خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٦٩
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَٰهِيمَ وَأَصْحَـٰبِ مَدْيَنَ وَٱلْمُؤْتَفِكَـٰتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَـٰتِ فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
٧٠
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

وقوله - تعالى - { كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً... } جاء على أسلوب الالتفات من الغيبة إلى الخطاب لزجر المنافقين، وتحريك نفوسهم إلى الاعتبار والاتعاظ.
والكاف فى قوله: { كَٱلَّذِينَ } للتشبيه، وهى فى محل رفع خبر لمبتدأ محذوف.
والتقدير: أنتم - أيها المنافقون - حالكم كحال الذين خلوا من قبلكم من الطغاة فى الانحراف عن الحق، والاغترار بشهوات الدنيا وزينتها، ولكن هؤلاء الطغاة المهلكين، يمتازون عنكم بأنهم { كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً } فى أبدانهم، وكانوا "أكثر" منكم { أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً }.
وقوله: { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } بيان لموقف هؤلاء المهلكين من نعم الله - تعالى - والخلاق: مشتق من الخلق بمعنى التقدير. وأطلق على الحظ والنصيب لأنه مقدر لصاحبه.
أى: كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، ولكنهم لم يشكروا الله على إحسانه، بل فتنوا بما بين أيديهم من نعم، واستمتعوا بنصيبهم المقدر لهم فى هذه الحياة الدنيا، استمتاع الجاحدين الفاسقين.
والتعبير بالفاء المفيدة للتعقيب فى قوله: { فَٱسْتَمْتَعُواْ }؛ للإِشعار بأن هؤلاء المهلكين بمجرد أن امتلأت أيديهم بالنعم، قد استعملوها فى غير ما خلقت له، وسخروها لإِرضاء شهواتهم الخسيسة، وملذاتهم الدنيئة.
وقوله: { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } ذم للمخاطبين وللذين سبقوهم؛ لانتهاجهم جميعاً طريق الشر والبطر.
أى: فأنتم - أيها المنافقون - قد استمعتم بنصيبكم المقدر لكم من ملاذ الدنيا، وشهواتها الباطلة، كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم فى ذلك.
وقوله: { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } معطوف على ما قبله.
أى: وخضتم - أيها المنافقون - فى حمأة الباطل وفى طريق الغرور والهوى، كالخوض الذى خاضه السابقون من الأمم المهلكة.
قال الآلوسى قوله: "وخضتم" أى: دخلتم فى الباطل { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ }.
أى: كالذين فحذفت نونه تخفيفاً، كما فى قول الشاعر:

إن الذى حانت بفلج دماؤهم هم القوم كل القوم يا أم خالد

ويجوز أن يكون "الذى" صفة لمفرد اللفظ، مجموع المعنى، كالفوج والفريق، فلوحظ فى الصفة اللفظ. وفى الضمير المعنى، أو هو صفة لمصدر محذوف، أى: كالخوض الذى خاضوه، ورجح بعدم التكلف فيه.
وقال صاحب الكشاف: فإن قلت: أى فائدة فى قوله: { فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ } وقوله: { كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ } مغن عنه كما أغنى قوله: { كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } عن أن يقال: وخاضوا فخضتم كالذى خاضوا؟
قلت: فائدته أن يذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا ورضاهم بها، والتهائهم بشهواتهم الفانية عن النظر فى العاقبة، وطلب الفلاح فى الآخرة، وأن يخسس أمر الاستمتاع، ويهجن أمر الرضا به، ثم يشبه بعد ذلك حال المخاطبين بحالهم، كما تريد أن تنبه بعض الظلمة على سماجة فعله فتقول: أنت مثل فرعون: كان يقتل بغير جرم، ويعذب ويعسف وأنت تفعل مثل ما فعله.
وأما { وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } فمعطوف على ما قبله مستند إليه، مستغن باستناده إليه عن تلك التقدمة.
وقوله: { أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } بيان لسوء مصيرهم فى الدارين.
واسما الإِشارة يعودان على المتصفين بتلك الصفات القبيحة من السابقين واللاحقين.
أى: أولئك المستمتعون بنصيبهم المقدر لهم فى الشهوات الخسيسة، والخائضون فى الشرور والآثام "حبطت أعمالهم" أى: فسدت وبطلت أعمالهم التى كانوا يرجون منفعتها { فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ } لأن هذه الأعمال لم يكن معها إيمان أو إخلاص، وإنما كان معها الرياء والنفاق، والفسوق والعصيان، والله - تعالى - لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم.
وقوله: { وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } أى: الكاملون فى الخسران، الجامعون لكل ما من شأنه أن يؤدى إلى البوار والهلاك.
ثم ساق لهم - سبحانه - من أخبار السابقين ما فيه الكفاية للعظة والاعتبار لو كانوا يعقلون، فقال - تعالى -: { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ... }.
والاستفهام للتقرير والتحذير. والمراد بنبأ الذين من قبلهم: أخبارهم التى تتناول أقوالهم وأعمالهم، كما تتناول ما حل بهم من عقوبات، بسبب تكذيبهم لأنبيائهم.
والمعنى: ألم يصل إلى أسماع هؤلاء المنافقين، خبر أولئك المهلكين من الأقوام السابقين بسبب عصيانهم لرسلهم، ومن هؤلاء الأقوام "قوم نوح" الذين أغرقوا بالطوفان، وقوم "عاد" الذين أهلكوا بريح صرصر عاتية، وقوم "ثمود" الذين أخذتهم الرجفة فأصبحوا فى دارهم جاثمين، "وقوم إبراهيم" الذين سلب الله نعمه عنهم، وأذل غرور زعيمهم الذى حاج إبراهيم فى ربه، و"أصحاب مدين" وهم قوم شعيب الذين أخذتهم الصيحة، و"المؤتفكات" وهم أصحاب قرى قوم لوط، التى جعل الله عاليها سافلها..
والائتفاك: معناه الانقلاب بجعل أعلى الشئ أسفله. يقال أفكه يأفكه إذا قلبه رأساً على عقب.
وذكر - سبحانه - هنا هذه الطوائف الست، لأن آثارهم باقية، ومواطنهم هى الشام والعراق واليمن، وهى مواطن قريبة من أرض العرب، فكانوا يمرون عليها فى أسفارهم، كما كانوا يعرفون الكثير من أخبارهم.
قال - تعالى -:
{ { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِٱلْلَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } }. وقوله: { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } كلام مستأنف لبيان أنبائهم وأخبارهم.
أى: أن هؤلاء الأقوام المهلكين السابقين، قد أتتهم رسلهم بالحجج الواضحات الدالة على وحدانية الله وعلى وجوب إخلاص العبادة له..
والفاء فى قوله: { فَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ } للعطف على كلام مقدر يدل عليه المقام.
أى: أتتهم رسلهم بالبينات، فكذبوا هؤلاء الرسل، فعاقبهم الله - تعالى - على هذا التكذيب. وما كان من سنته - سبحانه - ليظلمهم، لأنه لا يظلم الناس شيئاً { وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } بسبب كفرهم وجحودهم، واستحبابهم العمى على الهدى، وإيثارهم الغى على الرشد.
هذا، ومن هاتين الآيتين الكريمتين نرى بوضوح، أن الغرور بالقوة، والافتتان بالأموال والأولاد، والانغماس فى الشهوات والملذات الخسيسة. والخوض فى طريق الباطل، وعدم الاعتبار بما حل بالطغاة والعصاة..
كل ذلك يؤدى إلى الخسران فى الدنيا والآخرة، وإلى التعرض لسخط الله وعقابه.
كما نرى منها أن من سنة الله فى خلقه، أنه - سبحانه - لا يعاقب إلا بذنب، ولا يأخذ العصاة والطغاة أخذ عزيز مقتدر، إلا بعد استمرارهم فى طريق الغواية، وإعراضهم عن نصح الناصحين، وإرشاد المرشدين. وصدق الله إذ يقول:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ ٱلنَّاسَ شَيْئاً وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } }. وبعد أن تحدثت السورة الكريمة عن أحوال المنافقين، وصفاتهم، وسوء عاقبتهم.. أتبعت ذلك بالحديث عن المؤمنين الصادقين، وعما أعده الله لهم من نعيم مقيم، فقال - سبحانه -: { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ...هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ }.