خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٣٤
يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ
٣٥
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الفخر الرازى: اعلم أنه - تعالى - لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق، وصفهم فى هذه الآية بالطمع والحرص على أخذ أموال الناس، تنبيها على أن المقصود من إظهار تلك الربوبية والتجبر والفخر، أخذ أموال الناس بالباطل.
ولعمرى من تأمل أحوال أهل الناموس والتزوير فى زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا فى شأنهم، وفى شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعى أنه لا يلتفت إلى الدنيا، ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه فى الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين؛ حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه؛ ويتحمل نهاية الذل والدناءة فى تحصيله.
المراد بالأكل فى قوله: { لَيَأْكُلُونَ } مطلق الأخذ والانتفاع.
وعبر عن ذلك بالأكل، لأنه المقصود الأعظم من جمع الأموال، فسمى الشئ باسم ما هو أعظم مقاصده، على سبيل المجاز المرسل، بعلاقة العلية والمعلولية. وأكلهم أموالهم الناس بالباطل، يتناول ما كانوا يأخذونه من سفلتهم عن طريق الرشوة والتدليس أو التحايل أو الفتاوى الباطلة. كما يتناول ما سوى ذلك مما كانوا يأخذونه بغير وجه حق.
وأسند - سبحانه - هذه الجريمة - وهى أكل أموال الناس بالباطل - إلى كثير من الأحبار والرهبان ولم يسندها إلى جميعهم، إنصافا للعدد القليل منهم الذى لم يفعل ذلك، فإن كل طائفة أو جماعة لا تخلو من وجود أفراد من بينها يتعففون عن الحرام، ويقيدون أنفسهم بالحلال.
قال صاحب المنار: وإسناد هذه الجريمة المزرية إلى الكثيرين منهم دون جميعهم من دقائق تحرى الحق فى عبارات الكتاب العزيز، فهو لا يحكم على الأمة الكبيرة بفساد جميع أفرادها أو فسقهم أو ظلمهم، بل يسند ذلك إلى الكثير أو الأكثر، أو يطلق اللفظ العام ثم يستثنى منه.
فمن الأول قوله - تعالى - فى اليهود:
{ { وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } }. ومن الثانى قوله - تعالى - فى اليهود أيضاً: { { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } }. ومن الثالث قوله - سبحانه - فى شأن المحرفين للكلم الطاعنين فى الإِسلام من اليهود + أيضاً -: { { مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَٱسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي ٱلدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَٱسْمَعْ وَٱنْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } }. وقد نبهنا فى تفسير هذه الآيات وأمثالها على العدل الدقيق فى أحكام القرآن على البشر وإنما نكرره لعظيم شأنه.."
وقوله: { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } جريمة من جرائمهم الكثيرة.
والصد: المنع والصرف عن الشئ.. وسبيل الله: دينه وشريعته.
أى: أن هؤلاء الكثيرين من الأحبار والرهبان لا يكتفون بأكل أموال الناس بالباطل، بل إنهم يضيفون إلى ذلك جريمة ثانية من جرائمهم المتعددة وهى انهم ينصرفون عن الدين الحق وهو دين الإِسلام انقياداً لأحقادهم وشهواتهم، ويصرفون أتباعهم عنه بشتى الوسائل، كأن يصفوه لهم بأنه دين باطل، أو بأن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليس هو الرسول الذى بشرت به الكتب السماوية السابقة.. إلى غير ذلك من وسائلهم المتنوعة فى صرف الناس عن الحق.
والاسم الموصول فى قوله: { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ... } يرى بعضهم أن المراد به أولئك الأحبار والرهبان، لأن الكلام مسوق فى ذمهم، وتكون هذه الجملة ذما لهم على رذيلة ثالثة هى الحرص والبخل، بعد ذمهم على رذيلتى أكل أموال الناس بالباطل والصد عن سبيل الله.
ويرى آخرون أن المراد بهم البخلاء من المسلمين، وأن الجملة مستأنفة لذم ما نعى الزكاة بقرينة قوله: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ويكون نظمهم مع أهل السوء من الأحبار والرهبان من باب التحذير والوعيد والإِشارة إلى أن الأشحاء المانعين لحقوق الله، مصيرهم كمصير الأحبار والرهبان فى استحقاق البشارة بالعذاب.
وترى طائفة ثالثة من العلماء أن المراد به كل من كنز المال، ولم يخرج الحقوق الواجبة فيه، سواء أكان من المسلمين أم من غيرهم، لأن اللفظ مطلق، فيجب إجراؤه على إطلاقه وعمومه، إذ لم ما يقيده أو يخصصه.
وقوله: { يَكْنِزُونَ } من الكنز، وأصله فى اللغة العربية: الضم الجمع.
يقال: كنزت التمر فى الوعاء إذا جمعته فيه. وكل شئ مجموع بعضه إلى بعض فى بطن الأرض أو على ظهرها فهو كنز، وجمعه كنوز.
وخص الذهب والفضة بالذكر، لأنهما الأصل الغالب فى الأموال ولأنهما اللذان يقصدان بالكنز أكثر من غيرهما.
وقال الفخر الرازى ما ملخصه: ذكر - سبحانه - شيئين هما الذهب والفضة ثم قال: { وَلاَ يُنفِقُونَهَا } - وكان الظاهر أن يقول "ولا ينفقونهما" والجواب من وجهين: الأول: أن الضمير عائد إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد منهما جملة وافية؛ وعدة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله - تعالى -
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ } }. أو أن يكون التقدير: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونها فى سبيل الله، فيكون الضمير عائد إلى الكنوز المدلول عليها بالفعل { يَكْنِزُونَ }.
الثانى: أن يكون الضمير عائد إلى اللفظ، ويكون ذكر أحدهما يغنى عن ذكر الآخر، كقوله - تعالى -
{ { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا } جعل الضمير للتجارة..
وقوله: { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } خبر الموصول.
والتعبير بالبشارة من باب التهكم بهم، والسخرية منهم، فهو كقولهم: تحيتهم الضرب؛ وإكرامهم الشتم.
وقوله: { يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ.. } تفصيل لهذا العذاب الأليم، وبيان لميقاته، حتى يقلع البخلاء عن بخلهم، والأشحاء عن شحهم..
والظرف { يَوْمَ } منصوب بقوله: { عَذَابٍ أَلِيمٍ }؛ أو بفعل محذوف يدل عليه هذا القول.
أى: يعذبون يوم يحمى عليها، أو بفعل مقدر؛ أى: اذكر يوم يحمى عليها.
وقوله: { يُحْمَىٰ } يجوز أن يكون من حميت وأحميت - ثلاثيا ورباعيا - يقال: حميت الحديدة وأحميتها، أى: أوقدت عليها لتحمى.
وقوله: { عَلَيْهَا } جار مجرور فى موضع رفع لقيامه مقام الفاعل. ويجوز أن يكون القائم مقام الفاعل مضمرا، أى: يحمى الوقود أو الجمر عليها.
قال الآلوسى: وأصله تحمى بالنار من قولك: حميت الميسم وأحميته فجعل الإِحماء للنار مبالغة؛ لأن النار فى ذاتها ذات حمى، فإذا وصفت بأنها تحمى دل على شدة توقدها. ثم حذفت النار، وحول الإِسناد إلى الجار والمجرور تنبيها على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير. فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت: رفع إلى الأمير، وقرأ ابن عامر { تحمي } بالتاء بإسناده إلى النار كأصله. والمعنى: بشر - يا محمد - أولئك الذين يكنزون الأموال فى الدنيا ولا ينفقونها فى سبيل الله، بالعذاب الأليم يوم الحساب يوم تحمى النار المشتعلة على تلك الأموال التى لم يؤدوا حق الله فيها { فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ } أى: فتحرق بها جباههم التى كانوا يستقبلون بها الناس، والتى طالما ارتفعت غرورا بالمال المكنوز، وتحرق بها - أيضا - "جنوبهم" التى كثيرا ما انتفخت من شدة الشبع وغيرها جائع، وتحرق بها كذلك "ظهورهم" التى نبذت وراءها حقوق الله بجحود وبطر..
قال صاحب الكشاف: فإن قلت: لم خصت هذه الأعضاء بالكى؟
قلت: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم - حيث لم ينفقوها فى سبيل الله - إلا الأغراض الدنيوية، من وجاهة عند الناس، وتقدم، وأن يكون ماء وجوههم مصونا عندهم، يتلقون بالجميل ويحيون بالإِكرام، ويبجلون ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك، هذا أغراضهم وطلباتهم من أموالهم، لا يخطر ببالهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"ذهب أهل الدثور بالأجر كله" .
وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوه ظهورهم.."
وقوله: { هَـٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } مقول لقول محذوف.
والتفسير: تقول لهم ملائكة العذاب على سبيل التبكيت والتوبيخ، وهى تتولى حرق جباههم وجنوبهم وظهورهم: هذا العذاب الأليم النازل بكم فى الآخرة هو جزاء ما كنتم تكنزونه فى الدنيا من مال لمنفعة أنفسكم دون أن تؤدوا حق الله فيه. فذوقوا وحدكم وبال كنزكم. وتجرعوا غصصه، وتحملوا سوء عاقبته فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم، لأنكم لم تشكروا الله على هذه الأموال، بل استعملتموها فى غير ما خلقت له.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
1- التحذير من الانقياد لدعاة السوء، ومن تقليدهم فى رذائلهم وقبائحهم ووجوب السير على حسب ما جاء به الإِسلام من تعاليم وتشريعات..
ولذا قال ابن كثير عند تفسيره للآية الأولى: والمقصود التحذير من علماء السوء، وعباد الضلال، كما قال سفيان بن عيينه: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من أحبار اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من رهبان النصارى.
وفى الحديث الصحيح: "لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة" قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: "فمن"؟ وفى رواية: فارس والروم؟ قال: "فمن الناس إلا هؤلاء" والحاصل التحذير من التشبه بهم فى أقوالهم وأحوالهم.
هذا، ونص الحديث الصحيح الذى ذكره الإِمام ابن كثير - كما رواه الشيخان - هكذا عن أبى سعيد الخدرى أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبرا يشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن" .
أما الحديث الذى جاء فيه حذو القذة بالقذة، فقد أخرجه الإِمام أحمد عن شداد بن أوس ونصه: "ليحملن شرار هذه الأمة على سنن الذين خلوا من قبلهم. أهل الكتاب، حذو القذة بالقذة".
2- يرى جمهور العلماء أن المقصود بالكنز فى قوله، تعالى، { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا }.. ألخ المال الذى لم تؤد زكاته، أما إذا أديت زكاته فلا يسمى كنزا، ولا يدخل صاحبه تحت الوعيد الذى اشتملت عليه الآية.
وقد وضح الإِمام القرطبى هذه المسألة فقال: واختلف العلماء فى المال الذى أديت زكاته هل يسمى كنزا أولا؟.
فقال قوم: نعم. رواه أبو الضحا عن جعدة بن هبيرة عن على قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة، وما كثر فهو كنز وإن أديت زكاته، ،،، ولا يصح.
وقال قوم: ما أديت زكاته مئة أو من غيره عنه فليس بكنز، قال ابن عمر: ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. ومثله عن جابر، وهو الصحيح.
وروى البخارى عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك.." .
وفيه أيضا عن أبى ذر قال: انتهيت إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال: "والذى نفسى بيده، ما من رجل تكون له إبل أو بقر أو غنم، لا يؤدى حقها، إلا أتى بها يوم القيامة أعظم ما تكون وأسمنه، تطؤه بأخفافها، وتنطحه بقرونها، كلما جازت أخراها ردت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس" .
فدل دليل خطاب هذين الحديثين على صحة ما ذكرنا. وقد بين ابن عمر فى صحيح البخارى هذا المعنى. قال له أعرابى: أخبرنى عن قول الله - تعالى - { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ.. } الآية فقال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها فويل له، إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال.
وروى أبو داود
"عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ.. } كبر ذلك على المسلمين، فقال عمر: أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبى الله، إنه كبر على أصحابك هذه الآية. فقال - صلى الله عليه وسلم - إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقى من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم قال: فكبر عمر. ثم قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة، إذا نظر إليها سرته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته" .
3- أخذ بعض الصحابة من هذه الآية تحريم اكتناز الأموال التى تفيض عن حاجات الإِنسان الضرورية.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبى ذر - رضى الله عنه - تحريم إدخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتى بذلك، ويحثهم عليه ويأمرهم به، ويغلظ فى خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته، فخشى أن يضر بالناس فى هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة وأنزله بالربذة - وهى بلدة قريبة من المدينة - وبها مات - رضى الله عنه - فى خلافة عثمان.
وروى البخارى فى تفسير هذه الآية عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبى ذر، فقلت له: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كنا بالشام فقرأت { وَٱلَّذِينَ يَكْنِزُونَ ٱلذَّهَبَ وَٱلْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }. فقال معاوية: ما هذه فينا ما هذه إلا فى أهل الكتاب. قال: قلت: إنها لفينا وفيهم.
ثم قال ابن كثير: وفى الصحيح
"أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبى ذر: ما يسرنى أن عندى مثل أحد ذهباً يمر على ثلاثة أيام وعندى منه شئ إلا دينار أرصده لدين فهذا - والله أعلم - هو الذى حدا أباذر على القول بهذا" .
وقال الشيخ القاسمى: قال ابن عبد البر: وردت عن أبى ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت فى ذلك.
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على ما نعى الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره فى قصة الأعرابى حيث قال: هل على غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع".
وحديث طلحة الذى أشار إليه ابن عبد البر، قد جاء فى صحيح البخارى ونصه:
"عن طلحة بن عبيد الله قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوى صوته ولا يفقه ما يقول حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإِسلام.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس صلوات فى اليوم والليلة، فقال: هل على غيرها؟:
قال: لا.. إلا أن تطوع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وصيام رمضان قال: هل على غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع، قال. وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، قال. هل على غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع.
قال، فأدبر الرجل وهو يقول. والله لا أزيد على ذلك ولا أنقص. فقال، رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفلح إن صدق"
.
هذا؛ ومما استدل به جمهور الصحابة ومن بعدهم من العلماء، على عدم حرمة اقتناء الأموال التى تفيض عن الحاجة - ما دام قد أدى حق الله فيها - ما يأتى:
(أ) أن قواعد الشرع لا تحرم ذلك، وإلا لما شرع الله المواريث لأنه لو وجب إنفاق كل ما زاد عن الحاجة، لما كان لمشروعية المواريث فائدة.
(ب) ثبت فى الحديث الصحيح
"أن سعد بن أبى وقاص عندما كان مريضاً، وزاره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا رسول الله: أأوصى بمالى كله؟ قال: لا. قال سعد: فالشطر؟ قال: لا. قال سعد: فالثلث؟ فقال له - صلى الله عليه وسلم - فالثلث والثلثَ كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.." .
ولو كان جمع المال واقتناؤه محرما، لأقر النبى - صلى الله عليه وسلم - سعدا على التصدق بجميع ماله، ولأمر المسلمين أن يحذوا حذو سعد، ولكنه صلى الله عليه وسلم - لم يفعل ذلك، بل قال لسعد: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس.." .
وقد كان فى عهده - صلى الله عليه وسلم - من الصحابة من يملكون الكثير من الأموال - كعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهما - ومع هذا فلم يأمرهم بإنفاق كل ما زاد عن حاجتهم الضرورية.
قال القرطبى: قرر الشرع ضبط الأموال وأداء حقها، ولو كان ضبط المال ممنوعا، لكان حقه أن يخرج كله، وليس فى الأمة من يلزم هذا. وحسبك حال الصحابة وأموالهم - رضوان الله عليهم - وأما ما ذكر عن أبى ذر فهو مذهب له.
(جـ) ما ورد من آثام فى ذم الكنز و الكانزين كان قبل أن تفرض الزكاة أو هو فى حق من امتنع عن أداء حق الله فى ماله.
قال صاحب الكشاف. فإن قلت فما تصنع فى قوله - صلى الله عليه وسلم -
"من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها" .
قلت: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرضيتها، فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه، ويؤدى عنه ما أوجب عليه فيه، ثم يعاقبه.
ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإِعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح موسع لا يذم صاحبه، ولكل شئ حد.
4- أن الإِسلام وإن كان قد أباح للمسلم اقتناء المال - بعد أداء حق الله فيه - إلا أنه أمر أتباعه أن يكونوا متوسطين فى حبهم لهذا الاقتناء، حتى لا يشغلهم حب المال عن طاعة الله.
ورحم الله الإِمام الرازى، فقد قال عند تفسيره لهذه الآيات ما ملخصه، اعلم أن الطريق الحق أن يقال، الأولى أن لا يجمع الرجل الطالب للدين المال الكثير، إلا أنه لم يمنع عنه فى ظاهر الشرع، فالأول محمول على التقوى والثانى على ظاهر الفتوى.
أما بيان أن الأولى الاحتراز عن طلب المال الكثير فلوجوه منها:
أن كثرة المال سبب لكثرة الحرص فى الطلب، والحرص متعب للروح والنفس والقلب.. والعاقل هو الذى يحترز عما يتعب روحه ونفسه وقلبه. وأن كسب المال شاق شديد؛ وحفظه بعد حصوله أشد وأشق وأصعب، فيبقى الإِنسان طول عمره تارة فى طلب التحصيل؛ وأخرى فى تعب الحفظ وأن كثرة الجاه والمال تورث الطغيان، كما قال - تعالى -
{ { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } }. هذا، وقد ساق الإِمام ابن كثير جملة من الأحاديث فى ذم التكثر من الذهب والفضة، ومن ذلك ما رواه الإِمام أحمد عن حسان بن عطية قال:
كان شداد بن أوس - رضى الله عنه - فى سفر، فنزل منزلا فقال لغلامه: ائتنا بالسفرة نعبث بها، فأنكرت عليه ذلك. فقال ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتى هذه فلا تحفظوها عنى واحفظوا ما أقول لكم: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:
"إذا كنز الناس الذهب والفضة، فاكنزوا هؤلاء الكلمات: اللهم إنى أسألك الثبات فى الأمر، والعزيمة على الرشد؛ وأسألك شكر نعمتك، وأسألك حسن عبادتك، وأسألك قلبا سليما، وأسألك لسانا صادقا، واسألك من خير ما تعلم، وأعوذ بك من شر ما تعلم، وأستغفرك لما تعلم. إنك أنت علام الغيوب" .
وبعد: فهذه سبع آيات عن أهل الكتاب، بدأت - بقوله تعالى { { قَاتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلاَ بِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } وانتهت بقوله تعالى: { فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ }.
وقد بينت هذه الآيات ما يجب أن يكون عليه موقف المؤمنين منهم، وكشفت عن أقوالهم الباطلة، وعن جحود رؤسائهم للحق، وعن انقياد: عامتهم للضلال، وعن استحلال كثير من أحبارهم ورهبانهم لمحارم الله..
ثم عادت السورة بعد ذلك إلى تكملة الحديث عن أحوال المشركين السيئة، وعن وجوب مقاتلتهم، فقال تعالى. { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ....ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ }.