خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٣٨
-البقرة

خواطر محمد متولي الشعراوي

يقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية: { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً } [البقرة: 38] وفي سورة طه يقول جل جلاله: { { قَالَ ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [طه: 123] عندما خاطب الله سبحانه وتعالى بصورة الجمع. كان الخطاب لكل ذرية آدم المطمورة في ظهره، أَمْرُ لهم جميعاً بالهبوط، آدم وحواء والذرية، لأن كل واحد منا إلى أن تقوم الساعة فيه جزىء من آدم. ولذلك لا بد أن نلتفت إلى قول الحق تبارك وتعالى: { { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلاۤئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ .. } [الأعراف: 11].
نلاحظ هنا أن الخطاب بصيغة الجمع، فلم يقل الحق سبحانه وتعالى لقد خلقتك ثم صورتك ثم قلت للملائكة اسجدوا لآدم، فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أنه ساعة الخلق كان كل ذرية آدم مطمورين في ظهره. خلقهم جميعاً ثم صورهم جميعاً، ثم طلب من الملائكة السجود لآدم. فهل نحن كنا موجودين؟ نعم كنا موجودين في آدم. ولذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يقول: { ٱهْبِطُواْ } [البقرة: 38] لنعرف أن هذا الخطاب موجه إلى آدم وذريته جميعاً إلى يوم القيامة.
ومرة يقول:
{ { ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [طه: 123] لأن هنا بداية تحمل المسئولية بالنسبة لآدم في هذه اللحظة وهي لحظة الهبوط في الأرض، سيبدأ منهج الله مهمته في الحياة. وما دام هناك منهج وتطبيق فردي، تكون المسئولية فردية، ولا يأتي الجمع هنا.
فالحق سبحانه وتعالى يقول:
{ { ٱهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } [طه: 123] نلاحظ أن أمر الهبوط هنا بالمثنى. ثم يقول تبارك وتعالى "جميعاً" .. جمع .. نقول إنه ما دامت بداية التكليف، فهناك طرفان سيواجه بعضهما البعض: الطرف الأول، هو آدم وزوجه، والطرف الثاني هو إبليس. فهم ثلاثة ولكنهم في معركة الإيمان فريقان فقط، آدم وحواء وذريتهما فريق. والشيطان فريق آخر، فكأن الله تعالى يريد أن يلفتنا إلى أن هذا الهبوط يتعلق بالمنهج وتطبيقه في الأرض. وفي المنهج آدم وحواء حريصان على الطاعة، وإبليس حريص على أن يقودهما إلى المعصية.
وفي قوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة: 38] نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى بعد أن مر آدم بالتجربة ووقع في المعصية، علمه الله تعالى كلمات التوبة، ونصحه أنه إذا غفل يتوب، والله سبحانه وتعالى سيقبل توبته.
إذن: فالحق سبحانه وتعالى يريد من آدم وحواء أن يسكنا الأرض، ويبدآ مهمتهما في الحياة. والله يدلهما على الخير مصداقاً لقوله تعالى: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } [البقرة: 38] .. وهدى لها معنيان: هي بمعنى الدلالة على الخير، أو الدلالة على الطريق الموصلة للخير. وهناك هدى وهو الإعانة على الإيمان والزيادة فيه. واقرأ قوله تعالى:
{ { وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ } [محمد: 17].
الهدى هنا في الآية الكريمة بمعنى الدلالة على طريق الخير، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38].
ما هو الخوف وما هو الحزن؟ الخوف أن تتوقع شراً مقبلاً لا قدرة لك على دفعه فتخاف منه، والحزن أن يفوتك شيء تحبه وتتمناه.
والحق سبحانه وتعالى يقول في هذه الآية: مَنْ مشى في طريق الإيمان الذي دللته عليه، وأنزلته في منهجي، فلا خوف عليهم. أي أنه لا خير سيفوتهم فيحزنوا عليه، لأن كل الخير في منهج الله، فالذي يتبع المنهج لا يخاف حدوث شيء أبداً.
وهذه تعطينا قضية مهمة في المجتمع الذي لم يرتكب أية مخالفة .. هل يناله خوف؟ أبداً، ولكن مَنْ يرتكب مخالفة تجده دائماً خائفاً خشية أن ينكشف أمره، ويفاجأ بشر لا قدرة له على دفعه.
إن الإنسان المستقيم لا يعيش الخوف، لأن الخوف أمران: إما ذنب أنا سبب فيه، والسائر على الطريق المستقيم لم يفعل شيئاً يخاف انكشافه. وإما أمر لا دخل لي فيه، يجريه عليّ خالقي. وهذا لابد أن يكون لحكمة، قد أدركها، وقد لا أدركها ولكني أتقبلها. فالذي يتبع هدى الله لا يخاف ولا يحزن، لأنه لم يذنب، ولم يخرق قانوناً، ولم يغش بشراً، أو يخفي جريمة، فلا يخاف شيئاً، ولو قابله حدث مفاجئ، فقلبه مطمئن. والذين يتبعون الله لا يخافون، ولا يُخاف عليهم .. وقوله تعالى: { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 38] لأن الذي يعيش طائعاً لمنهج الله، ليس هناك شيء يجعله يحزن، ذلك أن إرادته في هذه الحالة تخضع لإرادة خالقه. فكل ما يحدث له من الله هو خير. حتى لو كان يبدو على السطح غير ذلك. ملكاته منسجمة وهو في سلام مع الكون ومع نفسه، والكون لا يسمع منه إلا التسبيح والطاعة والصلاة، وكلها رحمة. فهو في سلام مع نفسه. وفي سلام مع ربه، وفي سلام مع المجتمع.
إن المجتمع دائماً يسعد بالإنسان المؤمن الذي لا يفسد في الأرض، بل يفعل كل خير. فالمؤمن نفحة جمال تشع في الكون، ونعمة حسن ورضا مع كل الناس. وما دام الإنسان كذلك، فلن يفقد ما يسره أبداً. فإن أصابته أحداث أجراها الله عليه، لا يقابلها إلا بالشكر، وإن كان لا يعرف حكمتها .. وإياك أن تعترض على الله في حكم.
ولذلك يقول: أحمدك ربي على كل قضائك وجميع قدرك، حمد الرضا بحكمك واليقين بحكمتك.
والإنسان ينفعل للأحداث، ولكن هناك فرقا بين الانفعال للأحداث وحدها وبين الانفعال للأحداث مع حكمة مجريها. ولذلك فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الدقة حينما قال:
"إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"
). انظروا إلى الإيمان وهو يستقبل الأحداث .. العين تدمع، ولا يكون القلب قاسياً مثل الحجر، لكن فيه حنان. والقلب يخشع لله. مقدراً حكمته وإرادته.
والله سبحانه وتعالى لا يريدنا أن نستقبل الأحداث بالحزن وحده، ولكن بالحزن مع الإيمان. فالله لا يمنعك أن تحزن، ولكن عليك ألا تفصل الحدث عن مجريه وحكمته فيه .. ولذلك حين تذهب إلى طبيب العظام، فيكسر لك عظامك لكي يصلحها. هل يفعل لك خيراً أو شراً؟ طبعاً يفعل لك خيراً. وإن كان ذلك يؤلمك.