خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً
٨٥
-الإسراء

خواطر محمد متولي الشعراوي

والسؤال يَرِد في القرآن بمعان متعددة، ووردتْ هذه الصيغة { يَسْأَلُونَكَ } في مواضع عِدّة، فإنْ كان السؤال عن شيء نافِع يضر الجهل به أجابهم القرآن، كما في قوله تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَٱعْتَزِلُواْ ٱلنِّسَآءَ فِي ٱلْمَحِيضِ .. } [البقرة: 222].
وقوله تعالى:
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } [البقرة: 215].
فإنْ كان السؤال عن شيء لا يضر الجهل به، لفت القرآن أنظارهم إلى ناحية أخرى نافعة، كما في سؤالهم عن الأهِلّة: كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ويكبر إلى أن يصير بدراً، ثم يأخذ في التناقص ليعود كما بدأ؟
فالحديث مع العرب الذين عاصروا نزول القرآن في هذه الأمور الكونية التي لم نعرفها إلا حديثاً أمر غير ضروري، وفوق مستوى فهمهم، ولا تتسع له عقولهم، ولا يترتب عليه حكم، ولا ينتج عن الجهل به ضرر، ولو أخبرهم القرآن في إجابة هذا السؤال بحقيقة دوران القمر بين الأرض والشمس وما يترتب على هذه الدورة الكونية من ليل ونهار، وهم أمة أُميّة غير مثقفة لاتهموا القرآن بالتخريف، ولربما انصرفوا عن أصل الكتاب كله.
لكن يُحوِّلهم القرآن، ويُلفِت أنظارهم إلى ما يمكن الانتفاع به من الأهِلَّة:
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ .. } [البقرة: 189].
وقد يأتي السؤال، ويُرَاد به اختبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك ما حدث من اتفاق كفار مكة واليهود حيث قالوا لهم: اسألوه عن الروح، وهم يعلمون تماماً أن هذه مسألة لا يعلمها أحد، لكنهم أرادوا الكيد لرسول الله، فلعله يقول في الروح كلاماً يأخذونه عليه ويستخدمونه في صَرْف الناس عن دعوته.
ولا شَكَّ أنه سؤال خبيث؛ لأن الإنسان عامة يحب أن يظهر في مظهر العالم، ولا يحب أن يعجز أمام محاوره فاستغلوا هذه العاطفة، فالرسول لن يُصَغِّر نفسه أمام سائليه من أهل مكة، وسوف يحاول الإجابة عن سؤالهم.
ولكن خَيَّب الله سَعْيهم، فكانت الإجابة: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
فعندما سمع أهل الكتاب هذه الإجابة آمن كثيرون منهم؛ لأنها طابقت ما قالته كتبهم عن الروح، وأنها من عند الله.
و{ ٱلرُّوحِ } لها إطلاقات مُتعدِّدة، منها: الرُّوح التي تمدُّ الجسم بالحياة إن اتصلت به، كما في قوله تعالى:
{ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [الحجر: 29].
فإذا ما فارقتْ هذه الروح الجسد فقد فارق الحياة، وتحوَّل إلى جثة هامدة، وفيها يقول تعالى:
{ فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ ٱلْحُلْقُومَ } [الواقعة: 83].
وقد تأتي الروح لتدل على أمين الوحي جبريل عليه السلام، كما في قوله تعالى:
{ نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ } [الشعراء: 193].
وقد تُطلَق الروح على الوحي ذاته، كما في قوله تعالى:
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [الشورى: 52].
وتأتي بمعنى التثبيت والقوة، كما في قوله تعالى:
{ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ .. } [المجادلة: 22].
وأُطلِقَتْ الروح على عيسى ابن مريم - عليه السلام - في قوله تعالى:
{ إِنَّمَا ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ .. } [النساء: 171].
إذن: لهذه الكلمة إطلاقات مُتعدِّدة، فما العلاقة بينها؟
قالوا: الروح التي بها حركة الحياة إذا وُجِدَتْ في الإنسان تعطي مادية الحياة، ومادية الحياة شيء، وقيَمُ الحياة شيء آخر، فإذا ما جاءك شيء يعدل لك قيم الحياة فهل تُسمِّيه روحاً؟ لا، بل هو روح الروح؛ لأن الروح الأُولى قصاراها الدنيا، لكن روح المنهج النازل من السماء فخالدة في الآخرة، فأيُّهما حياته أطول؟
لذلك فالحق سبحانه يُنبِّهنا: إياك أنْ تظنَّ أن الحياة هي حياتك أنت وكونك تُحِسُّ وتتحرك وتعيش طالما فيك روح، لا بل هناك روح أخرى أعظم في دار أخرى أَبْقى وأَدْوم:
{ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [العنكبوت: 64].
لأن الروح التي تعيش بها في الدنيا عُرْضة لأنْ تُؤخَذ منك، وتُسلَب في أيّ مرحلة من مراحل حياتك منذ وجودك جنيناً في بطن أمك، إلى أنْ تصير شيخاً طاعناً في السنِّ .. أما روح الآخرة، وهي روح القيم وروح المنهج، فهي الروح الأَقْوى والأَبْقى؛ لأنها لا يعتريها الموت.
إذن: سُمّي القرآن، وسُمّي المَلك النازل به روحاً؛ لأنه سيعطيني حياة أطول هي حياة القيم في الآخرة.
وهنا يقول تعالى: { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي .. } [الإسراء: 85].
أي: أن هذا من خصوصياته هو سبحانه، وطالما هي من خصوصياته هو سبحانه، فلن يطلع أحداً على سِرِّها. وهل هي جوهر يدخل الجسم فيحيا ويسلب منه فيموت، أم هي مراد (بكُنْ) من الخالق سبحانه، فإنْ قال لها كُنْ تحيا، وإنْ قال مِتْ تموت؟
إنّ علم الإنسان سيظل قاصراً عن إدراك هذه الحقيقة، وسيظل بينهما مسافات طويلة؛ لذلك قال تعالى بعدها:{ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85].
وهل عرف العقل البشري كل شيء حتى يبحث في أسرار الروح؟!
ولما تعرَّض أحد رجال الصوفية للنقد، واعترض عليه أحد الأشخاص فقال له الصوفي: وهل أَحَطْتَ عِلْماً بكل شيء في الكون؟ قال الرجل: لا، قال: فأنا من الذي لا تعلم.
والحق سبحانه وتعالى حينما يعطينا فكرة عن الأشياء لا يعطينا بحقائق ذاتها وتكوينها؛ لأن أذهاننا قد لا تتسع لفهمها، وإنما يعطينا بالفائدة منها. فحين حدثنا عن الأهِلّة قال:
{ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَٱلْحَجِّ .. } [البقرة: 189].
وهذه هي الفائدة التي تعود علينا والتي تهمنا من الأَهِلّة، أما حركتها ومنازلها والمراحل التي تمر بها الأَهِلّة فأمور لا يضر الجهل بها؛ ذلك لأن الاستفادة بالشيء ليستْ فرعاً لفهم حقيقته، فالرجل الأُميّ في ريفنا يقتني الآن التلفاز وربما الفيديو، ويستطيع استعمالهما وتحويل قنواتهما وضبطهما، ومع ذلك فهو لا يعرف كيف تعمل هذه الأجهزة؟ وكيف تستقبل؟
إذن: الاستفادة بالشيء لا تحتاج معرفة كل شيء عنها، فيكفيك - إذن - أنْ تستفيد بها دون أن تُدخِل نفسك في متاهات البحث عن حقيقتها.
والحق سبحانه وتعالى ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى:
{ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ .. } [الإسراء: 36] لأن الخالق سبحانه يريد للإنسان أن يُوفّر طاقاته الفكرية ليستخدمها فيما يُجدي، وأَلاَّ يُتعِب نفسه ويُجهدها في علم لا ينفع، وجهل لا يضر.
فعلى المسلم بدل أن يشغل تفكيره في مثل مسألة الروح هذه، أنْ ينشغل بعمل ذي فائدة له ولمجتمعه. وأيّ فائدة تعود عليك إنْ توصلت إلى سِرٍّ من أسرار الروح؟ وأيّ ضرر سيقع عليك إذا لم تعرف عنها شيئاً؟
إذن: مناط الأشياء أن تفهم لماذا وجدت لك، وما فائدتها التي تعود عليك.
والحق سبحانه حينما قال: { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء: 85] كان يخاطب بها المعاصرين لرسول الله منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، وما زال يخاطبنا ويخاطب مَنْ بعدنا، وإلى أن تقوم الساعة بهذه الآية مع ما توصلتْ إليه البشرية من علم، وكأنه سبحانه يقول: يا ابن آدم، الزم غرزك، فإن وقفت على سِرٍّ فقد غابتْ عنك أسرار.
وقد أوضح الحق سبحانه لنا هذه المسألة في قوله:
{ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي ٱلآفَاقِ وَفِيۤ أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ .. } [فصلت: 53].
وهاهم العلماء والباحثون يقفون كل يوم على جديد في الكون الفسيح وفي الإنسان، ولو تابعتَ ما توصّل إليه علماء الفضاء ورجال الطب لَهالكَ ما توصَّلوا إليه من آيات وعجائب في خَلْق الله تعالى، لكن هل معنى ذلك أننا عرفنا كل شيء؟ إن كلمة { سَنُرِيهِمْ } ستظل تعمل إلى قيام الساعة.
والمتتبع لطموحات العقول وابتكاراتها يجد التطور يسير بخُطىً واسعة، ففي الماضي كان التقدم يُقَاسُ بالقرون، أما الآن ففي كل يوم يطلع علينا حديث وجديد، ونرى الأجهزة تُصنع ولا تُستعمل؛ لأنها قبل أنْ تُبَاع يخرج عليها أحدث منها، لكن كلها زخارف الحياة وكمالياتها، كما قال تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَآ أَخَذَتِ ٱلأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَٱزَّيَّنَتْ .. } [يونس: 24].
فكلُّ مَا نراه من تقدُّم ليس من ضروريات الحياة، فقد كُنَّا نعيش بخير قبل أن نعرف الكهرباء، وكُنَّا نشرب في الفخار والآن في الكريستال، فابتكارات الإنسان في الكماليات، أما الضروريات فقد ضمنها الخالق سبحانه قبل أن يوجد الإنسان على هذه الأرض.
فإذا ما استنفدتْ العقول البشرية نشاطاتها، وبلغتْ مُنتهى مَا لديها من ابتكارات، حتى ظنَّ الناس أنهم قادرون على التحكم في زمام الكون، لا يعجزهم فيه شيء، كما قال تعالى:
{ وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِٱلأَمْسِ .. } [يونس: 24].
فبعد ما أخذتم أسرار المنعِم في الكون على قَدْر ما استطعتم، فاذهبوا الآن إلى المنعِم ذاته لتروا النعيم على حقيقته، وكلما رأيت في دنيا الناس ابتكارات واختراعات تُسعِد الإنسان، فهذا ما أعدَّ البشر للبشر، فكيف بما أعدَّ الله الخالق لخَلْقه؟
فالمفروض أن زخارف الحياة وزينتها وكمالياتها لا تدعونا إلى الحقد أو الحسد لمن توفرتْ لديه، بل تدعونا إلى مزيد من الإيمان والشوق إلى النعيم الحقيقي عند المنعِم سبحانه.
ولو تأملتَ هذه الارتقاءات البشرية لوجدتها قائمة على المادة التي خلقها الله والعقل المخلوق لله والطاقة المخلوقة لله، فَدوْر الإنسان أنه أعمل عقله وفكره في المقوّمات التي خلقها الله، لكن مهما وصلتْ هذه الارتقاءات، ومهما تطورتْ هل ستصل إلى درجة: إذا خطر الشيء ببالك تجدْه بين يديك؟
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ... }.