خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً
٥
-الكهف

خواطر محمد متولي الشعراوي

فهذه القضية التي ادَّعَوْها، وهذه المقولة التي كذبوها على الله، من أين أَتَوْا بها؟ الحقيقة أنهم ادعَوْهَا ولا علمَ لهم بها، والعلم إما ذاتي، وإما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم وهم لا يملكون شيئاً من هذا ويقولون بأمر لا واقع له؛ لذلك يقول تعالى: { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ .. } [الكهف: 5].
وعدم العلم ينشأ من أمرين: إما أن الشيءَ موجود وأنت لا تعلم به؛ لأنه مستور عنك، وإما لأن الشيء لا وجودَ له أصلاً، وأنت لا تعلم أنه غير موجود؛ لأن غير الموجود لا يمكن أن يتعلق به علم.
وقوله تعالى: { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ .. } [الكهف: 5].
{ كَبُرَتْ } أي: عَظُمَتْ وتناهتْ في الإثم؛ لأنهم تناولوا مسألة فظيعة، كَبُرتْ أنْ تخرجَ هذه الكلمة من أفواههم.
{ كَلِمَةً } الكلمة قول مُفْرد ليس له نسبة كأن تقول: محمد أو ذهب أو في، فالاسم والفعل والحرف كل منها كلمة مستقلة، والكلمة تُطلَق ويُراد بها الكلام، فالآية عَبَّرتْ عن قولهم:
{ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً } [الكهف: 4] بأنها كلمة، كما تقول: ألقى فلان كلمة. والواقع أنه ألقى خُطْبة.
ومن ذلك قوله تعالى:
{ حَتَّىٰ إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ ٱلْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ٱرْجِعُونِ * لَعَلِّيۤ أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا .. } [المؤمنون: 99-100] فسمَّى قولهم هذا { كَلِمَةً }.
ومنها قوله تعالى:
{ قُلْ يٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ ٱللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ .. } [آل عمران: 64] فسمَّى كل هذا الكلام كلمة.
وقوله تعالى: { تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ .. } [الكهف: 5] أي: أن هذه الكلمة كَبُرت لأنها خرجت منهم وقالوها فعلاً، ولو أنهم كتموها في نفوسهم ولم يجهروا بها واستعظموا أن تخرجَ منهم لكانوا في عداد المؤمنين، بدليل أن وفد اليمن حينما أتوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله تدور بأنفسنا أفكار عن الله، نتعاظم أن نقولها - أي: لا نقدر على النطق بها فقال صلى الله عليه وسلم:
"ذاك صريح الإيمان" .
إذن: المعيب عليهم أنهم أخرجوا هذه المسألة من أفواههم، وهذا منتهى القُبْح، فالأفكار والخواطر مهما بلغتْ من السوء وكتمها صاحبها لا يترتب عليها شيء، وكأنها لم تكُنْ.
ثم يقول تعالى: { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً .. } [الكهف: 5] أي: ما يقولون إلا كذباً، والكذب أَلاَّ يطابق الكلام واقع الأمر، فالعاقل قبل أنْ يتكلم يُدير الكلام على ذِهْنه ويَعْرضه على تفكيره، فتأتي النسبة في ذِهْنه وينطقها لسانه، وهذه النسبة قبل أن يفكر فيها وينطق بها لها واقع.
فمثلاً حين تقول: محمد مجتهد. قبل أن تنطق بها جال في خاطرك اجتهاد محمد، وهذه تُسمّى نسبة ذِهْنية، فإنْ قلتَ: محمد مجتهد أصبحتْ نسبة كلامية، فإنْ وُجد شَخص اسمه محمد وهو مجتهد فعلاً، فإن النسبة الذهنية الكلامية أصبحتْ نسبة واقعية، والخبر بها خبر صادق. فإنْ كانت النسبة الكلامية لا واقعَ لها كأنْ لا يوجد شخص اسمه محمد أو وُجِد ولكنه غير مجتهد، فالخبر هنا كاذب. وهذا هو الأسلوب الخبري الذي يحتمل الصدق أو الكذب.
وهناك الأسلوب الإنشائي الذي لا يحتمل الصِّدْق، ولا يحتمل الكذب؛ لأن النسبة الواقعية فيه متأخرة عن النسبة الكلامية كما لو قُلْت: ذاكر دروسك. فواقع هذه العبارة سيحدث في المستقبل؛ لذلك لا يُوصَف الإنشاء بالصدق أو بالكذب.
والتدقيق العلمي يقول: الصدق الحقيقي أنْ تطابقَ النسبة الكلامية الواقع والاعتقاد، فإن اعتقدتَ شيئاً ولم يحدث، فالنسبة كاذبة وأنت غير كاذب؛ لأن هناك فرقاً بين الخبر والمخْبِر.
وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [المنافقون: 1].
فقولهم: إنك لرسول الله نسبة صادقة؛ لأنها تطابق الواقع، إنما هل وافقتْ معتقدهم؟ لم توافق معتقدهم؛ لذلك شهد الله أنهم كاذبون؛ لأن كلامهم لم يوافق واقعهم الاعتقادي. أو: لأن التكذيب لم يرد به قولهم: إنك لرسول الله وإنما يُراد به قولهم: نشهد، فالتكذيب للشهادة لأن الشهادة أنْ يُواطِئ القلب اللسان، وهم شهدوا بألسنتهم، ولم تؤمن به قلوبهم.
وهنا لَمّا قالوا { ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً }، فهذه نسبة كلامية ليس لها واقع، فهي نسبة كاذبة، فقال تعالى: { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً .. } [الكهف: 5].
ثم يُسلِّي الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم لِيُخفِّف عنه ما يلاقي من متاعب وعناد وسَفَه في سبيل الدعوة, فيقول تعالى:
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ ... }.