خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ
٣٦
إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٣٧
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال صحاب المنار، هاتان الآيتان عود إلى الكلام فى أحوال المشركين، وما يشرع من معاملاتهم بعد الفتح، وسقوط عصبية الشرك، وكان الكلام قبل هاتين الآيتين - فى قتال أهل الكتاب وما يجب أن ينتهى به من إعطاء الجزية من قبيل الاستطراد، اقتضاه ما ذكر قبله من أحكام قتال المشركين ومعاملتهم، وقد ختم الكلام فى أهل الكتاب ببيان حال كثير من رجال الدين الذين أفسدت عليهم دينهم المطامع المالية، التى هى وسيلة العظمة الدنيوية والشهوات الحيوانية، وإنذارٍ من كانت هذه حالهم بالعذاب الشديد يوم القيامة وجعل هذا الإِنذار موجهاً إلينا وإليهم جميعاً.."
والعدة - فى قوله. إن عدة الشهور -: على وزن فعله من العدد وهى بمعنى المعدود. قال الراغب: العدة: هى الشئ المعدود، قال - تعالى
{ { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلاَئِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أى: وما جعلنا عددهم إلا فتنة للذين كفروا..
والشهور: جمع شهر. والمراد بها هنا: الشهور التى تتألف منها السنة القمرية وهى شهور. المحرم. وصفر. وربيع الأول.. الخ.
وهذه الشهور عليها مدار الأحكام الشرعية، وبها يعتد المسلمون فى عبادتهم وأعيادهم وسائر أمورهم.
والمراد بقوله: { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ }: الوقت الذى خلقهما فيه، وهو ستة أيام كما جاء فى كثير من الآيات، ومن ذلك قوله - تعالى -
{ إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } }. والمعنى: إن عدد الشهور { عِندَ ٱللَّهِ } أى: فى حكمه وقضائه { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } هى الشهور القمرية التى عليها يدور فلك الأحكام الشرعية.
وقوله { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ }، أى: فى اللوح المحفوظ.
قال القرطبى: وأعاده بعد أن قال { عِندَ ٱللَّهِ } لأن كثيراً من الأشياء يوصف بأنه عند الله، ولا يقال إنه مكتوب فى كتاب الله، كقوله
{ { إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } }. وقيل معنى { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } أى فيما كتبه - سبحانه - وأثبته وأوجب على عباده العمل به منذ خلق السماوات والأرض.
قال الجمل: وقوله. { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } صفة لاثنى عشر، وقوله: { يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } متعلق بما تعلق به الظرف قبله من معنى الثبوت والاستقرار، أو بالكتاب، إن جعل مصدرا.
والمعنى: أن هذا أمر ثابت فى نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة أى: أن المقصود من هذه الآية الكريمة، بيان أن كون الشهور كذلك حكم أثبته - سبحانه - فى اللوح المحفوظ منذ أوجد هذا العالم، وبينه لأنبيائه على هذا الوضع.. فمن الواجب اتباع ترتيب الله لهذه الشهور، والتزام أحكامها ونبذ ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقديم بعض الشهور أو تأخيرها أو الزيادة عليها، أو انتهاك حرمة المحرم منها.
وقوله: { حُرُمٌ } جمع حرام - كسحب جمع سحاب - مأخوذ من الحرمة وذلك لأن الله تعالى - أوجب على الناس احترام هذه الشهور، ونهى عن القتال فيها:
وقد أجمع العلماء على أن المراد بها ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
فقد أخرج البخارى عن أبى بكر عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال فى خطبة حجة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم. ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان" .
وسماه - صلى الله عليه وسلم - رجب مضر، لأن بنى ربيعة بن نزار كانوا يحرمون شهر رمضان ويسمونه رجباً وكانت قبيلة مضر تحرم رجباً نفسه، لذا قال - صلى الله عليه وسلم - فيه "ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان" .
قال ابن كثير. وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة: ثلاث سرد. وواحد فرد لأجل أداء مناسك الحج والعمرة فحرم قبل الحج شهراً وهو ذو القعدة يقعدون فيه عن القتال وحرم شهر ذى الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج، ويشتغلون بأداء المناسك، وحرم بعده شهرا آخر هو المحرم، ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين، وحرم رجب فى وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب، فيزوره ثم يعود إلى وطنه آمنا.
واسم الإِشارة فى قوله: { ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } يعود إلى ما شرعه الله - تعالى - من أن عدة الشهور اثنا عشر شهراً، ومن أن منها أربعة حرم.
والقيم: القائم الثابت المستقيم الذى لا التواء فيه ولا اعوجاج أى: ذلك الذى شرعناه لكم من كون عدة الشهور كذلك، ومن كون منها أربعة حرم: هو الدين القويم، والشرع الثابت الحكيم، الذى لا يقبل التغيير أو التبديل.. لا ما شرعه أهل الجاهلية لأنفسهم من تقديم بعض الشهور وتأخير بعضها استجابة لأهوائهم وشهواتهم، وإرضاء لزعمائهم وسادتهم.
والضمير المؤنث فى قوله { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } يرى ابن عباس أنه يعود على جميع الشهور أى: فلا تظلموا فى الشهور الاثنى عشر أنفسهم، بأن تفعلوا فيها شيئاً مما نهى الله عن فعله، ويدخل فى هذا النهى هتك حرمة الأشهر الأربعة الحرم دخولا أوليا.
ويرى جمهور العلماء أن الضمير يعود إلى الأشهر الأربعة الحرم، لأنه إليها أقرب؛ لأن الله تعالى قد خص هذه الأربعة بمزيد من الاحترام تشريفا لها.
وقد رجح ابن جرير ما ذهب إليه الجمهور فقال ما ملخصه: وأولى الأقوال فى ذلك عندى بالصواب قول من قال: فلا تظلموا فى الأشهر الأربعة أنفسكم باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظم حرمتها.
وعن قتادة: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلا، ومن الناس رسلا، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة واصطفى من الليالى ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم.. فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يكون مباحا لنا ظلم أنفسنا فى غيرهن من سائر شهور السنة.
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا فى كل وقت ولكن الله عظم حرمة هؤلاء الأشهر وشرفهم على سائر شهور السنة: فخص الذنب فيهن، بالتعظيم كما خصهن بالتشريف، وذلك نظير قوله - تعالى -
{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } }. ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: { { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ } }. ولم يبح ترك المحافظة عليهن بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى - زادها تعظيما، وعلى المحافظة عليها توكيداً، وفى تضييعها تشديداً، فكذلك فى قوله { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ }.
وقد كانت الجاهلية تعظم هذه الأشهر الحرم وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقى الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يهجه.
وقال القرطبى: لا يقال كيف جعلت بعض الأزمنة أعظم حرمة من بعض فإنا نقول: للبارى - تعالى - أن يفعل ما شاء، ويخص بالفضيلة ما يشاء ليس لعمله علة، ولا عليه حجر، بل يفعل ما يريد بحكمته، وقد تظهر فيه الحكمة وقد تخفى.
وقوله: { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } تحريض للمؤمنين على قتال المشركين بقلوب مجتمعه، وعزيمة صادقة.
وكلمة { كَآفَّةً } مصدر فى موضع الحال من ضمير الفاعل فى { قَاتِلُواْ } أو من المفعول وهو لفظ المشركين. ومعناها: جميعا.
وقالوا: وهذه الكلمة من الكلمات التى لا تثنى ولا تجمع ولا تدخلها أل ولا تعرب إلا حالا فهى ملتزمة للإفراد والتأنيث مثل: عامة وخاصة.
أى: قاتلوا - أيها المؤمنون - المشركين جميعا، كما يقاتلونكم هم جميعا، بأن تكونوا فى قتالكم لهم مجتمعين متعاونين متناصرين. لا مختلفين ولا متخاذلين.
وقوله: { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلْمُتَّقِينَ } تذييل قصد به إرشادهم إلى ما ينفعهم فى قتالهم لأعدائهم بعد أمرهم به.
أى: واعلموا - أيها المؤمنون أن الله تعالى - مع عباده المتقين بالعون والنصر والتأييد، ومن كان الله معه فلن يغلبه شئ فكونوا - أيها المؤمنين من عباد الله المتقين الذين صانوا أنفسهم عن كل ما نهى عنه؛ لتنالوا عونه وتأييده.
ثم نعى - سبحانه - على ما كانوا يفعلون من تحليل وتحريم للشهور على حسب أهوائهم.. فقال تعالى: { إِنَّمَا ٱلنَّسِيۤءُ زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ... } والنسئ: مصدر بزنة فعيل مأخوذ من نسأ الشئ إذا أخره. ومنه نسأت الإِبل عن الحوض إذا أخرتها عنه. ومنه أنسأ الله فى أجل فلان، أى: أخره والمراد به: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر.
وقد أشار صاحب الكشاف إلى الأسباب التى جعلت المشركين يحلون الأشهر الحرم فقال: "كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمونه مكانه شهر آخر - وكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها - حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم؛ فكانوا يحرمون من شتى شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } أى ليوافقو العدة التى هى الأربعة ولا يخالفوها وقد خالفوا التخصيص الذى هو أحد الواجبين".
والمعنى: إنما النسئ الذى يفعله المشركون، من تأخيرهم حرمة شهر إلى آخر، { زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } أى: زيادة فى كفرهم؛ لأنهم قد ضموا إلى كفرهم بالله كفرا آخر، هو تحليلهم لما حرمه الله وتحريمهم لما أحله وبذلك يكونون قد جمعوا بين الكفر فى العقيدة والكفر فى التشريع.
قال القرطبى: وقوله: { زِيَادَةٌ فِي ٱلْكُفْرِ } بيان لما فعلته العرب من جمعها أنواعا من الكفر، فإنها أنكرت وجود البارى - تعالى - فقالت:
{ { وَمَا ٱلرَّحْمَـٰنُ } فى أصح الوجوه. وأنكرت البعث فقالت { { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وأنكرت بعثة الرسل فقالوا: { { أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ } وزعمت أن التحليل والتحريم إليها، فابتدعته من ذاتها مقتفية لشهواتها فأحلت ما حرمه الله: ولا مبدل لكلماته ولو كره المشركون.
وقوله { يُضَلُّ بِهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } قرأه الكوفيون بضم الياء وفتح الضاد بالبناء للمفعول.
أى: يوقع الذين كفروا بسبب ارتكابهم للنسئ فى الضلال والموقع لهم فى هذا الضلال كبراؤهم وشياطينهم.
وقرأه أهل الحرمين وأبو عمرو { يُضَلُّ } بفتح الياء وكسر الضاد بالبناء للفاعل.
أى: يضل الله الذين كفروا، بأن يخلق فيهم الضلال بسبب مباشرتهم لما أدى إليه وهو ارتكابهم للنسئ.
ويصح أن يكون الفاعل هو الذين كفروا أى يضل الذين كفروا عن الحق بسبب استعمالهم للنسئ الذى هو لون من ألوان استحلال محارم الله.
وقوله: { يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً } بيان وتفسير لكيفية ضلالهم.
والضمير المنصوب فى { يُحِلُّونَهُ..وَيُحَرِّمُونَهُ } يعود إلى النسئ، أى الشهر المؤخر عن موعده.
والمعنى أن هؤلاء الكافرين من مظاهر ضلالهم، أنهم يحلون الشهر المؤخر عن وقته عاما من الأعوام، ويحرمون مكانه شهرا آخر ليس من الأشهر الحرم، وأنهم يحرمونه أى: يحافظون على حرمة الشهر الحرام عاما آخر، إذا كانت مصلحتهم فى ذلك.
والمواطأة: الموافقة. يقال: واطأت فلاناً على كذا إذا وافقته عليه بدون مخالفته.
والمعنى: فعل المشركون ما فعلوه من التحليل والتحريم للأشهر على حسب أهوائهم، ليوافقوا بما فعلوه عدة الأشهر الحرم، بحيث تكون أربعة فى العدد وإن لم تكن عين الأشهر المحرمة فى شريعة الله.
قال ابن عباس: ما أحل المشركون شهراً من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهراً من الأشهر الحلال. وما حرموا شهراً من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الأشهر الحرام، لكى يكون عدد الأشهر الحرم أربعة.
وقوله: { فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ } تفريع على ما تقدم.
أى: فيحلوا بتغييرهم الشهور المحرمة، ما حرمه الله فى شرعه. فهم وإن كانوا وافقوا شريعة الله فى عدد الشهور المحرمة، إلا أنهم خالفوه فى تخصيصها فقد كانوا - مثلا - يستحلون شهر المحرم ويحرمون بدله شهر صفر.
وقوله: { زُيِّنَ لَهُمْ سُوۤءُ أَعْمَالِهِمْ } ذم لهم على انتكاس بصائرهم، وسوء تفكيرهم.
أى: زين لهم الشيطان سوء أعمالهم، فجعلهم يرون العمل القبيح عملا حسنا. وقوله: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } تذييل قصد به التنفير والتوبيخ للكافرين.
أى: والله تعالى. اقتضت حكمته أن لا يهدى القوم الكافرين إلى طريقه القويم، لأنهم بسبب سوء اختيارهم استحبوا العمى على الهدى، وأثروا طريق الغى على طريق الرشاد.. فكان أمرهم فرطا.
هذا، ومن الأحكام والآداب التى أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى.
1- أن السنة اثنا عشر شهراً، وأن شهور السنة القمرية هى المعول عليها فى الأحكام لا شهور السنة الشمسية.
قال الفخر الرازى، اعلم أن السنة عند العرب عبارة عن اثنى عشر شهراً من الشهور القمرية، والدليل عليه هذه الآية - { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ } الآية، وقوله. تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ... } فجعل تقدير القمر بالمنازل علة للسنين والحساب وذلك إنما يصح إذا كانت السنة معلقة بسير القمر.
وأيضاً قوله. تعالى:
{ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ } }. ثم قال: واعلم أن مذهب العرب من الزمان الأول أن تكون السنة قمرية لا شمسية، وهذا الحكم توارثوه عن إبراهيم وإسماعيل. عليهما السلام. فأما عند اليهود والنصارى، فليس الأمر كذلك..
وقال الجمل: قوله { ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً } هذه شهور السنة القمرية التى هى مبنية على سير القمر فى المنازل، وهى شهور العرب التى يعتد بها المسلمون فى صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم. وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يوماً. والسنة الشمسية عبارة عن دوران الشمس فى الفلك دورة تامة، وهى ثلثمائة وخمسة وستون يوماً. وربع يوم. فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام، فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة فى الشتاء وتارة فى الصيف.
هذا، وقد تكلم بعض المفسرين عن الشهور القمرية، وعن سبسب تسميتها بما سميت به فارجع إليه إن شئت.
2- وجوب التقييد بما شرعه الله من أحكام بدون زيادة أو نقصان عليها.
قال القرطبى ما ملخصه: وضع - سبحانه - هذه الشهور وسماها بأسمائها على مارتبها عليه يوم خلق السماوات والأرض، وأنزل ذلك على أنبيائه فى كتبه المنزلة، وهو معنى قوله: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً }. وحكمها باق على ما كانت عليه لم يزلها عن ترتيبها تغيير المشركين لأسمائها، وتقديم المقدم فى الاسم منها.
والمقصود من ذلك اتباع أمر الله فيها، ورفض ما كان عليه أهل الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها.
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - فى خطبته فى حدة الوداع:
"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .
ثم قال القرطبى؛ كانوا يحرمون شهراً فشهراً حتى استدار التحريم على السنة كلها. فقام الإِسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذى وضعه الله فيه. فهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .
3- أخذ بعضهم من قوله تعالى - { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أن تحريم القتال فى الأشهر الحرم ثابت لم ينسخ، وأنه لا يصح القتال فيها إلا أن يكون دفاعاً.
قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبى رباح أنه ما يحل للناس أن يغزوا فى الحرم ولا فى الأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا فيها.
وذهب جمهور العلماء إلى أن تحريم القتال فى الأشهر الحرم قد نسخ، بدليل أن الله - تعالى - بعد أن نهى المؤمنين عن أن يظلموا أنفسهم بالقتال فيها أمرهم بقتال المشركين من غير تقيد يزمن فقال { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فدل ذلك على أن القتال فى الأشهر الحرم مباح.
وبدليل أن النبى - صلى الله عليه وسلم - حاصر أهل الطائف فى شهر حرام وهو شهر ذى القعدة.
قال ابن كثير: ثبت فى الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى هوزان فى شوال، فلما كسرهم.. لجأوا إلى الطائف، فعمد - صلى الله عليه وسلم - إلى الطائف فحاصرهم أربعين يوماً، وانصرف ولم يفتتحها فثبت أنه حاصر فى الشهر الحرام - أى. فى شهر ذى القعدة.
ثم قال ما ملخصه: وأما قوله - تعالى { وَقَاتِلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف. ويكون من باب التهييج للمؤمنين على قتال أعدائهم.. ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال أعدائهم فى الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم - أى من الأعداء: كما قال: - تعالى -
{ ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } وكما قال - تعالى - { { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } }. وهكذا الجواب عن حصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها، فإنهم الذين بدأوا القتال للمسلمين.. فعند ذلك قصدهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين، وقتلوا جماعة منهم.. واستمر حصار المسلمين لهم أربعين يوماً، وكان ابتداؤه فى شهر حلال، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياما ثم قفل عنهم، لأنه يغتفر فى الدوام مالا يغتفر فى الابتداء، وهذا أمر مقرر.
ومن كلام ابن كثير.رحمه الله - نستنتج أنه يميل إلى القول بأن المنهى عنه هو ابتداء القتال فى الأشهر الحرم، لا إتمام القتال فيها متى بدأ الاعداء ذلك وهو قريب من قول القائل: لا يحل القتال فيها ولا فى الحرم إلا إن يكون دفاعاً.
وهذا القول هو الذى تطمئن إليه النفس، لأنه لم يثبت أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدأ أعداءه القتال فى الأشهر الحرم، وإنما الثابت أن الأعداء هم الذين ابتدأوا قتال المسلمين فيها، فكان موقف المسلمين هو الدفاع عن أنفسهم:
4- ذكر المفسرون روايات فى أول من أخر حرمة شهر إلى آخر، فعن مجاهد قال: كان رجل من بنى كنانة يأتى كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول: أيها الناس. إنى لا أعاب ولا أخاب ولا مرد لما أقول. إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر. ثم يجئ العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول: إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هذا رجل من بنى كنانة يقال له "القلمس" وكان فى الجاهلية. وكانوا فى الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض فى الشهر الحرام. يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمد إليه يده. فلما كان هو قال لقومه: أخرجوا بنا - أى للقتال - فقالوا له: هذا المحرم. قال: ننسئه العام، هى العام صفران. فإذا كان العام القابل قضينا.. جعلنا هما محرمين.
قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: لا تغزوا فى صفر. حرموه مع المحرم. هما محرمان".
وقد كان بعض أهل الجاهلية يتفاخر بهذا النسئ، ومن ذلك قول شاعرهم:

ومنا ناسئ الشهر القلمس

قال آخر:

ألسنا الناسئين على معد شهور الحل نجعلها حراما

وقد أبطل الإِسلام كل ذلك، وأمر بترتيب الشهور على ما رتبها - سبحانه - عليه يوم خلق السماوات والأرض.
وبعد: فهذه سبع وثلاثون آية من أول السورة إلى هنا، نراها - فى مجموعها كما سبق أن بينا - قد حددت العلاقات النهائية بين المسلمين وبين أعدائهم من المشركين وأهل الكتاب، كما نراها قد أبرزت الأسباب التى دعت إلى هذا التحديد بأسلوب حكيم مؤثر، يقنع العقول، ويشبع العواطف.
ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى الحديث عن غزوة تبوك وما جرى فيها من أحداث متنوعة.. وقد استغرق هذا الحديث معظم آيات السورة، لا سيما فيما يتعلق بهتك أستار المنافقين، والتحذير منهم.
وقد بدأت السورة حديثها عن غزوة تبوك بتوجيه نداء إلى المؤمنين نعت فيها على المتثاقلين عن الجهاد، وحرضت عليه بشتى ألوان التحريض قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ...إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }.