خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ
١٣٠
-طه

خواطر محمد متولي الشعراوي

فما دام أن القوم يُكذِّبون رسول الله، وهم في مأمن من العذاب، فلا بُدَّ أن يتمادوا في تكذيبهم، ويستمروا في عنادهم لرسول الله؛ لذلك يتوجه الحق - سبحانه وتعالى - إلى الناحية الأخرى فيعطي رسوله صلى الله عليه وسلم المناعة اللازمة لمواجهة هذا الموقف { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ .. } [طه: 130] لأن لك بكل صبر أجراً يتناسب مع ما تصبر عليه.
والصبر قد يكون مَيْسوراً سهلاً في بعض المواقف، وقد يكون شديداً وصَعْباً ويحتاج إلى مجاهدة، فمرَّة يقول الحق لرسوله: اصبر. ومرة يقول: اصطبر.
فما الأقوال التي يصبر عليها رسول الله؟ قولهم له: ساحر. وقولهم: شاعر وقولهم: مجنون وكاهن، كما قالوا عن القرآن: أضغاث أحلام. وقالوا: أساطير الأولين. فاصبر يا محمد على هذا كله؛ لأن كلَّ قولة من أقوالهم تحمل معها دليل كذبهم.
فقولهم عن رسول الله: ساحر، فمَن الذي سَحَره رسول الله؟ سحر المؤمنين به، فلماذا - إذن - لم يسحرْكم أنتم أيضاً، وتنتهي المسألة. إذن: بقاؤكم على عناده والكفر به دليل براءته من هذه التهمة.
وقولهم: شاعر، كيف وهم أمة صناعتها الكلام، وفنون القول شعره ونثره، فكيف يَخْفى عليهم أسلوب القرآن؟ والشعر عندهم كلام موزون ومُقفّى، فهل القرآن كذلك؟ ولو جاء هذا الاتهام من غيركم لكان مقبولاً، أما أنْ يأتيَ منكم أنتم يا مَنْ تجعلون للكلام أسواقاً ومعارض كمعارض الصناعات الآن، فهذا غير مقبول منكم.
وسبق أنْ قلنا: إنك إذا قرأتَ مقالاً مثلاً، ومَرَّ بك بيت من الشعر تشعر به وتحسُّ أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر. فخُذْ مثلاً قول ابن زيدون:
"هذا العَذْل محمود عواقبه، وهذه النَّبْوة غمرة ثم تنجلي، ولن يريبني من سيدي أنْ أبطأ سَيْبه، أو تأخر غير ضنين غناؤه، فأبطأ الدِّلاء فَيْضا أملؤها، وأثقل السحائب مشياً أحفلها. ومع اليوم غد، ولكل أجل كتاب، له العتب في احتباله، ولا عتبَ عليه في اغتفاله.

فَإنْ يكُنِ الفعلُ الذي سَاءَ واحِداً فَأفْعالُه اللائي سَرَرْنَ أُلُوفُ"

على الفور تحس أذنك أنك انتقلتَ من نثر إلى شعر.
فإذا ما قرأتَ في القرآن مثلاً قوله تعالى:
{ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ * قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ .. } [يوسف: 30-32].
فهل أحسستَ بانتقال الأسلوب من نثر إلى شعر، أو من شعر إلى نثر؟ ومع ذلك لو وزنتَ
{ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ .. } [يوسف: 32] لوجدتَ لها وزناً شِعْرياً.
وقوله تعالى:
{ نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الحجر: 49].
لو أردتها بيتاً شعرياً تقول (نبىء عبادي أني * أنا الغفور الرحيم). ومع ذلك تقرأها في سياقها، فلا تشعر أنها شعر؛ لأن الأسلوب فريد من نوعه، وهذه من عظمة القرآن الكريم، كلام فَذٌّ لوحده غير كلام البشر.
أما قولهم "مجنون" فالمجنون لا يدري ما يفعل، ولا يعقل تصرفاته ولا يسأل عنها، ولا نستطيع أنْ نتهمه بشيء فنقول عنه مثلاً؛ كذاب أو قبيح؛ لأن آلة الاختيار عنده مُعطّلة، وليس لديه انسجام في التصرفات، فيمكن أن يضحك في وجهك، ثم يضربك في نفس الوقت، يمكن أن يعطيك شيئاً ثم يتفل في وجهك.
والمجنون ليس له خُلق، والحق سبحانه يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ نۤ وَٱلْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ } [القلم: 1-4].
والخُلق هو المَلَكة المستقرة للخير، فكيف يكون محمد مجنوناً، وهو على خلق عظيم؟ ثم هل جرَّبْتُم عليه شيئاً مما يفعله المجانين.
أما قولهم: إن رسول الله افترى هذا القرآن، كيف وأنتم لم تسمعوا منه قبل البعثة شِعْراً أو خطباً ولم يسبق أن قال شيئاً مثل هذا؟ كيف يفتري مثل هذا الأسلوب المعجز، وليس عنده صنعة الكلام؟ وإن كان محمد قد افترى القرآن فلماذا لا تفترون أنتم مثله وتعارضونه؟
{ { قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ .. } [يونس: 38].
وهكذا تقوم من نفس أقوالهم الأدلة على كذبهم وادعائهم على رسول الله.
ثم يقول تعالى { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا .. } [طه: 130].
والتسبيح هو التنزيه لله تعالى، وهو صفة لله قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبِّحه ويُنزِّهه؛ لذلك يقول تعالى في استهلال سورة الإسراء:
{ سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ .. } [الإسراء: 1]؛ لأن العملية مخالفة لمنطق القوانين، فقال: نزّه فعل الله عن أفعالك.
إذن: فسبحان معناها أن التنزيه ثابت لله، ولو لم يوجد المنزَّه، فلما خلق الله الكون سَبَّحتْ السماوات والأرض وما فيهن لله.
فإذا كان التسبيح ثابتاً لله قبل أن يوجد المسبّح، ثم سبح لله أول خلقه، ولا يزالون يُسبِّحون، فأنت أيضاً سبِّح باسم ربك الأعلى. أي: نزّهه سبحانه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً وأقوالاً عَمَّا تراه من المخلوقات.
ومعنى { بِحَمْدِ رَبِّكَ .. } [طه: 130] لأن من لوازم الخلق أن يكون مختلفاً في الأهواء والأغراض والمصالح، يتشاكلون ويتحاربون على عَرَضٍ زائل، فمنهم الظالم والمظلوم، والقوي والضعيف.
إذن: لا بُدَّ من وجود واحد لا توجد فيه صفة من هذه الصفات، ليضع القانون والقسطاس المستقيم الذي يُنظِّم حياة الخَلْق، فهذا التنزُّه عن مشابهة الأحداث كلها، وعن هذه النقائض نعمة يجب أن نشكر الله ونحمده على وجودها فيه، نحمده على أنه ليس كمثله شيء. فذلك يجعل الكون كله طائعاً، إنما لو مثله شيء فلربما تأبَّى على الطاعة في "كُنْ فيكون".
والتسبيح والتنزيه يعني المقياس الذي يضبط العالم ليس كمقياس العالم، إنما أصلح وأقوى، وهذا في صالحك أنت، فساعةَ أن تُسبِّح الله اذكر أن التسبيح نعمة، فاحمد الله على أنه لا شيءَ مثلُه. سبِّح تسبيحاً مصحوباً بحمْدِ ربك؛ لأن تنزيهه إنما يعود بالخير على مَنْ خلق، وهذه نعمة تستحق أن تحمدَ الله عليها.
ومثال ذلك - ولله المثل الأعلى - ربّ الأسرة، هذا الرجل الكبير العاقل صاحب كلمة الحق والعدل بين أفرادها، وصاحب المهابة بينهم تراهم جميعاً يحمدون الله على وجوده بينهم؛ لأنه يحفظ توازن الأسرة، ويُنظِّم العلاقات بين أفرادها. ألم نَقُلْ في الأمثال (اللي ملوش كبير يشتري له كبير)؟
حتى وإن كان هذا الكبير متعالياً؛ لأن تعاليه لصالح أفراد أسرته، حيث سليزم كل واحد منهم حدوده.
لذلك من أسماء الله تعالى: المتعال المتكبر، وهذه الصفة وإنْ كانت ممقوتة بين البشر لأنها بلا رصيد، فهي محبوبة لله تعالى؛ لأنها تجعل الجميع دونه سبحانه عبداً له، فتَكبُّره سبحانه وتعاليه بحقٍّ:
{ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس: 82].
إذن: لا يحفظ التوازن في الكون إلا قوة مغايرة للخَلْق.
وقوله: { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [طه: 130].
أي: تسبيحاً دائماً مُتوالياً، كما أن نعم الله عليك متوالية لا تنتهي، فكلُّ حركة من حركاتك نعمة، النوم نعمة، والاستيقاظ نعمة، الأكل نعمة، والشرب نعمة، البصر والسمع، كل حركة من حركات الأحداث نعمة تستحق الحمد، وكل نعمة من هذه ينطوي تحتها نِعَم.
خُذْ مثلاً حركة اليد التي تبطش بها، وتأمّل كم هي مرِنة مِطْواعة لك كما شئت دون تفكير منك، أصابعك تتجمع وتمسك الأشياء دون أن تشعر أنت بحركة العضلات وتوافقها، وربما لا يلتفت الإنسان إلى قدرة الله في حركة يده، إلا إذا أصابها شلل والعياذ بالله، ساعتها يعرف أنها عملية صعبة، ولا يقدر عليها إلا الخالق عز وجل.
لذلك؛ فالحق - سبحانه وتعالى - يعطينا زمن التسبيح، فيعيشه في كل الوقت { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ .. } [طه: 130].
وآناء: جمع إنْى، وهو الجزء من الزمن، وهذا الجزء يترقَّى حسْب تنبهك لتسبيح التحميد، فمعنى التسبيح آناء الليل، يعني أجزاء الليل كله، فهل يعني هذا أن يظل الإنسانُ لا عملَ له إلا التسبيح؟
المناطقة يقولون عن الجزء من الوقت: مقول بالتشكيك، فيمكن أن تُجزّىء الليل إلى ساعات، فتُسبِّح كل ساعة، أو تترقّى فتسبح كل دقيقة، أو تترقّى فتُسبِّح كل ثانية، وهكذا حسْب مقامات المسبّح الحامد وأحواله.
فهناك من عباد الله مَنْ لا يفتر عن تسبيحه لحظة واحدة، فتراه يُسبِّح الله في كل حركة من حركاته؛ لأنه يعلم أنه لا يؤديها بذاته بدليل أنها قد تُسْلَب منه في أي وقت.
إذن: فأجزاء الوقت تختلف باختلاف المقامات والأحوال، أَلاَ تراهم في وحدة القياس يقيسون بالمتر، ثم بالسنتيمتر، ثم بالمللي متر، وفي قياس الوقت توصّل اليابانيون إلى أجهزة تُحدِّد جزءاً من سبعة آلاف جزء من الثانية.
ثم يقول: { وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ .. } [طه: 130] ليستوعب الزمن كله ليله ونهاره، والمقامات والأحوال كلها؛ لذلك يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة:
(اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك) فهذا الذي يستحق المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه.
(واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك) فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، فساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله. وساعةَ أنْ تُخرجها عرقاً أو بولاً قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره.
(واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه) فطالما أنك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك.
(واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه) وإلاَّ فأين يمكنك أن تذهب؟
لكن، لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل، فقال { آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ .. } [طه: 130] وحدده في النهار فقال { وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ .. } [طه: 130]؟
قالوا: لأن النهار عادة يكون محلاً للعمل والسَّعْي، فربما شغلك التسبيح عن عملك، وربنا يأمرنا أن نضربَ في الأرض ونُسهِم في حركة الحياة، والعمل يُعين على التسبيح، ويُعين على الطاعة، ويُعينك أنْ تلبي نداء: الله أكبر.
ألاَ تقرأ قول الله - عز وجل - في سورة الجمعة:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الجمعة: 9-10].
ذلك لأن حركة الحياة هي التي تُعينك على أداء فَرْض ربك عليك، فأنت مثلاً تحتاج في الصلاة إلى سَتْر العورة، فانظر إلى هذا الثواب الذي تستر به عورتك: كم يَدٌ ساهمتْ فيه؟ وكم حركة من حركات الحياة تضافرتْ في إخراجه على هذه الصورة؟
أمّا في الليل فأنت مستريح، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أيِّ وقت من أوقاته.
ويلفتنا قوله تعالى: { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ .. } [طه: 130] فأيّ طلوع؟ وأيّ غروب؟ وأيُّ ليل؟ وأيّ نهار؟ أهي لمصر أم للجزائر أم للهند أم لليابان؟ إنها ظواهر متعددة وممتدة بامتداد الزمان والمكان لا تنتهي، فالشمس في كل أوقاتها طالعة غاربة، ففي هذا إشارة إلى أن ذِكْر الله وتسبيح الله دائمٌ لا ينقطع.
ثم يذكر سبحانه الغاية من التسبيح، فيقول { لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [طه: 130] ونلحظ أن الحق سبحانه يحثُّ على العمل بالنفعية، فلم يقُل: لعلِّي أرضى، قال: لعلك أنت ترضى، فكأن المسألة عائدة عليك ولمصلحتك.
والرضا: أنْ تصلَ فيما تحب إلى ما تؤمِّل، والإنسان لا يرضى إلا إذا بلغ ما يريد، وحقّق ما يرجو، كما تقول لصاحبك: أأنت سعيد الآن؟ يقول: يعني: يقصد أنه لم يصل بعد إلى حَدِّ الرضا، فإنْ تحقَّق له ما يريد يقول لك: سعيد والحمد لله.
فإنْ أحسنتَ إليه إحساناً يفوق ما يتوقعه منك يأخذك بالأحضان ويقول: ربنا يُديم عمرك، جزاك الله خيراً.
إذن: رضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي كما روى النبي صلى الله عليه وسلم:
"إن الله يتجلى على خَلْقه في الجنة: يا عبادي هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين، قال: أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وهل يوجد أفضل من ذلك؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً" .
وهكذا يكون الرضى في أعلى مستوياته. الغاية من التسبيح - إذن - الذي كلّفك ربك به أنْ ترضى أنت، وأن يعودَ عليك بالنفع، وإلا فالحق سبحانه مُسبَّح قبل أن يخلق، أنت مُسبّح قبل أن يخلق الكون كله، ولا يزيد تسبيحك في ملكه تعالى شيئاً. ويتم لك هذا الرضا حين تُرضِي الله فيرضيك.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا ... }.