خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كِلْتَا ٱلْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً
٣٣
-الكهف

خواطر محمد متولي الشعراوي

أي: أعطتْ الثمرة المطلوبة منها، والأُكُل: هو ما يُؤكل، ونعرف أن الزراعات تتلاحق ثمارها فتعطيك شيئاً اليوم، وشيئاً غداً، وشيئاً بعد غد وهكذا.
{ وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً .. } [الكهف: 33] كلمة { تَظْلِم } تعطينا إشارة إلى عمل الخير في الدنيا، فالأرض وهي جماد لا تظلم، ولا تمنعك حقاً، ولا تهدِر لك تعباً، فإنْ أعطيتَها جهدك وعملك جادتْ عليك، تبذر فيها كيلة تعطيك إردباً، وتضع فيها البذرة الواحدة فتُغِلُّ عليك الآلاف.
إذن: فهي كريمة جوادة شريطة أن تعمل ما عليك من حَرْثٍ وبَذْر ورعاية وسُقْيا، وقد تريحك السماء، فتسقي لك.
لذلك، لما أراد الحق سبحانه أنْ يضرب لنا المثل في مضاعفة الأجر، قال:
{ مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّاْئَةُ حَبَّةٍ .. } [البقرة: 261].
فإذا كانت الأرض تعطيك بالحبة سبعمائة حبة، فما بالك بخالق الأرض؟ لا شك أن عطاءه سيكون أعظم؛ لذلك قال بعدها:
{ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة: 261].
إذن: فالأرض لا تظلم، ومن عدل الأرض أنْ تعطيك على قَدْر تعبك وكَدِّك فيها، والحق سبحانه أيضاً يُقدِّر لك هذا التعب، ويشكر لك هذا المجهود، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى أحد الصحابة وقد تشققت يداه من العمل قال:
"هذه يَدٌ يحبها الله ورسوله" .
يحبها الله ورسوله؛ لأنها تعبت وعملت لا على قَدْر حاجتها، بل على أكثر من حاجتها، عملتْ لها وللآخرين، وإلا لو عمل كُلُّ عامل على قَدْر حاجته، فكيف يعيش الذي لا يقدر على العمل؟
إذن: فعلى أصحاب القدرة والطاقة أنْ يعملوا لما يكفيهم، ويكفي العاجزين عن العمل، وهَبْ أنك لن تتصدَّق بشيء للمحتاج، لكنك ستبيع الفائض عنك، وهذا في حَدِّ ذاته نوعٌ من التيسير على الناس والتعاون معهم.
وما أشبه الأرض في عطائها وسخائها بالأم التي تُجزِل لك العطاء إنْ بررْتَ بها، وكذلك الأرض، بل إن الأم بطبيعتها قد تعطيك دون مقابل وتحنو عليك وإنْ كنت جاحداً، وكذلك الأرض ألاَ تراها تُخرج لك من النبات ما لم تزرعه أو تتعب فيه؟ فكيف إذا أنت أكرَمتها بالبر؟ لا شك ستزيد لك العطاء.
والحقيقة أن الأرض ليست أُمَّنا على وجه التشبيه، بل هي أُمّنا على وجه الحقيقة؛ لأننا من ترابها وجزء منها، فالإنسان إذا مرض مثلاً يصير ثقيلاً على كل الناس لا تتحمله وتحنو عليه وتزيل عنه الأذى مثل أمه، وكذلك إن مات وصار جيفة يأنف منه كل أخ مُحب وكل قريب، في حين تحتضنه الأرض، وتمتص كل ما فيه، وتستره في يوم هو أحوج ما يكون إلى الستر.
ثم يقول تعالى: { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً.. } [الكهف: 33] ذلك لأن الماء هو أَصْل الزرع، فجعل الله للجنتين ماءً مخصوصاً يخرج منهما ويتفجر من خلالهما لا يأتيهما من الخارج، فيحجبه أحد عنهما.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ... }.