خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
١٥
-الرعد

خواطر محمد متولي الشعراوي

والسجود كما نعرفه حركة من حركات الصلاة، والصلاة هي وَقْفة العبد بين يدي ربه بعد ندائه له، والصلاة أقوال وأفعال مُبْتدأة بالتكبير ومُخْتتمة بالسلام؛ بفرائض وسنن ومستحبات مخصوصة.
والسجود هو الحركة التي تُبرِز كاملَ الخضوع لله؛ فالسجود وَضْع لأعلى ما في الإنسان في مُسْتوى الأدنى وهو قَدَم الإنسان؛ ونجد العامة وهُمْ يقولون: "لا ترفع رأسك عليَّ" أي: لا تتعالى عليّ، لأن رَفْع الرأس معناه التعالي، وتخفيضها بالركوع أو السجود هو إظهارٌ للخضوع، فإذا قال الله:
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الرعد: 15].
عليك أن تفهم أن هذا ما يحدث فعلاً؛ وإنْ لم يتسع ذِهْنك إلى فَهْم السجود كما يحدث منك؛ فليتسع ظنُّك على أنه مُنْتهى الخضوع والذِّلة لله الآمر.
وأنت تعلم أن الكون كله مُسخَّر بأمر الله ولأمر الله، والكون خاضع له سبحانه؛ فإن استجاب الإنسان لأمر الله بالإيمان به فهذا خير. وإنْ لم يستجب الإنسان - مثلما يفعل الكافر - فعليه سُوء عمله.
ولو استقصيتَ المسألة بدقَّة الفَهْم؛ لوجدتَ أن الكافر إنما يتمرد بإرادته المُسَيطرة على جوارحه؛ لكن بقية أبعاضه مُسخّرة؛ وكلها تؤدي عملها بتسخير الله لها، وكلها تُنفِّذ الأوامر الصادرة من الله لها؛ وهكذا يكون الكافر مُتمرداً ببعضه ومُسخَّراً ببعضه الآخر، فحين يُمرِضه الله؛ أيستطيع أنْ يعصي؟
طبعاً لا. وحين يشاء الله أن يُوقِف قلبه أيقدر أن يجعل قلبه يخالف مشيئة الله؟ طبعاً لا.
إذن: فالذي يتعوّد على التمرد على الله في العبادة؛ وله دُرْبة على هذا التمرد؛ عليه أن يُجرِّب التمرد على مرادات الله فيما لا اختيار له فيه؛ وسيقابل العجز عن ذلك.
وعليه أنْ يعرف أنه لم يتمرد بالكفر إلا بما أوسع الله له من اختيار؛ بدليل أن تسعة وتسعين بالمائة من قُدراته محكوم بالقهر؛ وواحد بالمائة من قدراته متروك للاختيار، وهكذا يتأكد التسخير.
وخضوع الكافر في أغلب الأحيان؛ وتمرّده في البعض الآخر؛ هو مُنْتهى العظمة لله؛ فهو لا يجرؤ على التمرد بما أراده الله مُسخَّراً منه.
ولقائل أن يقول: ولماذا قال الله هنا:
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ .. } [الرعد: 15].
ولم يقُلْ: "ما في السماوات وما في الأرض"؟
وأقول: ما دام في الأمر هنا سجود؛ فهو دليل على قِمّة العقل؛ وسبحانه قد جعل السجود هنا دليلاً على أنّ كافة الكائنات تعقل حقيقة الألوهية؛ وتعبد الحق سبحانه.
وهو هنا يقول:
{ وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً .. } [الرعد: 15].
وهنا يُعلمنا الحق سبحانه أن كل الكائنات ترضخ لله سجوداً؛ سواء المُسَخَّر؛ أو حتى أبعاض الكافر التي يستخدمها بإرادته في الكفر بالله؛ هذه الأبعاض تسجد لله.
ويتابع الحق سبحانه:
{ وَظِلالُهُم بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ } [الرعد: 15].
ونحن في حياتنا اليومية نسمع مَنْ يقول: "فلان يَتْبع فلاناً كَظِله"؛ أي: لا يتأبّى عليه أبداً مطلقاً، ويلازمه كأنه الظل؛ ونعلم أن ظِلَّ الإنسان تابعٌ لحركته.
وهكذا نعلم أن الظِّلال نفسها خاضعة لله؛ لأن أصحابها خاضعون لله؛ فالظل يتبع حركتك؛ وإياك أنْ تظنَّ أنه خاضع لك؛ بل هو خاضع لله سبحانه.
وسبحانه هنا يُحدِّد تلك المسألة بالغُدوِّ والآصال؛ و"الغدو" جمع "غداة" وهو أول النهار، والآصال هو المسافة الزمنية بين العصر والمغرب.
وأنت حين تقيس ظِلَّك في الصباح ستجد الظِّل طويلاً، وكلما اقتربت من الشمس طال الظل، وكلما اقترب الزوال يقصرُ الظلُّ إلى أنْ يتلاشى؛ وأبزر ما يتمايل الظل بتمايل صاحبه هو في الصبح وبعد العصر.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ قُلْ مَن رَّبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ ... }.