خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
-يونس

خواطر محمد متولي الشعراوي

ومن بعد ذلك يرد الحق على حكاية العجب من أن الله أوحى لرسوله، وكذلك مسألة اتهام الرسول بالسحر، فيلفتهم إلى قضية فوق هذه القضية، وأنهم كان عليهم أن يروا العجب في غير مسألة الوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
أي: كان عليكم أن تروا هذه المسألة العجيبة، وهي خلق السماوات والأرض وتتأملوا صنعها، وكيف حدثت؟
وإذا كان الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وجعلك أيها الإنسان تطرأ على عالم، وعلى كون معدّ لك إعداداً دقيقاً، فكان يجب أن تلتفت إلى هذه المسألة قبل أي شيء آخر.
وضربنا من قبل المثل، وقلنا: هَبْ أن إنساناً ركب طائرة، ثم نفد وقودها وسقطت في الصحراء، وكُتبت له النجاة وتلفَّت حوله فلم يجد ماء أو طعاماً أو أي دليل من أدلة الحياة، ثم غلبه النوم، فلما استيقظ من نومه، وجد مائدة عليها من أطايب الطعام، وأطايب الشراب، أما كان يسأل نفسه قبل أن يأكل ويشرب: من الذي صنع وأحضر كل هذا الطعام، وكل هذا الشراب؟
وهذا الكون قد أعدَّ لك أيها الإنسان، أما كان يصح أن تفكر فيمن أعدَّ لك هذا الكون، وخلق لك كل ما ليس في متناول قدرتك، وسخّر كل ذلك لك؟ وقد أبلغك الحق: أنا خلقت السماء، وخلقت الأرض، والشمس، والنجوم، وحين وصلك هذا البلاغ، فإما أن يكون صدقاً، فلتنفذ ما أمر به الخالق. وإن لم يكن هذا الكلام صدقاً، فمن الذي خلق إذن؟ إن كان هناك إله غيره قد خلق الكون، وسمع مثل هذا البلاغ، ولم يتحرك لبيان صدق المسألة، لما كان هذا الآخر يستحق أن يكون إلها.
وما دام لم يظهر معارض له سبحانه، فهو الخالق؛ لأن الدعوى إذا ما صدرت من واحد، ولم يظهر لها معارض، فصاحبها هو من أصدرها إلى أن يوجد له معارض.
وقد ضربنا مثلاً؛ فقلنا: هَبْ أن جماعة من أصدقائك جاءوا لزيارتك، ثم خرجوا من عندك، ووجدت أنت حافظة نقود، ولم تعرف لمن هي، ثم بعثت بخادمك؛ ليسأل من كانوا في زيارتك، وقال كل واحد منهم: إن حافظة نقوده لم تضع منه، إلا واحداً قال: نعم، هي حافظة نقودي. وهكذا تثبت ملكية هذا القائل لحافظة النقود، إلى أن يثبت العكس.
والحال هنا هكذا، فحين أبلغنا الحق أنه خلق السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم وجعل في الأرض رزق البشر، ولم يعارضه أحد، إذن: يجب أن نصدق أنه الخالق.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد خلق لكم كل هذا الكون مُسخَّراً أفلا تتركون له حرية أن يختار رسولاً منكم إليكم؟ فما وجه الاعتراض إذن؟
يكشف الحق منطقهم حين قالوا:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
إذن: هم قد اعترفوا أن القرآن لا غبار عليه، لكنهم ساخطون ويعيشون في ضيق؛ لأن هذا القرآن قد جاء على يد يتيم أبي طالب.
ويكشفهم الحق أيضاً فيأتي بما جاء على ألسنتهم:
{ { ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ ... } [الأنفال: 32].
ولم يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا.
فالعداوة هي لرسول الله، وهي عداوة حاقدة غير منطقية؛ لأن كل واحد منكم كان إذا ملك شيئاً نفيساً عزيزاً عليه، فهو لا يجد أميناً عليه إلا محمداً.
إذن: فلماذا لا تغشون أنفسكم في مسألة استئمان محمد على الأشياء النفيسة، ولو كنتم غير مؤمنين بصدقه. فلماذا استأمنتموه على نفائسكم؟ أليس هو محمد بن عبد الله الذي هاجر وترك عليَّ بن أبي طالب؛ ليرد الأمانات لأصحابها؟
إذن: فلا محمد دون مستوى الرسالة والأمانة، ولا القرآن دون المستوى، بشهادتكم أنتم؛ بشهادتي القول والفعل.
وهنا يقول الحق: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... } [يونس: 3].
وفي موقع آخر بالقرآن يقول سبحانه:
{ { لَخَلْقُ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ أَكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْـثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [غافر: 57].
وما دام هذا الخلق العجيب قد صدر منه، فالتصرفات التي دون ذلك لا بد أن تكون مقبولة منه سبحانه وتعالى، وأن تكون لحكمة ما. وتعالوا نتحاكم إلى أنفسكم، أنتم تقولون:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
إذن: لا شك عندكم في أن القرآن لا طَعْنَ فيه، بل تطعنون في مسألة أنه جاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم، وتمنيتم لو أن القرآن قد جاء على يد واحد آخر تقبلونه. وأنتم في هذه المسألة غير منطقيين؛ لأنكم تريدون أن تتدخلوا في قسمة الله ورحمته في أن يُنزِل الوحي على من تشاءون، لا من يشاء هو سبحانه.
وأنتم بذلك تريدون أن تتحكموا في الرحمة العليا من الله في أن يختار رسولاً؛ ليبلغكم عنه. وتتناسون أنكم في هذه الدنيا لا تقسمون الأرزاق؛ لذلك يقول الحق:
{ { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ... } [الزخرف: 32].
فإذا كنتم تريدون أن تقسموا رحمة الله، فاعلموا هذا القول من الله:
{ { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ... } [الزخرف: 32].
وهذا الأمر السهل؛ تقسيم المعيشة في الحياة الدنيا تصرف فيه الحق سبحانه، فكيف لكم - إذن - أن تطمعوا في تقسيم الأمر العلوي وهو رحمة الله العليا في أن يرسل رسولاً.
والحق سبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ }.
وساعة تسمع كلمة "رب" ينصرف الذهن إلى الخلق وإلى التربية، ولذلك نحن نستعمل هذه الكلمة ونقول: "فلان رب هذه الأسرة" أي: أنه المتولي تربيتها، وكلمة "الرب" بمعناها المطلق تنصرف إلى الله، فهو الخالق الذي خلق من عَدَم وأمدَّ من عُدْمٍ، وهو بهذا الوصف ربّ لكل خلقه: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي.
وما دام الله سبحانه ربّاً لكل الخلق، فهو الرازق لكل خلقه، فهو الذي استدعى خلقه إلى هذه الدنيا، وهو الذي يعطي كل مخلوق الرزق الذي كتبه الله له، وهو سبحانه يأمر نواميس الكون وأسبابه أن تعطى له أو لا تعطى، فإن زرع الأرض وأحسن زراعتها؛ أعطى سبحانه الأمر للأرض أن تعطي هذا المخلوق الرزق.
وكل مخلوق يأخذ بالأسباب، يوفر له الحق النجاح في الأسباب.
وأقول دائماً لمن يرون تقدم الكفار في أمور الدنيا، ويتساءلون: لماذا يتقدم الكفار في أمور الدنيا ونتأخر نحن؟ أقول لهم: لقد أخذوا من عطاء الربوبية في الأسباب، وأنتم لم تأخذوا من عطاء الربوبية. وعليكم أيها المسلمون أن تأخذوا بالأسباب، وهي عطاء الربوبية؛ حتى لا يسبقكم الكافرون إليها، ولا تجلسوا في موقع المتفرج، بل المفروض فيكم أن تسبقوا الكفار إلى عطاء الربوبية.
أما عطاء الألوهية، وهو أن يُقِرَّ الإنسان بأن الله هو المعبود بحق، وهو المطاع في "افعل" و "لا تفعل"، فهذا العطاء لا يناله إلا مَنْ آمن به.
إذن: فالله رب الجميع، ولكنه إله مَنْ آمن به. إذن: هناك فارق بين عطاء الإله، وهو المنهج المتمثل في "افعل" و"لا تفعل"، وعطاء الربوبية المتمثل في الأمور المادية وهي شركة بين كل الناس: المؤمن والكافر، والطائع والعاصي. وحين يُحسن الكافرُ الأخذ بالأسباب؛ فهو يأخذ نتائجها.
والحق سبحانه هو القائل:
{ { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ } [الشورى: 20].
إذن: فواجب على المؤمنين أن يستقبلوا عطاء الربوبية بحسن الأخذ بالأسباب؛ ليأخذوا النتيجة، ولا يتقدم أهل الكفر عليهم؛ لأن الكافر حين يسبقك في الأخذ بالأسباب، ربما استغل هذه المسألة في أن يفرض عليك ما يخالف دينك.
وهنا يقول سبحانه: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ... } [يونس: 3].
أي: أن الذي ربَّى، هو الذي كلَّف، ويجب أن تستمعواإلى منهجه.
ثم يقول سبحانه: { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ... } [يونس: 3].
وكلمة { سِتَّةِ أَيَّامٍ } هذه وردت في كل آيات القرآن التي تحدثت عن زمن مدة الخلق للأرض والسماوات، لكن هناك آية جاءت بتفصيل ويظهر من أسلوبها أن الخلق قد استغرق ثمانية أيام، وهي في سورة فصلت:
{ { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِٱلَّذِي خَلَقَ ٱلأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } [فصلت: 9-10].
وهذه ستة أيام.
ثم يقول سبحانه:
{ { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَٰوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } [فصلت: 11-12].
وهكذا يكون المجموع ثمانية أيام، وهذا هو الفهم السطحي؛ لأن آيات الإجمال جاءت كلها بخبر الخلق في ستة أيام. وتعلم أن كل مُجمل يفسره مُفصَّله إلا العدد؛ فإن مفصَّله محمول على مجمله، فالأرض خلقها الله في يومين، وجعل فيها رواسي، وبارك فيها، وكل مخلوق ثان هو تَتمَّة للأول، فاليومان الأولان إنما يدخلان في الأربعة الأيام، وأخذت بقية الخلق اليومين الأخيرين، فصار المجموع ستة أيام.
إذن: فالزمن تتمة الزمن، ولذلك تجد أن اليوم على كوكب الزهرة أطول من عامها؛ لأن عامها بتوقيت الأرض هو مائتان وخمسة وعشرون يوماً، أما طول اليوم فيها فهو بتوقيت الأرض مائتان وأربعة وأربعون يوماً.
إذن: فاليوم على كوكب الزهرة أطول من العام فيها. والسر في ذلك أن كوكب الزهرة يخضع لدورة تختلف في سرعتها عن سرعة الدورة التي تخضع لها الأرض، فدورة كوكب الزهرة حول نفسه بطيئة، ودورته حول الشمس سريعة.
إذن: فكل كائن له نظام.
وما هو اليوم إذن؟ اليوم في اعتبارنا هو دورة الأرض حول نفسها دورة يتحقق فيها الليل والنهار. ولكننا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة اليوم ويفصلها عن الليل، فيقول سبحانه:
{ { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً ... } [سبأ: 18].
وهنا جعل الحق اليوم للضوء والكدح، والليل للظُّلمة والراحة. والحساب الفلكي يسمى الليل والنهار يوماً.
ويبين القرآن لنا أن هناك يوماً للدنيا، ويوماً للآخرة، ويوم الدنيا هو ما نحسبه نحن من شروق إلى شروق آخر، وكذلك هناك يوم عند الله هو بحساب الدنيا يقدر بألف سنة مما يحسبه البشر:
{ { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [الحج: 47].
ويقول الحق في موضع آخر:
{ { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [المعارج: 4].
إذن: فالأزمنة متعددة، ومنوعة، وتختلف من قياس إلى آخر، ومن كوكب إلى آخر. وما أظهره الله لنا في القرآن من الأزمنة إنما يدل على اختلافها، لا على التعارض والتناقض.
ثم يقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } ووقف العلماء عند كلمة "اسْتَوَى" طويلاً، واستعرضوا القرآن كله؛ ليحصروها في كتاب الله؛ فوجدوها قد جاءت في اثنتي عشرة سورة: البقرة والأعراف ويونس والرعد وطه والفرقان والقصص والسجدة وفصلت والفتح والنجم والحديد.
وأول سورة جاء فيها ذكر استواء الله على العرش هي "الأعراف" يقول الحق:
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُغْشِي ٱلَّيلَ ٱلنَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ تَبَارَكَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأعراف: 54].
وما دام الله سبحانه هو الذي خلق فلا تعترض أن يكون الأمر له، وأن يبعث سبحانه من شاء؛ ليكون رسولاً؛ لذلك فلا عجب أن أرسل لكم رجلاً منكم؛ لأنه لو كان هناك غيره سبحانه هو الذي خلق، ثم جاء ليفتئت فيأمر فيما خلق، لكان للخلق شأن آخر، لكن الله هو الذي خلق، وهو سبحانه الذي أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم.
والآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول فيها الحق: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ }، أي: استتب له الأمر.
ثم تأتي آية سورة الرعد:
{ { ٱللَّهُ ٱلَّذِي رَفَعَ ٱلسَّمَٰوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّـى يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ يُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } [الرعد: 2].
أما الصفات التي توجد في البشر، ووصف الله نفسه بها، هذه الصفات لا تؤخذ على مقتضى ما هي في البشر، فكل إنسان هو ممكن الوجود. ولكن الحق سبحانه وتعالى هو واجب الوجود؛ لذلك تؤخذ تلك الصفات في إطار
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11].
ومثال هذا: أن الحق سبحانه وتعالى له عِلْم بأنك تقرأ الآن في التفسير، وفي أي مكان تقرأه، والذين من حولك يعلمون ذلك، ولكنْ أعلْمُ الله يساوي علمَك وعلمَ مَنْ حولك؟ لا، فعلمه سبحانه وتعالى هو عِلْم أزليّ، عِلْم قبل أن توجد أنت أو يوجد غيرك؛ لذلك فأنت إذا عَلمت شيئاً، وعَلمَ الله شيئاً، فعِلْم الله يناسبه، وعلْم البشر يناسبك. وأيُّ صفة من صفات الله مطلقة، وأيُّ صفة من صفاتك نسبية؛ لأن الحق سبحانه هو واجب الوجود الأزلي، وأنت في هذه الحياة مجرد حدثٍ محدود العمر بين قوى الميلاد والموت.
فالله غني، وقد تكون أنت غنيّاً، لكن غناك لا يمكن أن يتساوى مع غنى الله. وأنت موجود والله موجود، ولكن وجودك لا يمكن أن يُقَاس بوجود الله. فذاتُ الله ليست كذواتنا، وكذلك صفات الله ليست كصفاتنا، وفعْله ليس كفعْلنا، واستواؤه سبحانه ليس كاستوائنا، بل في إطار { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } لأن الذي يُفْسِد الفهم أن يقال: "استوى" بمعنى: قعد. أو فلنأخذ الاستواء كتمثيل للسيطرة، وسبحانه مسيطر على كل شيء، والاستواء: يعني التمكن. وسبحانه القائل:
{ { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ ... } [القصص: 14].
إذن: فاستوى: تعني بلوغ تكوين الكمال في الذات. والإنسان منا وهو صغير - قبل البلوغ - إنما تنقصه بعض من درجات النضج في الجهاز العصبي، وكذلك في الجهاز التناسلي، فإذا ما بلغ اكتمل النضج، ويقال: (اَسْتَوَى) أي: صار قادراً على إنجاب مثله، وتمت له رجولته. ويقال عن الثمرة: إنها استوت
{ { فَٱسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ } [الفتح: 29].
أي: نضجت نُضْجاً يبلغها أن تعطي من ثمرتها مثل ذاتها، وبذلك تضمن بقاء نوعها.
وحين بلغ الطوفان تمامه استوت مركب سيدنا نوح ومعه المؤمنون من قومه، وقال الحق:
{ { وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِيِّ ... } [هود: 44].
أي: استقرت على الجبل واستتب الأمر.
إذن: فكل استواء لله يجب أن يؤخذ على أنه استواء يليق بذاته، وصفاته، التي قد يوجد في البشر مثلها، لكنها صفات مطلقة في إطار:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11].
وفِعْل الله لا يمكن أن يتساوى مع فعل البشر؛ ولذلك قلنا في حديث الإسراء: إن الكفار المعاصرين للإسراء حينما كذَّبوا النبي صلى الله عليه وسلم في أنه قد أسري به، قالوا: أتدَّعي أنك أتيتَ بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهراً؟ وهذا القول المستنكر يؤكد أنهم قد فهموا أن الإسراء قد حدث حقيقة.
ورغم ذلك تجد بعض المعاصرين - الذين يدعون المعاصرة والفهم - يتساءلون: ولماذا لا تقولون: إن الإسراء قد تَمَّ بالروح؟ ونقول لهم: إن كفار قريش أنفسهم الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقولوا ذلك، وفهموا أن الإسراء قد تمَّ بالجسد؛ لذلك قالوا: "أنضرب إليها أكباد الإبل شهراً، وتدَّعي أنك أتيتها في ليلة؟" بل، ولم يقولوا له: إنه رأى بيت المقدس في رؤيا أو حُلْم؛ لأنه لا أحد يُكذِّب رؤيا أو حُلْماً، وهكذا كان تكذيبهم دليلاً على التصديق للإسراء إلى أن تقوم الساعة.
ونقول لمن يدَّعي أن الإسراء إنما تَمَّ بالروح: افهم جيّداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أسري بي".
إذن: فعْل الإسراء منسوب لله، فلا تأخذ الإسراء بالقانون البشري، ولكن بالقانون الإلهي.
والزمن في مسألة الإسراء منسوب لله، لا لمحمد صلى الله عليه وسلم. والقرآن يقول:
{ { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً ... } [الإسراء: 1].
وما دام الحق قد قال: (سُبْحَانَ) أي: أن الله مُنَزَّهٌ عَمَّا في بال البشر من المسافات والقوة وغيرها.
ولقد ضربنا مثلاً لهذا - ولله المثل الأعلى - برجل يصعد بابنه الرضيع قمة جبل "إفرست"، فلا يقال: وهل يصعد الرضيع قمة الجبل؟ فالصعود منسوب هنا للرجل، ولقدرة الرجل وقوته، لا إلى الطفل.
وهكذا - ولله المثل الأعلى - فالزمن والقدرة على الإسراء منسوبان لله سبحانه، لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
ونحن في مجالنا البشرى تختلف قدراتنا في قطع المسافات وأزمانها، فمن يركب عربة يجرُّها حصان فقد يصل من القاهرة إلى الإسكندرية في أيام، ومَنْ يركب سيارة فقد يصلها في ساعتين. ومَنْ يركب طائرة فقد يصلها في نصف ساعة.
إذن: فكلما زادت القوة تجد الزمن يقل، فما بالنا بقوة القويِّ؛ أيكون معها زمن؟ طبعاً لا.
وقال الحق سبحانه لسيدنا نوح:
{ { فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ ... } [المؤمنون: 28].
أي: بعد أن ركب معك يا نوح مَنْ آمن من قومك، واطمأننت على نجاتهم، ستسير السفينة بإذن ربها.
إذن: فقول الحق عن ذاته: { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ ... } [يونس: 3].
يعني: أن الأمور قد استتبت وتمت. وهكذا نفهم أن كل شيء يتعلق بالحق سبحانه وتعالى نأخذه في إطار:
{ { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... } [الشورى: 11].
وأن كل صفة من صفاته يأتي تمثيلها ليقرب المعنى فقط ولا يعطى حقيقة المعنى؛ لأنه سبحانه ليس كمثله شيء. وهكذا فسبحانه له استواء يليق بذاته، لا كاستواء البشر.
والشاعر أبو تمام حين جاء ليمدح الخليفة المعتصم، نظر إلى الصفات التي اشتهر بها بعض القوم، "فحاتم" على سبيل المثال كان قمة الكرم. و"عنترة" هو قمة الشجاعة، "والأحنف بن قيس" قمة الحكمة، فقال الشاعر أبو تمام عن الخليفة:

إقْدَامُ عَمْروٍ في سَمَاحةِ حاتمٍ في حِلْمِ أحْنَفَ في ذكاء إيَاسِ

وهكذا صار الخليفة مَجْمع فضائل؛ لأنه أخذ إقدام عمرو، وكرم حاتم، وحلم الأحنف، وذكاء إياس. ولكن حاسد الشاعر قال: إن الأمير فوق كل من وَصَفْتَ، فهؤلاء جميعاً بالنسبة للخليفة صغار. وقال أحد الشعراء:

وشبهه المدَّاح في البأس والنَّدى بمَنْ لو رَآهُ كان أصغَر خادِمِ
ففي جَيْشِه خَمسُون ألْفاً كَعنْترٍ وَفي خَزَائِنه ألفُ ألفِ حاتمِ

وحين سمع الشاعر الأول ذلك، وكانت قصيدته الأولى "سينية"، أي: أن آخر حرف في كل أبياتها هو حرف السين، فجاء بأبيات أخرى من نفس بحر القصيدة الأولى: وقال:

لا تُنْكِروا ضَرْبي له مَنْ دُونهُ مَثلاً شَروداً في النَّدَى والباسِ
فالله قَدْ ضَرَبَ الأقَلَّ لنورهِ مثلاً من المِشْكَاةِ والنِّبراسِ

إذن: فهناك فَرْق بين تمثيل الشيء، وبين حقيقة الشيء، فحين قال الحق: { { مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ... } [النور: 35].
فهذا مثل توضيحي للبشر. وشاء الحق ذلك ليعطينا مجرد صورة؛ لأنه يتكلم عن أشياء لا وجود لها عندك. ولذلك نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن الجنة:
"فيها ما لا عَينٌ رأت، ولا أُذُنٌ سمعتْ، ولا خَطَر على قلبِ بَشَر" .
وأنت حين ترى؛ فللرؤية حدود. وحين تسمع فأنت تسمع مرائي غيرك، وما لا يخطر على البال هو القمة، فقد ارتقى الرسول في وصفه للجنة من حدود ما تراه العين إلى آفاق ما تسمعه الأذن، ثم ارتقى من حدود السمع إلى ما لا يخطر على البال؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علم أن اللغة هي ألفاظ تعبر عن معان، والمعاني توجد أولاً ثم نأتي لها بالألفاظ؛ ولذلك فالأمثال لمجرد التوضيح باللغة.
وهكذا نكون قد استوفينا فهم قوله الحق: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } بما يليق بذات الله، فلا نأخذ الاستواء على المعنى الذي يدل على مكان محيّز؛ لأنه سبحانه مُنَزَّه عن أن يكون متحيزاً في مكان؛ فذاته سبحانه ليست كالذوات، وفعله ليس كالأفعال، وصفاته ليست كالصفات.
ثم يقول بعد ذلك: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } أي: أنه يرتب الوجود ترتيباً يجعل كل شيء موضوعاً في مكانه بحكمة. والحق سبحانه وتعالى له صفة علم، وصفة إرادة، وصفة قدرة، وصفة العلم هي التي تضع كل شيء في مكانه بحكمة. وصفة الإرادة هي التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه. وصفة القدرة تبرز المراد لله.
إذن: فهناك علم، وهناك إرادة، وهناك قدرة تبرز المراد على وفق العلم. ومن المنطقي أن يدبر الله كل أمر؛ لأنه سبحانه هو الذي خلق السماوات وخلق الأرض. واستوت له الأمور بحيث لم يعد هناك خلق جديد إلا ما يبرزه بـ "كن". وهو سبحانه بعد أن خلق السماوات والأرض وخلق الإنسان وسخَّر له السماوات والأرض؛ لذلك لا بد أن يدبر سبحانه للإنسان أمور مادياته، وأمور قيمه.
أما أمور الماديات فقد ظهرت في خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والماء والهواء. وما في الأرض من عناصر تنبت للإنسان ما يحتاج إليه في قوام حياته، وهو سبحانه الذي خلق كل ذلك قبل أن يخلق الإنسان، ثم جاء بالإنسان ليكون الخليفة والسيد.
إذن: فالإنسان هو الذي طرأ على هذه الأمور المادية، وكان لا بد أن يُنزِلَ الحق سبحانه قيماً يحيا بها الإنسان كخليفة في هذه الأمور المادية.
وهكذا خلق الله القيم المعنوية، فلا تقولوا: لماذا أرسل رسولاً لا يُحسب في نظر بعض الناس من عظماء أقوامهم، ولا تقولوا لماذا أرسل محمداً بالتحديد؛ لأن هذا الإرسال هو من ضمن تدبير الأمور، و
{ { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ... } [الأنعام: 124].
إذن: فقوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } جاء ليؤكد نَفْي التعجب من أن يكون الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم:
{ { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ ... } [يونس: 2].
وعلتها أن الله هو ربكم وهو الذي خلق، ولا يجادل أحدٌ الله فيما خلق، وفيمن خلق. وإذا كان هو سبحانه الذي خلق الإنسان والكون، فلا بد أن ينظم حركة الوجود بين الإنسان والكون؛ لذلك اختار الرسول المناسب؛ ليحمل منهج القيم للإنسان في "افعل كذا" و"لا تفعل كذا". ثم ترك الحق للإنسان أموراً لا يقول له فيها: افعلها أو لا تفعلها، فهي من المباحات.
وإذا استقرأت الأفعال والأحداث، ستجد أن الذي قال الله فيه "افعل" قليل، والذي قال الله فيه "لا تفعل" قليل. وبذلك تجد المباحات أكثر من "افعل" وأكثر من "لا تفعل".
وما دام سبحانه هو الذي شاء ذلك، وترك لك أيها الإنسانُ الكثير من الأمور المباحة، فاترك القيم لله؛ لأن الكون المادي المخلوق لله في غاية الدقة وفي غاية النظام، ولم تمتنع الشمس أن تشرق أو تعطي ضوءها وحرارتها للناس، وما امتنع القمر أن يعطي نوره، وما امتنع السحاب أن يسقط مطراً مدراراً، وما امتنعت الأرض أن تتفاعل مع أي غَرْس تغرسه فتعطيك الغذاء، وكل شيء داخل في نطاق القدرة في النواميس العليا؛ مُحكم؛ ولا خلل فيه.
وإذا نظرتم إلى غير ذلك وجدتم الخلل قد حدث؛ لأن الشيء الذي لا تدخل فيه قدرة الإنسان وإرادته هو على أتم ما يكون من النظام، ولا يفسد إلا الشيء الذي للإنسان فيه عمل واختيار، ولا يعني ذلك أن كل أعمال الإنسان تعاني من الخلل، لكن الأعمال التي تعاني من الخلل هي الأعمال التي يُقبل عليها الإنسان دون منهج الله. ولو اخترنا البدائل على ضوء منهج الله، لاستقامت القيم كلها، كما استقامت لنا نواميس الكون العليا.
فإذا رأيتم فساداً فلوموا أنفسكم؛ لأن الأمر الذي لا تتناولونه بأيديكم ولا دخل لكم فيه، يعمل غاية في الدقة، فإن أردتم أن تعمل أموركم الاختيارية بغاية الدقة؛ فخذوا منهج الله في الأفعال، ولا تفسدوها أنتم بأن تختاروا البدائل على غير مرادات الله.
ولذلك أقول دائماً: إنك إذا ما رأيت عورةً في الوجود، يتعب منها المجتمع، فاعلم أن حدّاً من حدود الله قد عُطِّل. وإن وجدت أمة متخلفة، فاعلم أنها عطلت حدود الله، وإن وجدت أمة تعاني من أمراض اجتماعية جسيمة، فاعلم أنها لا تطبق منهج الله.
ويخطئ مَنْ يقصر فَهْمَ عبادة الله على أنها الانقطاع في المسجد، أو الصوم، أو إخراج الزكاة في ميعادها، أو الذهاب إلى الحج، فكل هذه هي رؤوس الإسلام تشحن العبد ليعمل وَفْق منهج الله، فالصلاة هي إعلان الولاء لله خمس مرات في اليوم، ومدة الصيام شهر كل عام، والزكاة إنما هي من فائض المال، والحج هو تَرْكٌ للمال والأهل والولد.
كل ذلك من أجل شحن الطاقة، فإذا ما شحنت الطاقة، فوجِّه الطاقة إلى عمل آخر. ولنأخذ الصلاة مثلاً: فأنت تحتاج إلى طاقة تُقيمك وتُقعدك وتستبقي حياتك؛ وقوة حركتك تحتاج كل ذلك لتصلي!
إذن: فأنت تحتاج إلى طعام، ولن تُطْعم ما لم يَكُنْ لك عمل يتيح لك شراء الطعام، وحتى يبيع لك التاجر الخضر واللحم، والفاكهة والخبز، هو يحتاج إلى مَنْ ينتج ذلك، ومَنْ ينتج الأطعمة يحتاج إلى مَنْ يدرس طبيعة الأرض والبذور ومعرفة الأوقات، وكل هذه الأمور تحتاج إلى أجهزة منظمة لإنتاج الطعام. فمن يزرع يحتاج إلى محاريث تحرث، وهذا يستلزم وجود الحديد وآخرين ليصهروه ويستخرجوا منه ما يصلح لصناعة المحاريث.
إذن: فقيامك إلى الصلاة يحتاج إلى كل هذه الأعمال. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهكذا تجد أن كل الأعمال التي تُسهِّل لك العبادة هي أعمال واجبة. والمثال: أنك حين تصلي تحتاج إلى سَتْر عورتك؛ لذلك تشتري القماش ليُفصِّل لك الخائط ما ترتديه من ملابس، وكل هذه الأعمال التي تنتج القماش وتصنع الثياب هي أعمال واجبة، بدءاً من زراعة القطن أو الكتان أو التيل وغيرها إلى المغازل ومصانع النسيج، وغير ذلك. وهكذا تجد أن كل الأعمال التي يتم الواجب بها هي أعمال واجبة، فَسَتْر العورة أمر شرعي، وهكذا يتسع مفهوم العبادة ليكون معناها: كل حركة تؤدي إلى إبقاء الصالح على صلاحه وزيادة الصالح إلى ما هو أصلح.
والمثال الذي أضربه دائماً: هو حاجة الإنسان إلى الماء للشرب، والغُسْل من الجنابة وطهو الطعام وغير ذلك، وكان الإنسان قديماً يشرب من الآبار، ثم تطور التفكير إلى إقامة شبكات لتوزيع المياه بعد تنقيتها، كل هذه أعمال تُزِيد الأمر الصالح صلاحاً؛ لأنك أخذت الماء من المطر الذي ملأ النهر، وأعليْتَ الماء في خزانات لتنقيته، ثم اكتشفت قوانين الاستطراق ومضخات المياه؛ ليصل الماء الطاهر إلى كل من يحتاجه. وهكذا تزيد الصالح صلاحاً بالتفكير واستخدام العلم بما يفيد الإنسان، إذن: فهذا عمل عبادي ما دامت النية فيه لله.
وانظر إلى يوم السوق في أي قرية، تجد من يدخله ومعه الماشية والأنعام التي يرغب في بيعها، وتجد مَنْ يدخل بالفواكه والأطعمة، ومَنْ يدخل ومعه الثياب أو أدوات المنزل، وتجد من يدخل ليس معه شيء، وبعد انتهاء السوق تجد كل إنسان قد خرج بما يحتاج، لا بما دخل لبيعه. وهكذا ألقى الله الخواطر في قلب وتفكير إنسان ما ليبيع ما لا يحتاجه، وآخر ليشتري ما يحتاجه من إنتاج غيره.
وأنت إذا نظرت إلى قرية ما، ستجد واحداً من أعيانها يرغب في بيع أرضه وقصره، ويرغب في الرحيل إلى بلدة أخرى، وهكذا ترى الميزان الاقتصادي الإلهي، الذي يوزع العباد في الأماكن التي تليق بكل واحد منهم، فإذا ما زاد واحد عن الحاجة في مكان، فهو يرحل إلى مكان آخر يحتاجه. وهذا هو التدبير الإلهي على أحسن ما يكون.
وقد تجد - مثلاً - الطفل يكتب بيده اليسرى، على عكس أقرانه، وقد تضربه على ذلك، فيعجز عن الكتابة باليمنى وباليسرى، وحين يقول لك الطبيب: لقد شاء الله أن يجعل ابنك موهوباً في الخط الجميل، وهو يكتب بيده اليسرى، فأنت تتعجب، وتكتشف بالفعل أن خط الطفل باليد اليسرى جميل.
وأقول دائماً لمن يشكون أن بعضاً من أولادهم يكتبون باليد اليسرى أو يأكلون باليد اليسرى، أقول لهم: إن هذه مسألة تتعلق بالجهاز العصبي للإنسان، فهناك من خلقه الله ليَعْملَ باليد اليمنى، وهناك من خلقه الله ليعمل باليد اليسرى، وهناك من خلقه الله ليعمل بيديه الاثنتين، مثل سيدنا عمر - رضي الله عنه - وكان "أضبط" أي: يعمل بيديه الاثنتين.
وعلينا أن نحترم أقدار الله فيما خلق ومَنْ خلق. فسبحانه يخلق ما يريد، لا وَفْق قوالب، بل يخلق ما يشاء، ومع كل خَلْق مراد معين. وكما أحسن الحق تدبير ما ليس لكم دَخْلٌ فيه، فاعلموا أنه قد أنزل المنهج لِيُحسِّن مما لكم فيه دَخْلٌ، ويجعل أموركم منتظمة، وكل ذلك يدخل ضِمْنَ تدبير الأمر.
وأنت إذا نظرت إلى معنى كلمة "أمر" تجد أنها كل شيء ينشأ، ولماذا عدل سبحانه عن قول: "شيء" إلى قول: "أمر"؛ لأن كل شيء لا يوجد في الوجود إلا بـ "كن" وهي أمر. وسبحانه القائل:
{ { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].
وسبحانه يدبر الأمر في السنن المادية التي لا تتناولها يد الإنسان، فإن أراد الإنسان أن يضبط أمور حياته، فليأخذ بالمنهج الذي أنزله الله بـ "افعل" و"لا تفعل"، وأما المباحات فهي كثيرة، والإنسان حرٌّ فيها.
وإذا ما سأل سائل: ولماذا اتَّبِع المنهج؟ أقول: إن الحق شاء أن يخلق الإنسان على هيئتين: هيئة إرغامية قهرية، وهيئة اختيارية، فأنت أيها الإنسان مقهور في أشياء، ومُختار في أشياء أخرى؛ أنت مقهور في التنفس، وتتنفس آلياً دون تدخُّل منك، تتنفس مستيقظاً أو نائماً، ولو كان التنفس باختيارك، لاحتجْتَ إلى مَنْ يدير حركة تنفسك وأنت نائم؟
إذن: فمن رحمته سبحانه أن جعلك مقهوراً في مثل هذه المسألة وكذلك نبضات قلبك، أنت مقهور فيها، وكذلك أنت مقهور في الحركة الدودية للأمعاء، وللحركة الانبساطية والانقباضية في المعدة، وإفراز العصارات الهضمية، كل ذلك أنت مقهور فيه، وأنت مُختار في أشياء أخرى، كأن تشتري من البائع الفلاني، أو بائعٍ غيره، وأنت مُخَيِّر في أن تختار أصناف الطعام التي تهواها.
والمباحات في الوجود كثيرة، وما أكثر ميادين الحرية في الحياة، وما حدده لك الحق سبحانه وتعالى بـ "افعل" و "لا تفعل"، لا يخرج عن أمور محصورة تصونك وتصون مجتمعك، وكذلك الكون الذي تحيا فيه. وإنْ مارسْتَ أيها الإنسان حريتك في الأمور المباحة على أي لون شئت، فذلك لا يفسد الكون.
وقد شاء الحق سبحانه - أيضاً - أن تكون مقهوراً في بعض الأمور حتى لا يفسد الكون، فإن أكلت ما شئت من المأكولات غير المحرمة؛ فأنت حرٌّ، وإن سلك كل إنسان كما يهوى في الأمور المباحة؛ فلا مانع لذلك. وكل البشر يختلفون.
وأراد سبحانه أن يحمي الإنسان والكون؛ لأنه علم أزلاً أن أهواء البشر تتضارب، وهو القائل:
{ { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ ... } [المؤمنون: 71].
ولهذا نرى أن تدبير الله فيما لا دخل لنا فيه، تدبير مُحْكَم، وما يسير بدون تَدَخُّل من البشر إنما يتبع نظاماً مستقيماً، وشاء الحق أن يجعل نواميس الكون تعمل بدقة يندهش لها المؤمنون بالله والكافرون به، فسبحانه يحكم في مُلْكه بدقة متناهية؛ حتى إن بعض العلماء ممن لا يؤمنون بمنهج الله قد حددوا مواعيد الكسوف الكلي أو الجزئي للشمس أو القمر بدقة متناهية وذلك باستقرائهم لمعطيات الكون.
وما دُمْتم أنتم تتميزون على الكافرين بالإيمان بالله، فخذوا منهج الله في حياتكم؛ لتستقيم أموركم بمثل استقامة الكون.
ولذلك قال سبحانه: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ ... } [يونس: 3].
ويضيف: { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } وجاء الحق بمسألة الشفاعة بعد مسألة تدبير الأمر؛ لأن هؤلاء الكافرين الذين تعجبوا من إرسال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، كانوا يعبدون ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويقولون: إن تلك الأصنام تشفع لهم عند الله، مصداقاً لقوله الحق:
{ { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ ... } [يونس: 18].
ولذلك يُفصِّل الحق سبحانه مسألة الشفاعة. فالإنسان لا يحتاج إلى شفاعة عند مَنْ يملك الأمر إلا إذا ارتكب جُرْماً أو حدث منه تقصير في أمر ما. والآية أوضحت أنهم يعبدون ما لا يضرهم إن لم يعبدوه، وما لا ينفعهم إن عبدوه. وأقروا أن مثل هذه الأصنام إنما تشفع لهم، والشفاعة من الشفع، والشفع ضد الوتر. والوتر هو ما لا يقبل القسمة على اثنين، فيكون الوتر رقماً فرديّاً.
والعبد من هؤلاء له موقف من الإله الذي يعبده، وهو غير قادر على مواجهته؛ لأنه مقصر، فبدلاً من أن يقابله فرداً يأتي بآخر معه؛ ليشفع له، وهكذا يكون معنى الشفع هو تعضيد الفرد بواحد آخر؛ فينتقل من كونه وتراً إلى كونه شفعاً.
وكان الكفار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون عن تلك الأصنام: إنهم شفعاء لهم عند الله، فيقول الحق سبحانه في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها: { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ... } [يونس: 3].
لأن الشفاعة تقتضي شافعاً ومشفوعاً عنده، ومشفوعاً له، ومشفوعاً فيه، هذه هي الأربعة العناصر في الشفاعة. والذي يستشفع هو المقصِّر، وهؤلاء الكفار قالوا عن الأصنام: إنها شفعاء لهم عند الله، وهذا إقرار منهم بالتقصير، وأقروا بأن المشفوع عنده هو الله، وأما المشفوع فيه؛ فهو تخفيف العذاب أو إنهاء العذاب.
إذن: فالمشفوع فيه أمر مشترك، والمشفوع عنده أمر مشترك، أما الأمر في الشافع، والأمر في المشفوع له، فهما مختلفان. وأنت - على سبيل المثال، لا تأتي بإنسان يسير في الطريق وترسله ليشفع لك (مثلاً) عند المحافظ أو عند الوزير؛ إن كانت لك حاجة عند أي منهما، بل تأتي بإنسان تعلم رضا المحافظ عنه أو رضا الوزير عنه، وله منزلة ومكانة، وهذه المنزلة والمكانة تسمحان له بالإذن في أن يكلِّم المحافظ أو الوزير في أمور الناس.
وإذا كان هذا هو الحال في الشفاعة من البشر لدى البشر، فما بالنا بالشفاعة للإنسان لدى الله؟ لذلك بيَّن الحق هنا أن الشفيع لا بد أن يكون بإذن منه سبحانه { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } [يونس: 3].
وفي سورة البقرة يقول سبحانه:
{ { مَن ذَا ٱلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ... } [البقرة: 255].
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [طه: 109].
إذن: فالشفيع لا بد له من إذن ورضاً من الله.
أما المشفوع له فقد قال الحق:
{ { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ ... } [الأنبياء: 28].
هكذا بيَّن لنا الحق عناصر الشفاعة: الشافع، والمشفوع له، والمشفوع عنده وهو الله سبحانه، والمشفوع فيه هو الذنوب وهي معروفة.
ولقائل أن يتساءل: ما دام الحق سبحانه قد رضي عن عبد، فلماذا يحتاج العبد إلى الشفاعة؟
وأقول: لننتبه إلى أن الإنسان يتعرض لأعمال كثيرة، وله نقاط ضعف في حياته؛ قد تكون كثيرة، وقد تكون قليلة، فإذا جاء في نقطة الضعف وأذنب ذنباً، فعليه أن يزيد من فعل النقاط القوية التي تُكتب له بها الحسنات؛ لأن المعيار هو:
{ { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [هود: 114].
فالعبد حين يزيد من الحسنات فالحق سبحانه قد يمحو السيئات، وليعلم كل إنسان أنه إن اختلس من الله حكماً فهو لن يستطيع أن يهرب من العقاب، وعليه أن يزيد من الحسنات، ويرجو المغفرة من الله؛ وقبول التكفير بالحسنات عن السيئات، ولن يُفلت أحد من ملكوت الله.
وهَبْ أن إنساناً فيه نقطة ضعف، وأذنب ذنباً، وعنده نقطة قوة يطيع فيها الله بسهولة ويُسْر، هذا الإنسان له أن يعلم أن الله يحبه لأجل نقطة قوته هذه، وقد يرحمه الله سبحانه فيما أذنب من الذنوب، ويجعل المأذون له في الشفاعة يشفع له عنده سبحانه.
فلماذا أراد الحق ذلك؟
شاء الحق ذلك حتى لا يُحرَمُ العالم من الحسنات التي يجيدها ذلك الإنسان. ويحكي لنا الحديث النبوي الشريف عن الرجل الذي لقي كلباً يلهث من العطش، ولم يجد الرجل إناء يملأه ماء من البئر ليسقي الكلب، فنزل البئر وملأ خفه، وعاد إلى الكلب ليسقيه. وبطبيعة الحال لم يكن هذا الرجل لينافق الكلب، بل منتهى الرحمة بهذا الحيوان، كذات خلقها الله؛ لذلك غفر الحق سبحانه لهذا الرجل.
وهكذا نفهم أن الحق يغفر ويمحو السيئات. وقد جعل الحق سبحانه الشفاعة لرسول الله تكريماً له صلى الله عليه وسلم، وكذلك في المأذون له في الشفاعة، حتى يعلم المسلم أن الرسول قد يشفع له، وأن المؤمن قد يشفع لأخيه، وأن الأب قد يشفع لابنه، وحين يعلم المسلم ذلك، فهو يحسن إلى كل هؤلاء؛ لعله يحصل على الشفاعة منهم، ويحسن اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحسن معاملة المؤمنين، ويحسن الابن معاملة والديه، وهكذا يعيش المجتمع في كرامة الشفاعة بعمل الخير وإخلاص النية.
وإذا رأيت إنساناً محسناً في دينه، فلا بد لك أن تحترمه؛ لأن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛ ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول:
{ { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].
وكان الحق سبحانه قادراً أن ينزلها "إياك أعبد وإياك أستعين" ولكنه شاء أن تنزل على صورتها تلك؛ حتى يأذن سبحانه بقبول الصفقة من كل قائليها، فيتقبل من عباده أعمالهم بما يغفر لبعضهم الأشياء المعيبة.
ولذلك أقول: إن رأيت إنساناً مستغرقاً في العبادة فلا تسخر منه ولا تهزأ به؛ لأن حرصه على الطاعة وانشغاله بالعبادة قد تنفعك أنت.
وساعة تتلقى أمراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجده شاقّاً، فعليك أن تتذكر أنه المرجع الذي قد يشفع لك في الأمور التي لم تقدر عليها.
ولا بد أن يرضى الحق عن المشفوع له؛ لأنه قد أجاد فعل حسنات. وإن كانت له سيئات، وقد رأى رجل سيدنا عمر في رؤيا، فسأل الرائي سيدنا عمر بن الخطاب: ماذا فعل الله بك يا ابن الخطاب؟ فقال سيدنا عمر: غفر الله لي. فسأل الرائي: بماذا؟ أجاب سيدنا عمر: لأني رأيت غلاماً يعبث بعصفور فاشتريته حتى لا أفجعه في عصفور يملكه، وأخذت العصفور وأطلقته.
واعترض أحد السامعين للرؤيا متسائلاً: ألم يفعل ابن الخطاب أعمالاً تؤهله لمغفرة الله إلا مسألة العصفور هذه؟ فقال له قائل: أحسن الفهم يا رجل؛ فمسألة إطلاق العصفور إنما تخص غفر الخطايا، وأما أعمال عمر بن الخطاب الجليلة فهي لرفع الدرجات.
وفي القرآن آيتان جاءتا بنص متقارب، فالحق يقول:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ... } [البقرة: 48].
والآية الثانية تقول:
{ { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ ... } [البقرة: 123].
ومن حاولوا المقارنة بين الآيتين بغرض الطعن في القرآن، هم من الغرباء عن اللغة ولا يملكون ملكة البيان التي يمكن أن يستقبلوا الأساليب بها، ولو امتلكوا هذه الملكة لعلموا أن الصدر في الآيتين محتمل لوجهين، فهناك نفس جازية هي التي تتشفع ونفس مجزيٌّ عنها هي التي يُتشفع لها.
والضمير الذي يأتي في قوله الحق: { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا } و { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا } و { وَلاَ تَنفَعُهَا }، هذا الضمير يصح أن يرجع إلى النفس الشافعة، ويصح أن يرجع إلى النفس المشفوع لها. والإنسان منا إذا ما كان عليه شيء لإنسان آخر، وغير قادر على أن يستبرئ ذمته منه، فهو يلجأ إلى صديق لهذا الآخر، له مكانة عنده ليستشفع له. وفور أن يذهب صاحب المكانة إلى هذا الآخر فهو يقول له: هل تقبل شفاعتي لفلان؟ فإن قال صاحب الأمر: لن أقبل الشفاعة، فالمستشفع عنده يقول له: إذن: سأدفع العدل، أي: ما يساوي قيمة ما كنت سأتشفع له فيه. وهكذا نجد أنفسنا أمام نفسين: شافعة، ومشفوع لها. والضمير يعود على أي من النفسين.
وهكذا نجد أن صدر كل آية من الآيتين اللتين يقال عنهما: إنهما متشابهتان، صدر كل منهما منسجم مع عجزها.
وينهي الحق سبحانه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بعد أن أوجزت الآية فكرة عن خلق الله تعالى للكون، وأنه يشفع لمن شاء ويختار من يقدم له الشفاعة، فيقول: { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [يونس: 3].
فسبحانه خلق الكون، واستتبَّت بيده مقاليد الأمور، وخلق الإنسان ليعمر هذا الكون، ونعلم أنه سبحانه قد شهد لنفسه أنه لا إله إلا هو، وحين يشهد الحق لنفسه، فسبحانه على ثقة تامة بأن أوامره في كونه نافذة.
وقوله سبحانه: { ذٰلِكُمُ } أي: إشارة إلى ما تقدم من خلق السماوات والأرض، والاستواء على العرش، وتدبير الأمر كله، ولا أحد يشفع عنده إلا بإذنه، هذا هو الله ربكم، وما دام هو ربكم فاعبدوه؛ لأنه هو الذي خلق من عدم، وأمد من عُدْم، وله كل صفات الكمال المطلق.
وهذه العبادة لا تعود عليه سبحانه بأي فائدة، فسبحانه منزَّه عن فائدة تعود عليه؛ لأنكم إن عبدتموه فلن تزيدوا في ملكه شيئاً، وإن لم تعبدوه فلن تنقصوا من ملكه شيئاً. والعبادة يعود نفعها عليكم؛ لأنكم ستأخذون بها منهجاً يخرج كل الخلق عن أهوائهم، ويصير هوى الموجِّه واحداً، فلا تصطدم إرادة بإرادة، بل تتساند الإرادات؛ فيتكامل العالم.
إذن: فالعبادة توحِّد أهواء الخلق إلى مراد واحد، لا يأنف الإنسان منا أن يخضع له؛ لأن هذا ليس خضوعاً من بشر لبشر، بل خضوعاً من مخلوق لخالق، وبذلك تستقيم أموركم الاختيارية، كما استقامت أموركم غير الاختيارية.
وهكذا لا تنحصر العبادة في أركان الإسلام الخمسة فقط، بل تكون هذه الأركان الخمسة هي الدعائم التي تقوم عليها عمارة الإسلام، وكل الإسلام هو كل أمر لله وكل نهي له سبحانه؛ ولذلك حين نتابع تسلسل الأمور، سنجد أن أركان الإسلام الواجبة تعتمد على حركة الحياة كلها، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويقول الحق في آخر الآية: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } والذهن أو المخ - كما نسميه - فيه ملكات متعددة مثل: ملكة التخيُّل، وملكة الحفْظ والاختزان، وكثير من الملكات الأخرى منها مَلكَةُ التذكُّر. ومعنى التذكُّر أن شيئاً سبق لك إلْفٌ به، فطرأ عليك ما أنساك، وحين تنسى أمراً يخصُّ أحد أقرانك، فهو يقول لك: تذكر يا أخي الأمر الفلاني، وهو لا يأتي لك بأمرٍ مجهول لم تعرفه أولاً، بل يأتي لك بأمر كان معلوماً لك، ولكنك نسيته.
والإنسان حين ينظر إلى الكون نظرة غير متحيزة لا بد أن يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً، وهذا الأمر لا نأخذه من الفلاسفة، بل من رجل الشارع، وراعى الشاة؛ فقد جاء في الأثر أن راعياً كان يسير في الصحراء فرأى بَعْراً في الطريق، فقال: إذا كان البعر يدل على البعير، والسير يدل على المسير، أفلا يدل كل هذا الكون على وجود اللطيف الخبير؟!
والمثال من حياتنا اليومية: أن غسَّالة الملابس الكهربية - وهي لا تدل على شيء ضروري في الحياة، بدليل أن السابقين علينا كانوا يغسلون ملابسهم بدونها، فهي تمثل ترفاً، لا ضرورة - نجد الناس يعرفون من الذي ابتكرها، ومن أوصلها بالكهرباء ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل، ومثلها مثل المصباح الكهربي الذي يفسد بعد عدد معيّن من الساعات، ونجد التلاميذ يدرسون تاريخ من صنعه، فهل يمكن أن ننسى من خلق الشمس التي تضيء الكون؟
بل ونجد في زماننا العالم والكافر وهو يمدُّنا بأدلة الإيمان، فكل اختراع نجد مَنْ يسجله؛ حتى لا يسرقه غيره، فما بالنا بالشمس التي تضيء وتُدْفئ، والقمر الذي يحدد الشهور، والنجوم التي تدل الناس على الاتجاهات ولا شيء في كون الله يحتاج إلى قطع غيار، ألا نعترف بمن خلق كل ذلك، ها هو ذا سبحانه يدلنا على مَنْ خلق ويبلغنا ما يسجل له ملكية ما خلق، فأنزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وسلم ليدلنا على أنه سبحانه الذي خلق، وأبقى الله الكافرين ليتحدى مَنْ يناقض قضية الخلق. وسجل الحق سبحانه ما خلقه لنفسه، ولم يقدر أحد من الكافرين على إنكار ذلك.
ولن نأخذ الأدلة على وجود الله من الفلاسفة الذين يرتبون النتائج على المقدمات، ومطابقة قياس الشكل على الموضوع، بل سوف نأخذ الدليل من كلمة "الكفر" نفسها، هذه الكلمة (كفر) تعني: (ستر)، فهل يُسْتَرُ إلا موجودٌ؟
إذن: فالكفر بالله دليل على وجود الله، وما دام الكفر سَتْراً، فالكفر أمر طارئ، نتيجة للغفلة، والغفلة إنما تأتي لأن مقتضيات الإيمان تقيد النفس في حركتها؛ لذلك قد يغفل الإنسان متناسياً أن قيود المنهج لا تطبق عليه وحده، بل تطبق على كل الناس.
فحين يُحرِّم الله السرقة، فهو لم يحرمها على إنسان واحد، بل حرمها على كل إنسان، فقيَّد الآخرين ومنعهم من أن يسرقوا منك.
وحين يأمرك بغضِّ بصرك عن محارم جارك، فهو يحمي محارمك أن ينظر إليها غيرك.
إذن: فالإيمان جاء بالنفعية لكل إنسان. وما دام الأمر كذلك، نجد الحق سبحانه يقول:
{ { ٱذْكُرُواْ ... } [فاطر: 3].
وحين يجلس الإنسان بمفرده ولا تُحركه شهواته فهو يهتدي إلى الإيمان بأن هذا الكون لم يَأتِ صدفة.
واسم الخالق للكون لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله؛ لأن التصورات تختلف من إنسان لآخر. وتجد أن الفلاسفة حين أقروا بأن هذا الكون لا بُدَّ له من خالق لم يتعرفوا على الاسم، بل أخطأ بعضهم التصور وظنوا أن من خلق الكون ترك النواميس لتعمل، وتناسوا أن الخالق لا يباشر سلطانه في الكون مرة واحدة. لذلك جاء الرسل بالمعجزات التي تخرق النواميس؛ ليدلنا سبحانه على أنه هو الذي خلق، وله قيومية على ما خلق، فليست المسألة مسألة نواميس تعمل بذاتها، بل شاء سبحانه أن يدلنا على عدم الآلية في الكون.
ونحن نعلم أن الآلية التي يصممها البشر في بعض المعدات تتسبب في إحداث جمود، فالعقل الإلكتروني ليست له قيومية على المعلومات المختزنة فيه، فلا يستطيع أن يخفي منها شيئاً إذا طلبت منه.
أما عقل الإنسان فله سيطرة على معلوماته ويستطيع أن يخفي ما شاء منها، ولذلك قال الحق سبحانه:
{ { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة: 42].
فما دام قيل للإنسان: لا تكتم الحق. إذن: فله قدرة على الإخفاء.
والوردة الطبيعية - على سبيل المثال - حيويتها في ذبولها على عكس الوردة الصناعية التي تظل على جمودها ليس فيها حياة.
والحق حين يقول:
{ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ... } [المؤمنون: 80].
أو
{ { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ... } [السجدة: 4].
فهو يحرّض الإنسان على أن يتذكر، ويتفكر، ويعتبر. ولو كان القرآن يريد أن يخدع الإنسان، لما أثار انتباهه إلى ضرورة التذكر والتفكر والتدبر والاعتبار.
وأضرب هذا المثل - ولله المثل الأعلى: هب أنك ذهبت إلى محل للصوف لتشتري قماشاً متميزاً، فتجد البائع يفرد أمامك القماش، ويشده بيديه ليبين لك متانته، ثم يأخذ منه خيطاً ويحرقه ليبين لك أنه صوف خالص نقي، إن هذا البائع يحاول أن يشرح لك خبايا صناعة الصوف؛ لأنه واثق من جودة ما يبيع.
هذا ما يحدث فيما بين البشر، فما بالنا حين يعرض خالق الكون على مخلوقاته أسرار الكون ويدعوهم عبر منهجه إلى التذكُّر والتعقُّل والتفكُّر والتدبُّر والاعتبار.
والحق سبحانه يطلب منا ذلك ثقة منه في أن الإنسان منا، إن فعل ذلك؛ فسيصل إلى مراد الحق من الخلق.
وإياكم أن تظنوا أن الله خَلَق لكم، ثم خَلَق لكم، ثم أنزل لكم المنهج ليسعد حياتكم في الدنيا والآخرة، ثم اعتزلكم. لا، بل هو قيُّوم حياتكم ولا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا يفلت منه شيء، ولا أحد بقادر على أن يختلس منه شيئا.
وفي الحديث القدسي:
"يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني لا أراكم فالخلل في إيمانكم. وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فَلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم" .
وأنت في الحياة اليومية تعرف أن أحداً لا يقترب من إنسان قوي منتبه.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
{ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ ... }.