خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ
٣٥
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أن خلق الله سبحانه وتعالى آدم وأمر الملائكة أن تسجد له وحدث كفر إبليس ومعصيته، أراد الله جل جلاله أن يمارس آدم مهمته على الأرض، ولكنه قبل أن يمارس مهمته أدخله الله في تجربة عملية عن المنهج الذي سيتبعه الإنسان في الأرض، وعلى الغواية التي سيتعرض لها من إبليس. فالله سبحانه وتعالى رحمة منه لم يشأ أن يبدأ آدم مهمته في الوجود على أساس نظري، لأن هناك فرقاً بين الكلام النظري والتجربة.
قد يقال لك شيء وتوافق عليه من الناحية النظرية، ولكن عندما يأتي الفعل فإنك لا تفعل شيئاً، إذن: فالفترة التي عاش فيها آدم في الجنة كانت تطبيقاً عملياً لمنهج العبودية، حتى إذا ما خرج إلى مهمته لم يخرج بمبدأ نظري، بل خرج بمنهج عملي تعرض فيه لـ (فعل) و (لا تفعل)، والحلال والحرام، وإغواء الشيطان والمعصية، ثم بعد ذلك يتعلّم كيف يتوب ويستغفر ويعود إلى الله، وليعرف بنو آدم أن الله لا يغلق بابه في وجه العاصي، وإنما يفتح له باب التوبة، والله سبحانه وتعالى أسكن آدم الجنة. وبعض الناس يقول: أنها جنة الخلد التي سيدخل فيها المؤمنون في الآخرة. وبعضهم قال: لولا أن آدم عصى لكنا نعيش في الجنة. نقول لهم: لا .. جنة الآخرة هي للآخرة ولا يعيش فيها إنسان فترة من الوقت ثم بعد ذلك يُطرد منها بل هي كما أخبرنا الله تعالى جنة الخلد .. كل من دخلها عاش في نعيم أبدي.
إذن: فما هي الجنة التي عاش فيها آدم وحواء؟ هذه الجنة هي جنة التجربة أو المكان الذي تمت فيه تجربة تطبيق المنهج. ونحن إذا قرأنا القرآن الكريم نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد أطلق لفظ الجنة على جنات الأرض. والجنة تأتي من لفظ "جن" وهو الستر، ذلك أن فيها أشجاراً كثيفة تستر مَنْ يعيش فيها، فلا يراه أحد، وفيها ثمرات تعطيه استمرار الحياة. فلا يحتاج إلى أن يخرج منها. ونجد في القرآن الكريم قوله تعالى:
{ { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } [القلم: 17-18].
وهذه قصة الإخوة الذين كانوا يملكون جنة من جنان الأرض، فمنعوا حق الفقير والمسكين واليتيم، فذهب الله بثمر الجنة كلها وأحرق أشجارها. وهناك في سورة الكهف قصة صاحب الجنتين، في قوله تعالى:
{ { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً } [الكهف: 32].
وهي قصة ذلك الرجل الذي أعطاه الله جنتين .. فبدلاً من أن يشكر الله تعالى على نعمه .. كفر وأنكر البعث والحساب. وفي سورة سبأ اقرأ قوله تعالى عن أهل سبأ الذين هداهم الله، وبيَّن لهم الطريق المستقيم ولكنهم فضَّلوا الكفر. واقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَٱشْكُرُواْ لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُواْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ ٱلْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نُجَٰزِيۤ إِلاَّ ٱلْكَفُورَ } [سبأ: 15-17].
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قد أطلق لفظ الجنة على جنات الدنيا، ولم يقصره على جنة الآخرة.
إذن: فآدم حين قال له الله سبحانه وتعالى:
{ { ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ .. } [الأعراف: 19].
فهي ليست جنة الخلد وإنما هي جنة سيمارس فيها تجربة تطبيق المنهج. ولذلك لا يقال: كيف دخل إبليس الجنة بعد أن عصى وكفر، لأن هذه ليست جنة الخلد، ولابد أن تنتبه إلى ذلك جيداً حتى لا يقال: إن معصية آدم هي التي أخرجت البشر من الجنة؛ لأن الله تعالى قبل أن يخلق آدم حدَّد مهمته فقال:
{ { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً .. } [البقرة: 30].
فآدم مخلوق للخلافة في الأرض، ومَنْ صلح من ذريته يدخل جنة الخلد في الآخرة، ومَنْ دخل جنة الخلد عاش في النعيم خالداً.
والحق سبحانه وتعالى يقول: { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } [البقرة: 35] فالله سبحانه وتعالى أمدَّ الجنة التي سكنها آدم وحواء بكل ما يضمن استمرار حياتهما، تماماً كما خلق كل النعم التي تضمن استمرار حياة آدم وذريته في الأرض قبل أن تبدأ الحياة البشرية على الأرض. فالله سبحانه وتعالى له عطاء ربوبية فهو الذي خلق، وهو الذي أوجد من عدم، ولذلك فقد ضمن لخلقه ما يعطيهم استمرار الحياة على الأرض من ماء وهواء وطعام ونعم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، فكأن الله تعالى قد أمدَّ الجنة التي سكن فيها آدم وزوجته بكل عوامل استمرار حياتهما قبل أن يسكناها. كما أمد الأرض بكل وسائل استمرار حياة الإنسان قبل أن ينزل آدم إليها. إذن: فقوله تعالى:
{ { يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ .. } [الأعراف: 19].
هذه فترة التدريب على تطبيق المنهج. والسكن هو المكان الذي يرتاح فيه الإنسان ويرجع إليه دائماً. فأنت قد تسافر فترات، وكل الدول التي تمر بها خلال سفرك لا تعتبر سكناً إلى أن تعود إلى بيتك، فهذا هو السكن، والرجل يَكِدُّ ويتعب في الحياة، وأينما ذهب فإنه يعود مرة أخرى إلى المكان الذي يسكنه ليستريح فيه.
وقوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35] هو استكمال للمنهج، فهناك أمر ونهي: افعل ولا تفعل: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } [البقرة: 35] أمر: { وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً } [البقرة: 35] أمر، { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35] نهي، وهذا أول منهج يعلم الإنسان الطاعة لله سبحانه وتعالى والامتناع عما نهى عنه، وكل رسائل السماء ومناهج الله في الأرض أمر ونهي .. افعل كذا ولا تفعل كذا.
وهكذا فإن الحق سبحانه وتعالى ضمن لآدم الحياة، وليست الحياة فقط ولكن رغداً، أي: مباحاً وبلا تعب وعن سعة وبدون مشقة. كما أننا نلاحظ هنا أن المباح كثير والممنوع قليل، فكل ما في الجنة من الطعام والشراب مباح لآدم، ولا قيد إلا على شيء واحد .. شجرة واحدة من بين ألوف الأشجار التي كانت موجودة في الجنة .. شجرة واحدة فقط هي الممنوعة.
وإذا نظرت إلى منهج السماء إلى الأرض تجد أن الله سبحانه وتعالى قد أباح فيه نعماً لا تُحصى ولا تُعَدُّ وقيَّد فيه أقل القليل .. فالذي نهانا الله عنه بالنسبة لنعم الأرض هو أقل القليل، كما كان في جنة آدم شجرة واحدة، والمباح بعد ذلك كثير. وإذا أخذنا ألفاظ العبارات نجد أن الله سبحانه وتعالى ساعة يقول: { وقُلْنَا يَآءَادَمُ } [البقرة: 35] أتى بضمير "نا" ضمير الجمع، لأن الله واحد أحد، ولكنهم يسمونها: نون الكبرياء ونون العظمة.
إذن: فكل حدث يأتي فيه الحق تبارك وتعالى بنون الكبرياء ونون التعظيم؛ لأن كل فعل من الأفعال يحتاج إلى صفات متعددة حتى يتم. فأنت إذا أردت أن تفعل شيئاً فإنه يقتضي منك قوة، ويقتضي منك علماً، ويقتضي منك قدرة، ويقتضي منك حكمة.
إذن: فهناك صفات كثيرة موجودة يقتضيها الفعل.
ولكن حين يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن شهادة التوحيد يقول: "إنني أنا الله" ولا يقول: إنما نحن الله .. لأنه جل جلاله يريد توحيداً، ففي موقع التوحيد يأتي بضمير الإفراد واحد أحد .. أما في صدر الأحداث، فيأتي بضمير الكبرياء والعظمة. واقرأ قوله تعالى:
{ { وَٱلسَّمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [الذاريات: 47].
وعندما أراد الحق تبارك وتعالى أن يمتدح إبراهيم قال: "إن إبراهيم كان أمة" ما معنى أُمَّة؟ أي: جامعاً لصفات الخير التي لا تجتمع في فرد، ولكنها تجتمع في أمة؛ فالأمة تجتمع فيها صفات الخير .. هذا متميز بالصدق، وذاك بالشجاعة، وذاك بالحلم، فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول: إن إبراهيم كان أمة، أي أنه كان جامعاً لصفات الخير.
وفي قوله { وقُلْنَا يَآءَادَمُ } [البقرة: 35] آدم: اسم علم على المسمى الذي هو أول خلق الله من البشر { ٱسْكُنْ } [البقرة: 35] تحتاج إلى عنصرين: الهدوء والاطمئنان .. هذا هو معنى "اسكن"، توفير الهدوء والاطمئنان، ومنه أخذ اسم السكن. وكلمة المسكن، وأطلق على الزوجة .. وإذا فقد المكان الذي تسكن فيه عنصراً من هذين العنصرين، وهما الهدوء والطمأنينة لا يقال عليه مسكن، والزوجة سُميت سكناً كما جاء في قوله تعالى:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً .. } [الروم: 21].
لأن الهدوء والرحمة والبركة تتوافر في الزوجة الصالحة، والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ .. } [التوبة: 103].
أي: راحة واطمئنانا ورحمة، فالإنسان يريد في بيته أن تكون الحياة فيه مريحة له من عناء العمل وصخب الحياة. ويقول الحق سبحانه وتعالى: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [البقرة: 35] وكان من الممكن أن يقول اسكن وزوجك لأن الفاعل في فعل الأمر دائما مستتر. ولكنه سبحانه قال: { ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [البقرة: 35] .. وإياك أن تظن أن "أنت" هو فاعل الفعل "اسكن"، ولكنه ضمير جاء ليفصل بين "اسكن" وبين "زوجك" حتى لا يعطف الاسم على الفعل.
إننا لابد أن نلاحظ أن كلمة زوج تطلق على الفرد ومعه مثله. ولذلك لم يأت بتاء التأنيث .. اسكن أنت وزوجتك. لأن الأمر التكليفي من الله. سواء فيه الذكر والأنثى. واقرأ قوله تعالى:
{ { وَمَنْ عَمِـلَ صَالِحاً مِّن ذَكَـرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ .. } [غافر: 40].
إذن: فهما متساويان في هذه الناحية، هذه الجنة ماذا وفَّر الله سبحانه وتعالى لآدم وزوجه فيها؟ اقرأ قوله تبارك وتعالى:
{ { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَىٰ * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَىٰ } [طه: 118-119].
هذه عناصر الحياة التي وفَّرها الله لآدم وزوجه في جنة التجربة الإيمانية العملية على التكليف. وهكذا نرى من الأوصاف التي أعطاها الله سبحانه وتعالى لنا لهذه الجنة أنها ليست جنة الآخرة؛ لأنها أولاً فيها تكليف، في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35] وجنة الآخرة لا تكليف فيها، والحق تبارك وتعالى أباح لآدم وحواء أن يأكلا كما يشاءان من الجنة. والجنة فيها أصناف كثيرة متعددة. ولذلك قال: { حَيْثُ شِئْتُمَا } [البقرة: 35].
وأنت لا تستطيع أن تقدم لإنسان صنفاً أو صنفين وتقول له: كُلْ ما شئت؛ لأنه لا يوجد أمامه إلا مجال ضيق للاختيار، كما أن قلة عدد الأصناف تجعل النفس تمل، ولذلك لابد أن يكون هناك أصناف متعددة وكثيرة.
ثم جاء النهي في قوله تعالى: { وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ } [البقرة: 35] أي: لا تقتربا من مكانها، ولكن لماذا لم يقل الحق سبحانه وتعالى: ولا تأكلا من هذه الشجرة؟ لأن الله جل جلاله رحمة بآدم وزوجه كان لا يريدهما أن يقعا في غواية المعصية. فلو أنه قال: ولا تأكلا من هذه الشجرة لكان مباحاً لهما أن يقتربا منها، فتجذبهما بجمال منظرها ويقتربان من ثمارها فتفتنهما برائحتها العذبة ولونها الجذاب، حينئذ يحدث الإغواء، وتمتد أيديهما تحت هذا الإغراء إلى الشجرة ليأكلا منها.
ولكن الله تعالى يعلم أن النفس البشرية إذا حُرِّم عليها شيء، ولم تَحُمْ حوله كان ذلك أدعى ألا تفعله، فالله تعالى حين حرم الخمر لم يقل حُرِّمت عليكم الخمر، وإلا كنا جلسنا في مجالس الخمر ومع الذين يشربونها، أو نتاجر فيها وهذا كله إغراء بشرب الخمر .. ولكنه قال:
{ { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 90].
هذا النص الكريم قد جعلنا نبتعد عن الأماكن التي فيها الخمور. فلا نجلس مع مَنْ يشربونها، ولا نتاجر فيها حتى لا نقع في المعصية، فإذا رأيتَ مكاناً فيه خمر فابتعد عنه في الحال، حتى لا يغريك منظر الخمر وشاربها بأن تفعل مثله. والحق جل جلاله يقول في المحرمات: { وَلاَ تَقْرَبَا } [البقرة: 35] واجتنبوا .. أي: لا تحوموا حولها. لأنها إذا كانت غائبة عنك فلا تخطر على بالك فلا تقع فيها. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"إنَّ الْحَلاَلَ بَيِّنٌ، والْحَرَامَ بَيِّنٌ، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمَنْ اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرْضه، ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل مَلَكٍ حِمَى، ألا وإِن حمى الله محارمه"
). ولقد كان بعض الناس يُقبلون على شرب الخمر ويقولون: إنه لم يَردْ فيها تحريم صريح .. فلم تأت مسبوقة بكلمة "حُرِّمت" .. نقول: إن كلمة اجتنبوا أشد من التحريم، فقوله تعالى: { { فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ } [الحج: 30] معناه ألا تنظر حتى إلى الصنم واجتناب الخمر ألا تقع عينك عليها.
وقد اختلف الناس في نوع هذه الشجرة، وهل هي شجرة تفاح أو تين أو عنب أو غير ذلك؟ ونحن نقول: ليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود هو التحريم؛ لأن منهج الله سبحانه وتعالى يُحلِّل أشياء، ويُحرِّم أشياء.
وقوله تعالى: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [البقرة: 35] الظلم هو الجور والتعدي على حقوق الغير. والظالم هو مَنْ أخذ فوق ما يستحقه بغير حق. والظلم يقتضي ظالماً ومظلوماً، وموضوعاً للظلم. فكل حق - سواء كان مادياً أو معنوياً - يعتدي عليه إنسان بدون حق فقد حمل ظلماً - حتى الإنسان، فإنه أحيانا يظلم نفسه. واقرأ قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ .. } [آل عمران: 135].
كيف يظلم الإنسان نفسه؟ قد يظلم الإنسان غيره، ولكنه لا يظلم نفسه أبدا لأنه يريد أن يعطيها كل ما تشتهيه، وهذا هو عين الظلم للنفس، لأنه أعطاها شهوة عاجلة في الدنيا، ربما استمرت ساعات، وحرمها من نعيم أبدي في الآخرة، فكأنه ظلمها بأن أعطاها عذاباً أليماً في الآخرة مقابل متعة زائلة لا تدوم .. وهناك مَنْ يبيع دينه بدنياه، ولكن أظلم الناس لنفسه مَنْ يبيع دينه بدنيا غيره، يشهد زوراً؛ ليرضي رئيساً، أو يتقرَّب لمسئول، أو يرتكب جريمة .. إذن قوله تعالى: { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } [البقرة: 35] أي من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله.