خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ
٢٧
-الرعد

خواطر محمد متولي الشعراوي

ونعلم أن "لولا" إذا دخلت على جملة اسمية فلها وَضْع يختلف عنه وَضْعها إذا دخلتْ على جملة فعلية، فحين نقول: "لولا زيد عندك لَزُرْتُكَ" يعني امتناع حدوث شيء لوجود شيء آخر. وحين نقول: لولا تُذاكِر دروسك. فهذا يعني حضاً على الفعل.
والحق سبحانه يقول:
{ { لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَـٰئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [النور: 13].
والجملة التي دخلت عليها "لولا" في هذه الآية هي جملة فعلية، وكأن الحق سبحانه يحضُّنا هنا على أن نلتفتَ إلى الآية الكبرى التي نزلت عليه صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن.
وقد تساءل الكافرون - كَذِباً - عن مجيء آية؛ وكان تساؤلهم بعد مجيء القرآن، وهذا كذب واقع؛ يناقضون به أنفسهم؛ فقد قالوا:
{ { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف: 31].
وهم بذلك قد اعترفوا أن القرآن بلغ حَدَّ الإعجاز وتمنَّوْا لو أنه نزل على واحد من عظماء القريتين - مكة أو الطائف.
وهم مَنْ قالوا أيضاً:
{ { وَقَالُواْ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6].
ثم يعودون هنا لينكروا الاعتراف بالقرآن كمعجزة، على الرغم من أنه قد جاء من جنس ما نبغوا فيه، فهم يتذوقون الأدب، ويتذوقون البيان، ويتذوقون الفصاحة؛ ويقيمون الأسواق ليعرضوا إنتاجهم في البلاغة والقصائد، فهم أمة تطرَبُ فيها الأذن لما ينطقه اللسان.
ولكنهم هنا يطلبون آية كونية كالتي نزلت على الرسل السابقين عليهم السلام، ونَسُوا أن الآية الكونية عمرها مَقْصور على وقت حدوثها؛ ومَنْ رآها هو مَنْ يصدقها، أو يصدقها مَنْ يُخبره بها مصدر موثوق به.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبعوث لتنظيم حركة الحياة في دنيا الناس إلى أنْ تقوم الساعة؛ ولو أنه قد جاء بآية كونية؛ لأخذتْ زمانها فقط.
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يأتي بآية معجزة باقية إلى أنْ تقومَ الساعةُ، فضلاً عن أنه صلى الله عليه وسلم قد جاءتْ له معجزات حِسيِّة؛ كتفجُّر الماء من بين أصابعه؛ وحفنة الطعام التي أشبعتْ جيشاً؛ وأظلَّتْه السحابة؛ وحَنَّ جِذْع الشجرة حنيناً إليه ليقف من فوقه خطيباً وجاءه الضَّبُّ مسلماً.
كل تلك آيات كونية هي حُجَّة على مَنْ رآها، وكذلك معجزات الرُّسل السابقين، ولولا أنَّ رواها لنا القرآن لَمَا آمنَّا بها، وكانت الآيات الكونية التي جاءت مع الرسل هي مجرد إثبات لِمَنْ عاشوا في أزمان الرسل السابقين على أن هؤلاء الرسل مُبلِّغون عن الله.
وقد شرح الحق سبحانه هذا الأمر بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:
{ { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِٱلآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا ٱلأَوَّلُونَ... } [الإسراء: 59].
أي: أن الرسل السابقين الذين نزلوا في أقوامهم وصحبتْهم الآياتُ الكونية قابلوا أيضاً المُكذِّبين بتلك الآيات، وقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أيضاً:
{ { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ ٱلأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِٱللَّهِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ قَبِيلاً } [الإسراء: 90-92].
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر:
{ { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ .. } [الأنعام: 111].
وهكذا يُبيِّن لنا الحق سبحانه أنهم غارقون في العِنَاد ولن يؤمنوا، وأن أقوالهم تلك هي مجرد حُجَج يتلكئون بها.
وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقولون:
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ .. } [الرعد: 27].
وهكذا نجد أنهم يعترفون أن له رباً؛ على الرغم من أنهم قد اتهموه من قبل أنه ساحر، وأنه - والعياذ بالله - كاذب، وحين فَتَر عنه الوحي قالوا: "إن ربَّ محمد قد قَلاَه".
وأنزل الحق سبحانه الوحي:
{ { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ ٱلأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [الضحى: 3-5].
أي: أن الوَحْي سوف يستمر، وهكذا فضح الله كَذِبهم على مَرِّ سنوات الرسالة المحمدية.
وهم هنا يتعنتون في طَلبِ الآية الحِسِّية الكونية؛ وكلمة آية كما عرفنا من قبل هي: إما آية كونية تُلفِت إلى وجود الخالق.
أو: آية من القرآن فيها تفصيلٌ للأحكام؛ وليستْ تلك هي الآية التي كانوا يطلبونها.
أو: آية معجزة تدلُّ على صِدقْ الرسالة.
وكأنَّ طلبَ الآيات إنما جاء لأنهم لم يقتنعوا بآية القرآن؛ وهذا دليل غبائهم في استقبال أدلَّة اليقين بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن جاء معجزةً، وجاء منهجاً.
والمعجزة - كما أوضحنا - إنما تأتي من جنس ما نبغ فيه القوم، ولا يأتي سبحانه بمعجزة لقوم لم يُحْسِنوا شيئاً مثلها ولم ينبغُوا فيه.
فالذين كانوا يمارسون السِّحْر جاءتْ المعجزة مع الرسول المرْسَل إليهم من نفس النوع، والذين كانوا يعرفون الطبَّ، جاء لهم رسول، ومعه معجزة مِمَّا نبغُوا فيه.
وقد جاءت معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغُوا فيه؛ فضلاً عن أن القرآن معجزة ومنهج في آنٍ واحد، بخلاف معجزة التوقيت والتقيد في زمن.
ومع ذلك، فإن كفار مكة تعنتُوا، ولم يكتفُوا بالقرآن معجزةً وآيات تدلُّهم إلى سواء السبيل؛ بل اقترحوا هم الآية حسب أهوائهم؛ ولذلك نجدهم قد ضَلُّوا.
ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك:
{ قُلْ إِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيۤ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } [الرعد: 27].
وهنا نقف وَقْفة؛ لأن البعض يحاول أن يُسقِط عن الإنسان مسئولية التكليف؛ ويدَّعي أن الله هو الذي يمنع هداية هؤلاء الكافرين. ونقول: إننا إن استقرأنا آياتِ القرآن؛ سنجد قَوْل الحق سبحانه:
{ { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة: 264].
ونجد قول الحق سبحانه:
{ { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [المائدة: 51].
ويقول سبحانه أيضاً:
{ { ...وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ } [المائدة: 108].
ومن كل ذلك نفهم أن العمل السابق منهم هو الذي يجعله سبحانه لا يهديهم، لأن الإنسان ما دام قد جاء له حُكْم أعلى، ويؤمن بمصدر الحكم؛ فمن أنزل هذا الحكم يُعطِي للإنسان معونة، لكن مَنْ يُكذِّب بمصدر الحُكْم الأعلى فسبحانه يتركه بلا معونة.
أما مَنْ يرجع إلى الله؛ فسبحانه يهديه ويدلُّه ويعينه بكل المَدَد.
ويواصل الحق ما يمنحه سبحانه من اطمئنان لمن يُنيب إليه، فيقول:
{ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ... }.