خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ
١٠٣
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

يفتح الله جل جلاله أمام عباده أبواب التوبة والرحمة .. لقد بَيَّنَ لهم أن السحر كفر، وأن من يقوم به يبعث كافراً يوم القيامة ويخلد في النار .. وقال لهم سبحانه وتعالى لو أنهم امتنعوا عن تعلم السحر ليمتازوا به على من سواهم امتيازاً في الضرر والإيذاء .. لكان ذلك خيراً لهم عند الله تبارك وتعالى .. لأن الملكين اللذين نزلا لتعليم السحر قال الله سبحانه عنهما: { { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } [البقرة: 102].
إذن فممارسة السحر كفر. فلو أنهم آمنوا بهذه القضية وبأنهم يدخلون في الكفر، واتقوا الله لكان ذلك ثواباً لهم عند الله وخيراً في الدنيا والآخرة .. ولكن ما هي المثوبة؟ هي الثواب على العمل الصالح .. يقابلها العقوبة وهي العقاب على العمل السيئ .. وهي مشتقة من ثاب أي رجع .. ولذلك يسمى المبلغ عن الإمام في الصلاة المثوب .. لأن الإمام يقول الله أكبر فيرددها المبلغ عن الإمام بصوت عال حتى يسمعها المصلون الذين لا يصلهم صوت الإمام .. وهذا اسمه التثويب .. أي إعادة ما يقوله الإمام لتزداد فرصة الذين لم يسمعوا ما قاله الإمام .. وكما قلنا فهي مأخوذة من ثاب أي رجع .. لأن الإنسان عندما يعمل صالحاً يرجع عليه عمله الصالح بالخير .. فلا تعتقد أن العمل الصالح يخرج منك ولا يعود .. ولكنه لابد أن يعود عليك بالخير.
وإذا نظرنا إلى دقة التعبير القرآني: { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [البقرة: 103]. نجد أن كلمة مثوبة مأخوذة من نفس معنى كلمة ثوب وجمعه ثياب .. وكان الناس قديماً يأخذون أصواف الأغنام ليصنعوا منها ملابسهم .. فيأتي الرجل بما عنده من غنم ويجز صوفها ثم يعطيه لآخر ليغزله وينسجه ثوباً ويعيده إلى صاحبه .. فكأن ما أرسله من الصوف رد إليه كثوب .. ولذلك سميت مثوبة لأن الخير يعود إليك لتنتفع به نفعاً عالياً .. وكذلك الثواب عن العمل الصالح يرتد إليك بالنفع العالي.
إذن فكلمة ثوب جاء منها الثواب، والله سبحانه وتعالى علمنا أن الثوب لستر العورة .. والعمل الصالح يستر الأمراض المعنوية والنفسية في الإنسان .. وفي ذلك يقول الحق تبارك وتعالى:
{ { قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ ٱلتَّقْوَىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ .. } [الأعراف: 26].
فكأن هناك لباسين أحدهما لستر العورة .. والثاني لستر الإنسان من العذاب .. ولباس التقوى خير من لباس ستر العورة .. قوله تعالى: { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [البقرة: 103] .. انظر إلى المثوبة التي تأتي من عند الله .. إذا كان الثواب يأتيك من عند من صنعه جميلاً مزركشاً وله ألوان مبهجة .. إذا كان هذا ما يصنعه لك بشر فما بالك بالثواب الذي يأتيك من عند الله. إنه قمة الجمال. فالله هو القادر على أن يرد الثواب بقدراته سبحانه فيكون الرد عالياً وعالياً جداً، بحيث يضاعف الثواب مرات ومرات. على أننا لابد أن نتنبه إلى قول الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا } [البقرة: 103] قلنا معنى اتقوا أنهم جعلوا بينهم وبين صفات الجلال في الله وقاية .. ولذلك قلنا إن بعض الناس يتساءل .. كيف يقول الله تبارك وتعالى: "اتقوا الله" .. ويقول جل جلاله: "اتقوا النار" .. نقول إن معنى اتقوا الله أي اجعلوا بينكم وبين صفات الجلال في الله وقاية: "واتقوا النار" .. أي اجعلوا بينكم وبين عذاب النار وقاية .. لأن النار من متعلقات صفات الجلال .. لذلك فإن قوله: "اتقوا الله" .. تساوي: "اتقوا النار" .. والحق تبارك وتعالى حينما قال: "اتقوا" أطلقها عامة .. والحذف هنا المراد به التعميم .. والله سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن السحرة لو آمنوا بأن تعلم السحر فتنة تؤدي إلى الكفر .. واتقوا الله وخافوا عذابه في الآخرة لكان ذلك خيراً لهم .. لذلك قال جل جلاله: { لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ } [البقرة: 103]..
وساعة تسمع كلمة خير تأتي إلى الذهن كلمة شر .. لأن الخير يقابله الشر .. ولكن في بعض الأحيان كلمة خير لا يقابلها شر. ولكن يقابلها خير أقل. وكلمة خير هي الوحيدة في اللغة العربية التي يساوي الاسم فيها أفعل التفضيل .. فأنت تقول هذا فاضل وهذا مفضول عليه .. كلمة خير اسم تفضيل فيقال ذلك خير من كذا .. أي واحد منهما يعطي أكثر من الآخر .. وكلمة خير إذا لم يأت مقابلها أي خير من كذا يكون مقابلها شر .. فإذا قلت فلان خير من فلان .. فكلاهما اشترك في الخير ولكن بدرجة مختلفة .. والخير هو ما يأتي لك بالنفع .. ولكن مقياس النفع يختلف باختلاف الناس .. واحد ينظر إلى النفع العاجل وآخر ينظر إلى النفع الآجل .. وفي ظاهر الأمر كل منهما أراد خيراً.
وإذا أردنا أن نقرب ذلك إلى الأذهان فلنقل إن هناك أخوين أحدهما يستيقظ مبكراً ليذهب إلى مدرسته والثاني ينام حتى الضحى، ويخرج من البيت ليجلس على المقهى .. الأول يحب الخير لنفسه والثاني يحب الخير لنفسه والخلاف في تقييم الخير .. الكسول يحب الخير العاجل فيعطي نفسه حظها من النوم والترفيه وعدم العمل .. والمجتهد يحب الخير الآجل لنفسه لذلك يتعب ويشقى سنوات الدراسة حتى يرتاح بعد ذلك ويحقق مستقبلاً مرموقاً.
الفلاح الذي يزرع ويذهب إلى حقله في الصباح الباكر ويروي ويبذر الحب ويشقى، يأتيه في آخر العام محصول وافر وخير كثير .. والفلاح الذي يجلس على المقهى طول النهار أعطى نفسه خير الراحة، ولكن ساعة الحصاد يحصد الندم.
إذن كل الناس يحبون الخير ولكن نظرتهم ومقاييسهم تختلف .. فمنهم من يريد متعة اليوم، ومنهم من يعمل لأجل متعة الغد .. والله تبارك وتعالى حين يأمرنا بالخير .. قد يكون الخير متعباً للجسد والنفس .. ولكن النهاية متاع أبدي في جنة الخلد. إذن فالخير الحقيقي هو ما جاء به الشرع .. لماذا؟ لأن الخير هو ما ليس بعده بعد .. فأنت تولد ثم تكبر ثم تتخرج في الجامعة .. ثم تصبح في أعلى المناصب ثم تموت ثم تبعث ثم تدخل الجنة .. وبعدها لا شيء إلا الخلود في النعيم.
قوله تعالى: { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [البقرة: 103] .. الله ينفي عنهم العلم بينما في الآية السابقة أثبت لهم العلم في قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } [البقرة: 103] .. نقول إن العلم الذي لا يخضع حركة الإنسان له فكأنه لم يعلم شيئاً .. لأن هذا العلم سيكون حجة على صاحبه يوم القيامة وليته لم يعلمه .. واقرأ قول الشاعر:

رُزِقُوا وما رُزِقٌوا سَمَاحَ يد فكأنهم رُزِقُوا وما رُزِقُوا
خُلِقُوا وما خُلِقُوا لكرُمَةٍ فكأنهم خُلِقُوا وَمَا خُلِقُوا

فكأن العلم لم يثبت لك لأنك لم تنتفع به .. والله سبحانه وتعالى يقول: { { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [الروم: 6]. { { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا .. } [الروم: 7] وهكذا نفى الله عن الناس العلم الحقيقي .. وأثبت لهم العلم الدنيوي الظاهر .. وقوله جل جلاله: { { مَثَلُ ٱلَّذِينَ حُمِّلُواْ ٱلتَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ ٱلْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ ٱلْقَوْمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ } [الجمعة: 5].
أي أنهم حملوا التوراة علماً ولكنهم لم يحملوها منهجاً وعملاً .. وهؤلاء السحرة علموا أَنَّ مَنْ يمارس السحر يكفر .. ومع ذلك لم يعملوا بما علموا.