خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ
٢٢
-هود

خواطر محمد متولي الشعراوي

واختلف العلماء في معنى كلمة { لاَ جَرَمَ }، والمعنى العام حين تسمع كلمة { لاَ جَرَمَ } أي: حق وثابت، أو لا بد من حصول شيء محدد.
وحين يقول الحق سبحانه:
{ { لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ ٱلْنَّارَ .. } [النحل: 62].
أي: حَقَّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال، وتلك الأعمال مقدمة بين يدي عذابهم، فحين نسمع { لاَ جَرَمَ } ومعها العمل الذي ارتكبوه، تثق في أنه يحق على الله - سبحانه - أن يعذبهم.
وقال بعض العلماء: إن معنى: { لاَ جَرَمَ } حق وثبت.
وقال آخرون: إن معنى { لاَ جَرَمَ } هو لا بد ولا مفر.
والمعنيان ملتقيان لأن انتفاء البُدِّية يدل على أنها ثابتة.
وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة، ومادة الكلمة هي "الجرم"، والجرم: هو القطع، ويقال: جرم يده، أي: قطع يده.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } [هود: 22].
أي: لا قَطْع لقول الله فيهم بأن لهم النار، ولا شيء يحول دون ذلك أبداً، ولا بد أن ينالوا هذا الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى بـ"لا بد".
إذن: فساعة تسمع كلمة "لا جرم"، أي: ثبت، أو لا بد من حدوث الوعيد.
وأيضاً تجد كلمة "الجريمة" مأخوذة من "الجرم"، وهي قطع ناموس مستقيم، فحين نقرر ألا يسرق أحد من أحد شيئاً، فهذا ناموس مستقيم، فإن سرق واحد من آخر، فهو قد قطع الأمن والسلام للناس، وأيُّ جريمة هي قَطْع للمألوف الذي يحيا عليه الناس.
وأيضاً يقال: جرم الشيء أي: اكتسب شرَّه، ومنه الجريمة، ولذلك يقال: من الناس من هو "جارم" وهي اسم فاعل من الفعل: "جرم"، مثل كلمة "كاتب" من الفعل "كتب" و"مجروم عليه" وهي اسم مفعول، مثلها مثل "مكتوب".
فإن أخذت الجريمة من قطع الأمر السائد في النظام، فهؤلاء الذين افتروا على الله وظلموا وصدوا عن سبيل الله، فلا جريمة في أن يعذبهم الله بالنار.
ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لأن العقوبة على الجريمة ليست جريمة، بل هي مَنْع للجريمة.
وهكذا تلتقي المعاني كلها، فحين نقول: { لاَ جَرَمَ } فذلك يعني أنه لا جريمة في الجزاء؛ لأن الجريمة هي الآثام العظيمة التي ارتكبوها.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا .. } [الشورى: 40].
وقد سمَّاها الحق سيئة؛ لأنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه.
ولهذا يقول الحق سبحانه:
{ { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ .. } [النحل: 126].
وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه: { لاَ جَرَمَ }، فهي تعني: لا قطع لقول الله في أن المشركين سيدخلون النار، أو لا بد أن يدخلوا النار، أو حق وثبت أن يدخلوا النار، أو لا جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛ لأنهم هم الذين فعلوا ما يستحق عقابهم.
ويقول الحق سبحانه:
{ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلأَخْسَرُونَ } [هود: 22].
وكلمة (الأخسرون) جمع "أخسر" وهي أفعل تفضيل لخاسر، وخاسر اسم فاعل مأخوذ من الخسارة.
والخسارة في أمور الدنيا أن تكون المبادلة إجحافاً لواحد، كأن يشتري شيئاً بخمسة قروش وكان يجب أن يبيعها بأكثر من خمسة قروش، لكنه باعها بثلاثة قروش فقط، فبعد أن كان يرغب في الزيادة، باع الشيء بما ينقص عن قيمته الأصلية.
ومن يفعل ذلك يسمى "خاسر"، والخسارة في الدنيا موقوتة بالدنيا، ومن يخسر في صفقة قد يربح في صفقة أخرى.
ولنفترض أنه قد خسر في كل صفقات الدنيا، فما أقصر وقت الدنيا! لأن كل ما ينتهي فهو قصير، لكن خسارة الآخرة لا نهاية لها.
ويقول الحق سبحانه وتعالى:
{ { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف: 103-104].
وهكذا وصفهم الحق سبحانه مرة بأنهم الأخسرون، ومرة يقول سبحانه واصفاً الحكم عليهم:
{ { .. أَلاَ ذَلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ } [الزمر: 15].
وهو خسران محيط يستوعب كل الأمكنة.
وشاء الحق سبحانه بعد ذلك أن يأتي بالمقابل لهؤلاء، وفي ذلك فيض من الإيناسات المعنوية؛ لأن النفس حين ترى حكماً على شيء تأنس أن تأخذ الحكم المقابل على الشيء المقابل.
فحين يسمع الإنسان قول الحق سبحانه:
{ { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } [الانفطار: 13].
فلا بد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجَّار، فيقول الحق سبحانه:
{ { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 14].
وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الأولى وقبضة النفس الثانية، وبين البسطة والقبضة توجد الموعظة، ويوجد الاعتبار.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل الله، فصاروا إلى النار، والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.
فيقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ... }.