خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٩
-التوبة

الوسيط في تفسير القرآن الكريم

قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: وهذا أيضا من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم فى جميع الأحوال، حتى ولا المتصدقون يسلمون منهم. إن جاء أحد منهم بمال جزيل، قالوا: هذا مراء، وإن جاء بشئ يسير قالوا: إن الله لغنى عن صدقة هذا، كما روى البخارى عن أبى مسعود - رضى الله عنه - قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا - أى: نؤاجر أنفسنا فى الحمل - فجاء رجل فتصدق بشئ كثير، فقالوا هذا يقصد الرياء، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا: إن الله لغنى عن صدقة هذا، فنزلت هذه الآية.
وأخرج ابن جرير عن عمر بن أبى سلمة عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"تصدقوا فإنى أريد أن أبعث بعثا، - أى إلى تبوك - قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله.. إن عندى أربعة آلاف: ألفين أقرضهما الله، وألفين لعيالى.
قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما أمسكت؟! فقال رجل من الأنصار: وإن عندى صاعين من تمر، صاعا لربى، وصاعا لعيالى، قال: فلمز المنافقون وقالوا: ما أعطى أبو عوف هذا إلا رياء!!
وقالوا: أو لم يكن الله غنيا عن صاع هذا!! فأنزل الله - تعالى - { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ... }"
.
وقال ابن اسحاق: كان المطوعون من المؤمنين فى الصدقات: عبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدى - أخابنى عجلان - وذلك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رغب فى الصدقة وحض عليها. فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف، وقام عاصم بن عدى وتصدق بمائة وسق من تمر، فلمزوهما، وقالوا: ما هذا إلا رياء. وكان الذى تصدق بجهده أبا عقيل - أخابنى أنيف - أتى بصاع من تمر، فأفرغها فى الصدقة، فتضاحكوا به، وقالوا: إن الله لغنى عن صاع أبى عقيل".
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآية، وهناك روايات أخرى، قريبة فى معناها بما ذكرناها.
وقوله: "يلمزون" من اللمز، يقال: لمز فلان فلانا إذا عابه وتنقصه.
والمراد بالمطوعين: أغنياء المؤمنين الذين قدموا أموالهم عن طواعية واختيار، من أجل إعلاء كلمة الله.
والمراد بالصدقات: صدقات التطوع التى يقدمها المسلم زيادة على الفريضة.
والمراد بالذين لا يجدون إلا جهدهم: فقراء المسلمين. الذين كانوا يقدمون أقصى ما يستطيعونه من مال مع قلته، إذ الجهد: الطاقة، وهى أقصى ما يستطيعه الإِنسان.
والمعنى: إن من الصفات القبيحة - أيضاً للمنافقين، أنهم كانوا يعيبون على المؤمنين، إذا ما بذلوا أمولهم لله ورسوله عن طواعية نفس، ورضا قلب، وسماحة ضمير..
وذلك لأن هؤلاء المنافقين - لخلو قلوبهم من الإِيمان - كانوا لا يدركون الدوافع السامية، والمقاصد العالية من وراء هذا البذل..
ومن أجل هذا كانوا يقولون عن المكثر: إنه يبذل رياء، وكانوا يقولون عن المقل: إن الله غنى عن صدقته، فهم - لسوء نواياهم وبخل نفوسهم، وخبث قلوبهم - لا يرضيهم أن يروا المؤمنين يتنافسون فى إرضاء الله ورسوله.
وقوله: { وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ } معطوف على قوله: { ٱلْمُطَّوِّعِينَ }.
أى: أن هؤلاء المنافقين يلمزون الأغنياء المطوعين بالمال الكثير، ويلمزون الفقراء الباذلين للمال القليل؛ لأنه هو مبلغ جهدهم، وآخر طاقتهم.
وقوله: { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } بيان لموقفهم الذميم من المؤمنين.
أى: إن هؤلاء المنافقين يستهزئون بالمؤمنين عندما يلبون دعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الإِنفاق فى سبيل الله.
وجاء عطف { فَيَسْخَرُونَ } على { يَلْمِزُونَ } بالفاء، للإِشعار بأنهم قوم يسارعون إلى الاستهزاء بالمؤمنين، بمجرد أن يصدر عن المؤمنين أى عمل من الأعمال الصالحة التى ترضى الله ورسوله.
وقوله: { سَخِرَ ٱللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } بيان لجزائهم وسوء عاقبتهم.
أى: إن هؤلاء الساخرين من المؤمنين جازاهم الله على سخريتهم فى الدنيا، بأن فضحهم وأخزاهم، وجعلهم محل الاحتقار والازدراء...
أما جزاؤهم فىا لآخرة فهو العذاب الأليم الذى لا يخف ولا ينقطع.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد بينت جانبا من طبائع المنافقين وردت عليهم بما يفضحهم ويخزيهم ويبشرهم بالعذاب الأليم.
ثم عقب الله - تعالى - هذا الحكم عليهم بالعذاب الأليم، بحكم آخر وهو عدم المغفرة لهم بسبب إصرارهم على الكفر والفسوق، فقال - تعالى -: { ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ... }.