خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ
٩
-النحل

خواطر محمد متولي الشعراوي

والسبيل هو الطريق؛ والقَصْد هو الغاية، وهو مصدر يأخذون منه القول (طريق قاصد) أي: طريق لا دورانَ فيه ولا التفاف. والحق سبحانه يريد لنا أنْ نصلَ إلى الغاية بأقلِّ مجهود.
ونحن في لغتنا العاميّة نسأل جندي المرور "هل هذا الطريق ماشي؟" رغم أن الطريق لا يمشي، بل أنت الذي تسير فيه، ولكنك تقصد أن يكون الطريق مُوصِّلاً إلى الغاية. وأنت حين تُعجِزك الأسباب تقول "خلِّيها على الله" أي: أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلى المُسبِّب الأعلى.
وهكذا يريد المؤمن الوصول إلى قَصْده، وهو عبادة الله وُصولاً إلى الغاية، وهي الجنة، جزاءً على الإيمان وحُسْن العمل في الدنيا.
وأنت حين تقارن مَجْرى نهر النيل تجد فيه التفافاتٍ وتعرُّجات؛ لأن الماء هو الذي حفر طريقه؛ بينما تنظر إلى الريَّاح التوفيقي مثلاً فتجده مستقيماً؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلى مَقْصد معين. وحين يكون قَصْد السبيل على الله؛ فالله لا هَوى له ولا صاحبَ، ولا ولدَ له، ولا يحابي أحداً، وكلُّ الخَلْق بالنسبة له سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقاً فهو يضعُه مستقيماً لا عِوجَ فيه؛ وهو الحق سبحانه القائل:
{ { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6].
أي: الطريق الذي لا التواءَ فيه لأيِّ غَرَض، بل الغرض منه هو الغاية بأيسَرِ طريق.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ .. } [النحل: 9].
يجعلنا نعود بالذاكرة إلى ما قاله الشيطان في حواره مع الله قال:
{ { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [ص: 82-83].
وردَّ الحق سبحانه:
{ { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [الحجر: 41].
والحق أيضاً هو القائل:
{ { إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ } [الليل: 12].
أي: أنه حين خلق الإنسان أوضح له طريق الهداية، وكذلك يقول سبحانه:
{ { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد: 10].
أي: أن الحق سبحانه أوضح للإنسان طُرق الحق من الباطل، وهكذا يكون قوله هنا:
{ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ .. } [النحل: 9].
يدلُّ على أن الطريق المرسوم غايتُه موضوعة من الله سبحانه، والطريق إلى تلك الغاية موزونٌ من الحق الذي لا هَوى له، والخَلْق كلهم سواء أمامه.
وهكذا .. فعلى المُفكِّرين ألاَّ يُرهِقوا أنفسهم بمحاولة وَضْع تقنين من عندهم لحركة الحياة، لأن واجدَ الحياة قد وضع لها قانون صيانتها، وليس أدلّ على عَجْز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم حياة البشر إلا أنهم يُغيِّرون من القوانين كل فَتْرة، أما قانون الله فخالد باقٍ أبداً، ولا استدراكَ عليه.
ولذلك فمِنَ المُرِيح للبشر أنْ يسيروا على منهج الله والذي قال فيه الحق سبحانه حكماً عليهم أنْ يُطبِّقوه؛ وما تركه الله لنا نجتهد فيه نحن.
وقوله الحق:
{ وَعَلَىٰ ٱللَّهِ قَصْدُ ٱلسَّبِيلِ .. } [النحل: 9].
أي: أنه هو الذي جعل سبيلَ الإيمان قاصداً للغاية التي وضعها سبحانه، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر؛ ولذلك قال:
{ وَمِنْهَا جَآئِرٌ .. } [النحل: 9].
ولكي يمنع الجَوْر جعل سبيلَ الإيمان قاصداً، فهو القائل:
{ { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَاوَاتُ وَٱلأَرْضُ .. } [المؤمنون: 71].
بينما السبيل العادلة المستقيمة هي السبيل المُتكفّل بها سبحانه، وهي سبيل الإيمان، ذلك أن من السُّبل ما هو جائر أي: يُطِيل المسافة عليك، أو يُعرِّضك للمخاطر، أو توجد بها مُنْحنيات تُضِل الإنسانَ، فلا يسيرُ إلى الطريق المستقيم.
ونعلم أن السبيل تُوصِّل بين طرفين (من وإلى) وكل نقطة تصل إليها لها أيضاً (من وإلى) وقد شاء الحق سبحانه ألاَّ يقهرَ الإنسانَ على سبيل واحد، بل أراد له أنْ يختار، ذلك أن التسخير قد أراده الله لغير الإنسان مِمَّا يخدم الإنسان.
أما الإنسان فقد خلق له قدرة الاختيار، ليعلم مَنْ يأتيه طائعاً ومَنْ يعصي أوامره، وكل البشر مَجْموعون إلى حساب، ومَن اختار طريق الطاعة فهو مَنْ يذهب إلى الله مُحِباً، ويُثبِت له المحبوبية التي هي مراد الحق من خَلْق الاختيار، لكن لو شاء أنْ يُثبِتَ لنفسه طلاقة القَهْر لخَلقَ البشر مقهورين على الطاعة كما سخَّر الكائنات الأخرى.
والحق سبحانه يريد قلوباً لا قوالب؛ ولذلك يقول في آخر الآية:
{ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } [النحل: 9].
وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد لله:
{ { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء: 44].
وفي آية أخرى يقول:
{ { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ .. } [النور: 41].
إذن: لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي: الإنس والجن، كما هدى كُلَّ الكائنات الأخرى، ولكنه يريد قلوباً لا قوالبَ.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ هُوَ ٱلَّذِي أَنْزَلَ ... }.