (3) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب، وقد وردت عدة أحاديث فى هذه المعنى، "ومن ذلك ما أخرجه البخارى والإِمام أحمد بن أبى عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شئ إلا من نفسى. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه فقال عمر: فأنت والله أحب إلى من نفسى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن يا عمر" .
(4) فى الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليماً، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء.. ولذا قال الإِمام الزمخشرى: وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها. كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين. فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه، هل يجد عنده من التصلب فى ذات الله والثبات على دينه، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإِخوان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله؟ أم يزوى الله عنه أحقر شئ منها لمصلحته، فلا يدرى أى طرفيه أطول؟ ويغويه الشيطان عن أجَلِّ حظ من حظوظ الدين، فلا يبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره؟
(5) قال بعض العلماء: وليس المطلوب. من قوله - تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ... } إلخ. أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة، ولا أن يترهبن ويزهد فى طيبات الحياة.. كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب، ويخلص لها الحب، وأن تكون هى المسيطرة الحاكمة، وهى المحركة الدافعة. فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمتع المسلم بكل طيبات الحياة، على أن يكون مستعداً لنبذها كلها فى اللحظة التى تتعارض مع مطالب العقيدة.
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع، وأن تكون الكلمة الأولى للعقيدة أو لعرض من أعراض هذه الحياة؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأنباء والإِخوة والعشيرة والزوج.. ولا عليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن. ولا عليه أن يستمتع بزينة الله و الطيبات من الرزق. فى غير سرف ولا مخيلة.
بل إن المتاع حينئذ لمستحب، باعتباره لوناً من ألوان الشكر لله الذى أنعم بها ليتمتع بها عباده. وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب.
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بلغت درجة قرابتهم، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله.. انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم. حيث نصرهم - سبحانه - فى حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى -: { لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ...غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.