خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ
٢
-الحج

خواطر محمد متولي الشعراوي

والرؤية: قلنا قد تكون رؤية علمية أو رؤية بصرية، والشيء الذي نعلمه إما: علمَ اليقين، وإما عين اليقين، وإما حقيقة اليقين. علم اليقين: أنْ يخبر مَنْ تثق به بشيء، كما تواترت الأخبارعن الرحالة بوجود قارة أسموها فيما بعد أمريكا، وبها كذا وكذا، فهذا نسميه "علم يقين"، فإذا ركبت الطائرة إلى أمريكا فرأيتها وشاهدت ما بها فهذا "عين اليقين" فإذا نزلتَ بها وتجولتَ بين شوارعها ومبانيها فهذا نسميه "حقيقة اليقين".
لذلك؛ حين يخبر الله تعالى الكافرين بأن هناك عذاباً في النار فهذا الإخبار صادق من الله فعِلْمنا به "علم يقين"، فإذا رأيناها فهذا "عين اليقين" كما قال سبحانه:
{ { ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [التكاثر: 7]
فإذا ما باشرها أهلها، وذاقوا حرّها ولظاها - وهذا مقصور على أهل النار - فقد علموها حَقَّ اليقين، لذلك يقول تعالى:
{ { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ * فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ حَقُّ ٱلْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } [الواقعة: 90-96].
ومعنى: { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ .. } [الحج: 2] الذهول: هو انصراف جارحة عن مهمتها الحقيقية لهوْلٍ رأتْه فتنشغل بما رأته عن تأديةِ وظيفتها، كما يذهل الخادم حين يرى شخصاً مهيباً أو عظيماً، فيسقط ما بيده مثلاً، فالذهول - إذن - سلوك لا إرادي قد يكون ذهولاً عن شيء تفرضه العاطفة، أو عن شيء تفرضه الغريزة.
العاطفة كالأم التي تذهَلُ عن ولدها، وعاطفة الأمومة تتناسب مع حاجة الولد، ففي مرحلة الحمل مثلاً تجد الأم تحتاط في مشيتها، وفي حركاتها، خوفاً على الجنين في بطنها، وهذه العاطفة من الله جعلها في قلب الأم للحفاظ على الوليد، وإلاَّ تعرض لما يؤذيه أو يُودِي بحياته.
لذلك، لما سألوا المرأة العربية عن أحب أبنائها ، قالت: الصغير حتى يكبر، والغائب حتى يعود، والمريض حتى يُشْفَى، فحسب الحاجة يعطي الله العاطفة، فالحامل عاطفتها نحو ولدها قوية، وهي كذلك في مرحلة الرضاعة.
فانظر إلى المرضعة، وكيف تذهل عن رضيعها وتنصرف عنه، وأيُّ هول هذا الذي يشغلها، ويُعطِّل عندها عاطفة الأمومة والحنان ويُعطِّل حتى الغريزة.
وقد أعطانا القرآن صورة أخرى في قوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَٰحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [عبس: 34-36].
ومن عظمة الأسلوب القرآني أن يذكر هنا الأخ قبل الأب والأم، قالوا: لأن الوالدين قد يُوجدان في وقت لا يرى أنهما في حاجة إليه، ولا هو في حاجة إليهما لأنه كبر، أمَّا الأخ ففيه طمع المعونة والمساعدة.
وقوله تعالى: { كُلُّ مُرْضِعَةٍ .. } [الحج: 2].
والمرضعة تأتي بفتح الضاد وكَسْرها: مُرضَعة بالفتح هي التي من شأنها أن ترضع وصالحة لهذه العملية، أما مُرضِعة بالكسر فهي التي تُرضع فعلاً، وتضع الآن ثديها في فَم ولدها، فهي مرضِعة فانظر - إذن - إلى مدى الذهول والانشغال في مثل هذه الحالة.
وقوله تعالى: { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا .. } [الحج: 2] بعد أنْ تكلَّم عن المرضع رقَّى المسألة إلى الحامل، ومعلوم أن الاستمساك بالحمل غريزة قوية لدى الأم حتى في تكوينها الجسماني، فالرحم بمجرد أنْ تصل إليه البويضة المخصبة ينغلق عليها، كما قال سبحانه وتعالى:
{ { وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى .. } [الحج: 5].
فإذا ما جاء وقت الميلاد انفتح له بقدرة الله، فهذه - إذن - مسألة غريزية فوق قدرة الأم ودون إرادتها. إذن: وَضْع هذا الحمل دليل هَوْل كبير وأمر عظيم يحدث.
والحَمْل نوعان: ثقَل تحمله وهو غيرك، وثقل تحمله في ذاتك، ومنه قوله تعالى:
{ { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً } [طه: 101] والحِمْل (بكسر الحاء): هو الشيء الثقيل الذي لا يُطيقه ظهرك، أمّا الحَمْل بالفتح فهو: الشيء اليسير تحمله في نفسك. وفي هذا المعنى يقول الشاعر:

لَيْسَ بِحِمْلٍ مَا أطَاقَ الظَّهْرُ مَا الحِمْلُ إلاَّ مَا وَعَاهُ الصَّدْر

أي: أن الشيء الذي تطيق حَمْله ويَقْوى عليه ظهرك ليس بحمل، إنما الحمل هو الهمّ الذي يحتويه الصدر.
ثم يقول سبحانه: { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 2] سكارى: أي يتمايلون مضطربين، مثل السكارى حين تلعب بهم الخمر، (وتطوحهم) يميناً وشمالاً، وتُلقِي بهم على الأرض، وكلما زاد سُكْرهم وخروجهم عن طبيعتهم كان النوع شديداً!!
وهكذا سيكون الحال في موقف القيامة لا من سُكْرِ ولكن من خوف وهَوْل وفزع { وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 2].
لكن، من أين يأتي اضطراب الحركة هذا؟
قالوا: لأن الله تعالى خلق الجوارح، وخلق في كل جارحة غريزة الانضباط والتوازن، وعلماء التشريح يُحدِّدون في الجسم أعضاء ومناطق معينة مسئولة عن حِفْظ التوازن للجسم، فإذا ما تأثرتْ هذه الغدد والأعضاء يشعر الإنسان بالدُّوار، ويفقد توازنه، كأنْ تنظر من مكان مرتفع، أو تسافر في البحر مثلاً.
فهذا الاضطراب لا من سُكْر، ولكن من هَوْل ما يرونه، فيُحدث لديهم تغييراً في الغُدد والخلايا المسئولة عن التوازن، فيتمايلون، كمن اغتالتْه الخمر.
وقوله تعالى: { وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 2] إنهم لم يَرَوْا العذاب بَعْد، إنها مجرد قيام الساعة وأهوالها أفقدتهم توازنهم؛ لأن الذي يَصْدُق في أن القيامة تقوم بهذه الصورة يَصْدُق في أن بعدها عذاباً في جهنم، إذن: انتهت المسألة وما كنا نكذب به، ها هو ماثل أمام أعيننا.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ ... }.