خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً
٢٣
-الإسراء

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ وجَّهنا الله تعالى إلى القضية العقدية الكبرى: { لاَّ تَجْعَل مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ .. } [الإسراء: 22].
أراد سبحانه أنْ يُبيّن لنا أن العقيدة والإيمان لا يكتملان إلا بالعمل، فلا يكفي أن تعرف الله وتتوجّه إليه، بل لا بُدَّ أنْ تنظر فيما فرضه عليك، وفيما كلّفك به؛ لذلك كثيراً ما نجد في آيات الكتاب الكريم الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى:
{ وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلصَّبْرِ } [العصر: 1-3].
لأن فائدة الإيمان وثمرته العمل الصالح، وما دُمْتَ ستسلك هذا الطريق فانتظر مواجهة أهل الباطل والفساد والضلال، فإنهم لن يدعُوك ولن يُسالموك، ولا بُدَّ أن تُسلِّح نفسك بالحق والقوة والصبر، لتستطيع مواجهة هؤلاء.
ودليل آخر على أن الدين ليس الإيمان القوليّ فقط، أن كفار مكة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، فلو كانت المسألة مسألةَ الإيمان بإله واحد وتنتهي القضية لَكانوا قالوا وشهدوا بها، إنما هم يعرفون تماماً أن للإيمان مطلوباً، ووراءه مسئولية عملية، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن تعمل بمراده وتأخذ بمنهجه.
ومن هنا رفضوا الإيمان بإله واحد، ورفضوا الانقياد لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليُبلِغهم مراد الله تعالى، وينقل إليهم منهجه، فمنهج الله لا ينزل إلا على رسول يحمله ويُبلّغه للناس، كما قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الشورى: 51].
وها هي أول الأحكام في منهج الله: { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 23].
وقد آثر الحق سبحانه الخطاب بـ { رَبُّكَ } على لفظ (الله)؛ لأن الربَّ هو الذي خلقك وربَّاك، ووالى عليك بنعمه، فهذا اللفظ أَدْعَى للسمع والطاعة، حيث يجب أن يخجل الإنسان من عصيان المنعِم عليه وصاحب الفضل.
{ وَقَضَىٰ رَبُّكَ .. } [الإسراء: 23].
الخطاب هنا مُوجّه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في التربية والأدب، وهي تربية حَقّة؛ لأن الله تعالى هو الذي ربَّاه، وأدَّبه أحسن تأديب.
وفي الحديث الشريف:
"أدّبني ربي فأحسن تأديبي" .
قضى: معناها: حكم؛ لأن القاضي هو الذي يحكم، ومعناها أيضاً: أمر، وهي هنا جامعة للمعنييْن، فقد أمر الله ألاَّ تعبدوا إلا إيّاه أمراً مؤكداً، كأنه قضاء وحكم لازم.
وقد تأتي قضى بمعنى: خلق. كما في قوله تعالى:
{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ .. } [فصلت: 12].
وتأتي بمعنى: بلغ مراده من الشيء، كما في قوله تعالى:
{ فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا .. } [الأحزاب: 37].
وقد تدل على انتهاء المدة كما في:
{ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى ٱلأَجَلَ .. } [القصص: 29].
وتأتي بمعنى: أراد كما في:
{ فَإِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } [غافر: 68].
إذن: قضى لها معانٍ مُتعدّدة، لكن تجتمع كلها لتدل على الشيء اللازم المؤكّد الذي لا نقصَ فيه.
وقوله: { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 23].
العبادة: هي إطاعة آمر في أمره ونهيه، فتنصاع له تنفيذاً للأمر، واجتناباً للنهي، فإنْ ترك لك شيئاً لا أمرَ فيه ولا نهيَ فاعلم أنه ترك لك الاختيار، وأباح لك: تفعل أو لا تفعل.
لذلك، فالكفار الذين عبدوا الأصنام والذين أتوا بها حجارةً من الصحراء، وأعملوا فيها المعاول والأدوات لينحتوها، وتكسرت منهم فعالجوها، ووقعت فأقاموها، وهم يرون كم هي مهينة بين أيديهم لدرجة أن أحدهم رأى الثعلب يبول برأس أحد الأصنام فقال مستنكراً حماقة هؤلاء الذين يعبدونها:

أَرَبٌّ يبــولُ الثَّعلَـبانُ برأْسِهِلَقدْ ذَلَّ مَنْ بَالَتْ عَليْه الثَّعَالِبُ

فإذا ما تورطوا في السؤال عن آلهتهم هذه قالوا: إنها لا تضر ولا تنفع، وما نعبدها إلا ليقربونا إلى الله زُلْفى، كيف والعبادة طاعة أمر واجتناب نهي. فبأيّ شيء أمرتكم الأصنام؟ وعن أيّ شيء نهتْكُمْ؟! إذن: كلامُكم كذب في كذب.
وفي قوله تعالى: { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 23].
أسلوب يسمونه أسلوب قَصْر، يفيد قصر العبادة وإثباتها لله وحده، بحيث لا يشاركه فيها أحد. فلو قالت الآية: وقضى ربك أن تعبدوه .. فلقائل أن يقول: ونعبد غيره لأن باب العطف هنا مفتوح لم يُغْلَق، كما لو قُلْت: ضربتُ فلاناً وفلاناً وفلاناً .. هكذا باستخدام العطف. إنما لو قلت، ما ضربت إلا فلاناً فقد أغلقتَ باب العطف.
إذن: جاء التعبير بأسلوب القصر ليقول: اقصروا العبادة عليه سبحانه، وانفوها عن غيره.
ثم ينقلنا الحق سبحانه إلى التكليف والأمر الثاني بعد عبادته:
{ وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [الإسراء: 23].
وقد قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين في آيات كثيرة، قال تعالى:
{ وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [النساء: 36].
وقال:
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً .. } [الأنعام: 151].
وقال:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً .. } [العنكبوت: 8].
لكن، لماذا قرن الله تعالى بين عبادته وبين الإحسان إلى الوالدين؟ أتريد أن نقرب الأولى بالثانية، أم نقرب الثانية بالأولى؟
نقول: لا مانع أن يكون الأمران معاً؛ لأن الله تعالى غَيْب، والإيمان به يحتاج إلى إعمال عقل وتفكير، لكن الوالدين بالنسبة للإنسان أمر حسيّ، فهما سِرُّ وجوده المباشر، وهما رَبَّياه ووفَّرا له كل متطلبات حياته، وهما مصدر العطف والحنان.
إذن: التربية والرعاية في الوالدين مُحسَّة، أما التربية والرعاية من الله فمعقولة، فأمْر الله لك بالإحسان إلى الوالدين دليل على وجوب عبادة الله وحده لا شريك له، فهو سبحانه الذي خلقك، وهو سبب وجودك الأول، وهو مُربّيك وصاحب رعايتك، وصاحب الفضل عليك قبل الوالدين، وهل رباك الوالدان بما أوجداه هما، أما بما أوجده الله سبحانه؟
إذن: لا بد أن يلتحم حَقُّ الله بحقِّ الوالدين، وأن نأخذ أحدهما دليلاً على الآخر.
ونلاحظ أن الحق تبارك وتعالى حين أمرنا بعبادته جاء بأسلوب النفي: { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ .. } [الإسراء: 23].
يعني نهانا أن نعبد غيره سبحانه، أما حين تكلم عن الوالدين فلم يقل مثلاً: لا تسيئوا للوالدين، فيأتي بأسلوب نفي كسابقه، لماذا؟
قالوا: لأن فضل الوالدين واضح لا يحتاج إلى إثبات، ولا يحتاج إلى دليل عقليّ، وقولك: لا تسيئوا للوالدين يجعلهما مَظنَّة الإساءة، وهذا غير وارد في حَقَّهما، وغير مُتصوَّر منهما، وأنت إذا نفيتَ شيئاً عن مَنْ لا يصح أن ينفي عنه فقد ذَمَمتْه، كأن تنفي عن أحد الصالحين المشهورين بالتقوى والورع، تنفي عنه شرب الخمر مثلاً فهل هذا في حقه مدح أم ذم؟
لأنك ما قلتَ: إن فلاناً لا يشرب الخمر إلا إذا كان الناس تظنّ فيه ذلك. ومن هنا قالوا: نَفْي العيب عَمَّنْ لا يستحق العيب عَيْب.
إذن: لم يذكر الإساءة هنا؛ لأنها لا تَرِد على البال، ولا تُتصوّر من المولود لوالديه.
وبعد ذلك، ورغم ما للوالدين من فضل وجميل عليك فلا تنسَ أن فضل الله عليك أعظم؛ لأن والديك قد يَلِدانِك ويُسْلِمانك إلى الغير، أما ربك فلن يُسلمك إلى أحد.
وقوله تعالى: { إِحْسَاناً .. } [الإسراء: 23].
كأنه قال: أحْسِنوا إليهم إحساناً، فحذف الفعل وأتى بمصدره للتأكيد.
وقوله تعالى: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء: 23].
الحق سبحانه وتعالى حينما يوصينا بالوالدين، مرة تأتي الوصية على إطلاقها، كما قال تعالى:
{ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً .. } [الأحقاف: 14].
ومرّة يُعلِّل لهذه الوصية، فيقول:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ .. } [لقمان: 14].
والذي يتأمل الآيتين السابقتين يجد أن الحق سبحانه ذكر العِلّة في بِرِّ الوالدين، والحيثيات التي استوجبت هذا البِرّ، لكنها خاصة بالأم، ولم تتحدث أبداً عن فضل الأب، فقال:
{ { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً .. } [الأحقاف: 15].
وقال:
{ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ .. } [لقمان: 14].
فأين دَوْر الأب؟ وأين مجهوداته طوال سنين تربية الأبناء؟
المتتبع لآيات بر الوالدين يجد حيثية مُجْملة ذكرت دور الأب والأم معاً في قوله تعالى:
{ كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً .. } [الإسراء: 24].
لكن قبل أن يُربّي الأب، وقبل أن يبدأ دوره كان للأم الدور الأكبر؛ لذلك حينما تخاصم الأب والأم لدى القاضي على ولد لهما، قالت الأم: لقد حمله خِفّاً وحملتُه ثقلاً، ووضعه شهوة ووضعتُه كرهاً.
لذلك ذكر القرآن الحيثيات الخاصة بالأم؛ لأنها تحملتها وحدها لم يشاركها فيها الزوج؛ ولأنها حيثيات سابقة لإدراك الابن فلم يشعر بها، فكأنه سبحانه وتعالى أراد أنْ يُذكّرنا بفضل الأم الذي لم ندركه ولم نُحِسّ به.
وذلك على خلاف دور الأب فهو محسوس ومعروف للابن، فأبوه الذي يوفر له كل ما يحتاج إليه، وكلما طلب شيئاً قالوا: حينما يأتي أبوك، فدَوْر الأب - إذن - معلوم لا يحتاج إلى بيان.
والآية هنا أوصتْ بالوالدين في حال الكِبَر، فلماذا خَصَّتْ هذه الحال دون غيرها؟
قالوا: لأن الوالدين حال شبابهما وقُوتهما ليسا مظنّة الإهانة والإهمال، ولا مجال للتأفف والتضجُّر منهما، فهما في حال القوة والقدرة على مواجهة الحياة، بل العكس هو الصحيح نرى الأولاد في هذه الحال يتقربون للآباء، ويتمنون رضاهما، لينالوا من خيرهما.
لكن حالة الكِبَر، ومظهر الشيخوخة هو مظهر الإعالة والحاجة والضعف، فبعد أنْ كان مُعْطياً أصبح آخذاً، وبعد أنْ كان عائلاً أصبح عالة.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم في حديث الآمينات والمراغم، وكان على المنبر، فسمعه الصحابة يقول: آمين. ثم سكت برهة. وقال: آمين وسكت. ثم قال: آمين. فلما نزل قالوا: يا رسول الله سمعناك تقول: آمين ثلاثاً. فقال:
"جاءني جبريل فقال: رغم أنف مَنْ ذُكِرْتَ عنده ولم يُصَلّ عليك، قل: آمين. فقلت: آمين، ورغم أنفس مَنْ أدرك رمضان فلم يُغفر له، قل: آمين. فقلت: آمين، ورغم أنف مَنْ أدرك والديه - أو أحدهما - فلم يدخل بهما الجنة، قل: آمين. فقلت: آمين"
فخصَّ الحق سبحانه حال الكِبَر، لأنه حال الحاجة وحال الضعف؛ لذلك قال أحد الفلاسفة: خَيْر الزواج مبكره، فلما سُئِل قال: لأنه الطريق الوحيد لإنجاب والد يعولك في طفولة شيخوختك، وشبَّه الشيخوخة بالطفولة لأن كليهما في حال ضعف وحاجة للرعاية والاهتمام.
وصدق الحق سبحانه حين قال:
{ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً .. } [الروم: 54].
فَمنْ تزوّج مبكراً فسوف يكون له من أولاده مَنْ يُعينه ويساعده حال كِبَره.
والمتأمل في قوله تعالى: { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ .. } [الإسراء: 23].
لم تَأتِ صِفَة الكِبَر على إطلاقها، بل قيّدها بقوله: { عِندَكَ } فالمعنى: ليس لهما أحد غَيرك يرعاهما، لا أخ ولا أخت ولا قريب يقوم بهذه المهمة، وما دام لم يَعُدْ لهما غيرك فلتكُنْ على مستوى المسئولية، ولا تتنصَّل منها؛ لأنك أََوْلى الناس بها.
ويمتد البِرُّ بالوالدين إلى ما بعد الحياة بالاستغفار لهما، وإنجاز ما أحدثاه من عهد، ولم يتمكّنا من الوفاء به، وكذلك أن نصِلَ الرحم التي لا تُوصَل إلا بهما من قرابة الأب والأم، ونَصِلَ كذلك أصدقاءهما وأحبابهما ونُودَّهم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يودّ صاحبات السيدة خديجة - رضي الله عنها - وكان يستقبلهن ويكرمهن.
وانظر إلى سُمُوِّ هذا الخلق الإسلامي، حينما يُعدِّي هذه المعاملة حتى إلى الكفار، فقد جاءت السيدة أسماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله في أمها التي أتتْها. وأظهرت حاجة مع أنها كافرة، فقال لها:
"صِلِيِ أمك" .
بل وأكثر من ذلك، إنْ كان الوالدان كافرين ليس ذلك فحسب بل ويدعوان الابن إلى الكفر، ويجاهدانه عليه، ومع هذا كله يقول الحق سبحانه: { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً .. } [لقمان: 15].
فهذه ارتقاءات ببرّ الوالدين تُوضّح عظمة هذا الدين ورحمة الخالق سبحانه بالوالدين حتى في حال كفرهما ولَدَدهما في الكفر.
ويُرْوَى أن خليل الله إبراهيم - عليه السلام - جاءه ضيف بليل، وأراد أن ينزل في ضيافته، فسأله إبراهيم - عليه السلام - عن دينه فقال: مجوسي فأعرض عنه وتركه يذهب. فََسرْعان ما أوحى الحق سبحانه إلى إبراهيم مُعاتباً إياه في أمر هذا الضيف: يا إبراهيم لقد وَسعْتُه في مكي أعواماً عديدة، أطعمه وأسقيه وأكسوه وهو كافر بي، وأنت تُعرض عنه وتريد أنْ تُغيّر دينه من أجل ليلة يبيتها عندك، فأسرع الخليل خلف الضيف حتى لحق به، وحكى له ما حدث، فقال الرجل. نِعْم الرب ربٌّ يعاتب أحبابه في أعدائه، وشهد أن لا إله إلا الله، وأنَ إبراهيم رسول الله.
وقد رأى المستشرقون لِضيق أُفُقهم وقِلّة فقْههم لأسلوب القرآن الكريم، رَأَوْا تناقضاً بين قوله تعالى:
{ وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً .. } [لقمان: 15].
وبين قوله تعالى:
{ لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ .. } [المجادلة: 22].
فكيف يأمر القرآن بمصاحبة الوالدين وتقديم المعروف لهما، في حين ينهى عن مودّة مَنْ حَادّ الله ورسوله؟
ولو فَهِم هؤلاء مُعْطيات الأسلوب العربي الذي جاء به القرآن لعلموا أن المعروف غير الودّ؛ لأن المعروف يصنعه الإنسان مع مَنْ يحب، ومع مَنْ يكره، مع المؤمن ومع الكافر، تُطعمه إذا جاع، وتسقيه إذا عطش، وتستره إنْ كان عرياناً، أما المودة فلا تكون إلا لمَنْ تحب؛ لأنها عمل قلبيّ.
وقوله تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء: 23]
وهذا توجيه وأدب إلهيّ يُراعي الحالة النفسية للوالدين حال كِبَرهما، وينصح الأبناء أن يكونوا على قدر من الذكاء والفطْنة والأدب والرِّفْق في التعامل مع الوالدين في مثل هذه السن.
الوالد بعد أَنْ كان يعطيك وينفق عليك أصبح الآن مُحتاجاً إليك، بعد أنْ كان قوياً قادراً على السعي والعمل أصبح الآن قعيدَ البيت أو طريحَ الفراش، إذن: هو في وَضْع يحتاج إلى يقظة ولباقة وسياسة عالية، حتى لا نجرح مشاعره وهي مُرْهفة في هذا الحال.
وتأمل قول الله تعالى: { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ .. } [الإسراء: 23].
وهي لفظة بسيطة أقلّ ما يقال، وهذه لفظة قَسْرية تخرج من صاحبها قهراً دون أن تمر على العقل والتفكير، وكثيراً ما نقولها عند الضيق والتبرُّم من شيء، فالحق سبحانه يمنعك من هذا التعبير القَسْري، وليس الأمر الاختياري.
و{ أُفٍّ } اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، وهذه الكلمة تدل على انفعال طبيعي، ولكن الحق سبحانه يُحذِّرك منه، ويأمرك بأن تتمالكَ مشاعرك، وتتحكّم في عواطفك، ولا تنطق بهذه اللفظة.
ومعلوم أنه سبحانه إذا نهاني عن هذه فقد نهاني عن غيرها من باب أَوْلى، وما دامتْ هي أقلّ لفظة يمكن أنْ تُقال. إذن: نهاني عن القول وعن الفعل أيضاً.
ثم أكّد هذا التوجيه بقوله: { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا .. } [الإسراء: 23].
والنهر هو الزَّجْر بقسوة، وهو انفعال تَالٍ للتضجُّر وأشدّ منه قسوة، وكثيراً ما نرى مثل هذه المواقف في الحياة، فلو تصوَّرنا الابن يعطي والده كوباً من الشاي مثلاً فارتعشت يده فأوقع الكوب فوق سجادة ولده الفاخرة، وسريعاً ما يتأفّف الابن لما حدث لسجادته، ثم يقول للوالد من عبارات التأنيب ما يؤلمه ويجرح مشاعره.
إذن: كُنْ على حذر من التأفف، ومن أن تنهر والديك، كُنْ على حذر من هذه الألفاظ التي تسبق إلى اللسان دون فِكْر، ودون تعقّل.
ثم بعد هذا النهي المؤكد يأتي أمر جديد ليؤكد النهي السابق: { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء: 23].
وفي هذا المقام تُرْوَى قصة الشاب الذي أوقع أبوه إناء الطعام على ثيابه، فأخذ الولد يلعق الطعام الذي وقع على ثوبه وهو يقول لوالده: أطعمك الله كما أطعمتني، فحوّل الإساءة إلى جميل يُحمَد عليه.
والآخر الذي ذهب يتمرّغ تحت أقدام أمه، فقال له: كفى يا بني، فقال: إنْ كنتِ تُحبِّينني حقاً فلا تمنعيني من عمل يُدخِلني الجنة.
والقول الكريم هنا نوع من التصرُّف واللباقة في معاملة الوالدين، خاصة حال الشيخوخة التي قد تُقعِد صاحبها، أو المرض الذي يحتاج إلى مساعدة الغير، والأولاد هم أَوْلَى الناس بإعالة الوالدين في هذه الظروف، حيث سيبدو من الإنسان مَا لا يصح الاطلاع عليه إلا لأولاده وأقرب الناس إليه.
وهَبْ أن الوالد المريض أو الذي بلغ من الكِبَر عتياً يريد أنْ يقضي حاجته، ويحتاج لمن يحمله ويُقعِده ويُريحه، وينبغي هنا أن يقول الابن لأبيه: هَوِّن عليك يا والدي، وأعطني فرصة أردّ لك بعض جميلك عليّ، فلكَمْ فعلتَ معي أكثر من هذا.
وهو مع ذلك يكون مُحبّاً لوالده، رفيقاً به، حانياً عليه لا يتبرّم به، ولا يتضجر منه، هذا هو القول الكريم الذي ينتقيه الأبناء في المواقف المختلفة.
فمثلاً: قد يزورك أبوك في بيتك وقد يحدث منه أنْ يكسر شيئاً من لوازم البيت، فتقول له في هذا الموقف: فِدَاك يا والدي، أو تقول: لا عليك لقد كنت أفكر في شراء واحدة أحدث منها. أو غيره من القول الكريم الذي يحفظ للوالدين كرامتهما، ولا يجرح شعورهما.
وكثيراً ما يأتي المرض مع كِبَر السن، فترى الوالد طريحَ الفراش أو مشلولاً - عافانا الله وإياكم - لذلك فهو في أمسِّ الحاجة لمن يُخفّف عنه ويُواسيه، ويفتح له باب الأمل في الشفاء ويُذكّره أن فلاناً كان مثله وشفاه الله، وفلاناً كان مثله وأخذ الله بيده، وهو الآن بخير، وهكذا.
ومع هذا، كُنْ على ذِكْر لفضل الوالدين عليك، ولا تَنْسَ ما كان عندهما حال طفولتك من عاطفة الحب لك والحنان عليك، وأن الله تعالى جعل هذه العاطفة الأبوية تقوى مع ضعفك، وتزيد مع مرضك وحاجتك، فترى الابن الفقير محبوباً عن أخيه الغني، والمريض أو صاحب العاهة محبوباً عن الصحيح، والغائب محبوباً عن الحاضر، والصغير محبوباً عن الكبير، وهكذا على قَدْر حاجة المربَّي يكون حنان المربِّي.
إذن: نستطيع أن نأخذَ من هذا إشارة دقيقة يجب ألاَّ نغفل عنها، وهي: إنْ كان بر الوالدين واجباً عليك في حال القوة والشباب والقدرة، فهو أوجب حالَ كبرهما وعجزهما، أو حال مرضهما.
ثم يرشدنا الحق سبحانه إلى حسن معاملة الوالدين، فيقول:
{ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ ... }.