خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ
٦٧
-الحج

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق - سبحانه وتعالى - خلق آدم عليه السلام خليفة له في الأرض، وأجرى له تدريباً على مهمته بالأمر الإلهي والنهي الإلهي، وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته، وحذَّره أن يتبع خطواته، وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الأرض ليباشر مهمته كخليفة لله في أرضه على أنْ يظلَّ على ذِكْر من تجربته مع الشيطان. وقد سخَّر الله له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل من أجله.
ثم أنزل الله عليه منهجاً، يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته، وذكَّره بالمنهج التدريبي السابق الذي كلَّفه به في الجنة، وما حدث له لما خالف منهج ربه، حيث ظهرت عورته:
{ { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ .. } [الأعراف: 22].
كذلك إنْ خالفت هذا المنهج الإلهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في المجتمع في أيّ ناحية: في الاجتماع، في الاقتصاد، في التربية، فاعلم أن حكماً من أحكام الله قد عُطِّل، فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لأن منهج الله هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة.
كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلات البيت لا تؤدي مهمتها، فتعلم أن بها عطلاً فتذهب بها إلى المهندس المختص بصيانتها، كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردُّوه إلى صاحب صيانته إلى الله وإلى الرسول، وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن ترد الصنعة إلى صانعها، وإلى العالِم بقانون صيانتها، وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك، فحين يحدث فيك خَلَل، فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك.
لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة، ومعنى "حزبه أمر" يعني: شيء فوق طاقته وأسبابه، يُهرَع إلى الصلاة ليعرض نفسه على ربه عز وجل، فإنْ وجدتَ في نفسك خللاً في أي ناحية، فما عليك إلا أنْ تتوضأ، وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك.
وإن كان المهندس يُصلح لك الآلة بشيء مادي، ولو قطعة صغيرة من السلك، فإن ربك عز وجل غَيْب، وعلاجه أيضاً غَيْب يأتيك من حيث لا تدري.
ومنهج الله الذي وضعه لصيانة خَلْقه فيه أصول وفيه فروع، الأصول: أن تؤمن بالإله الواحد الفاعل المختار، وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيٌّ من رسالات السماء أبداً، كما يقول تعالى:
{ { شَرَعَ لَكُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحاً وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ .. } [الشورى: 13].
فهذه أصول لا يختلف عليها دين من الأديان، لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الأرض، تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن الأخرى لبُعْد المسافات وانعدام وسائل الاتصال والالتقاء التي نراها اليوم، والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة، ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في أقصى الغرب، وفي نفس الوقت. لما عاش الناس هذه العزلة لا يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات جديدة.
وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات، فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة، فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان، وهذا ليعالج طغيان المال، وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها، وهذا ليعالج التعصب القبلي.
أما رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك، فكانت رسالته صلى الله عليه وسلم عامة للناس كافة، وتجد أصول الرسالات عند موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام أصولاً واحدة، أمّا الفروع فتختلف باختلاف البيئات.
لكن، لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي، وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعاً على امتداد الزمان والمكان.
وفي هذه الآية: { لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ .. } [الحج: 67] أي: أن الحق سبحانه جعل لكل أمة من الأمم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لأنهم كانوا في عزلة بعضهم عن بعض، كما جاء في قوله تعالى:
{ { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً .. } [المائدة: 48].
فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة، أما الأخلاق والعقائد فهي واحدة، فالله عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء، والكذب مُحرَّم في كل ديانات السماء لم يأْتِ نبي من الأنبياء ليبيح لقومه الكذب.
والمنسك: المنهج التعبدي، ومنه قوله تعالى:
{ { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162].
{ هُمْ نَاسِكُوهُ .. } [الحج: 67] يعني: فاعلوه.
ثم يقول سبحانه: { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ .. } [الحج: 67] كأنْ يقولوا: أنت رسول ونحن أيضاً نتبع رسولاً، له منهج وله شريعة، نعم: لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع قبلها، ومناسبة لمستجدّات الأمور.
لذلك يُطمئن الحق - تبارك وتعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم - بعدها: { وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } [الحج: 67] يعني: اطمئن، فأنت على الحق وادْعُ إلى ربك؛ لأنك على هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيماناً فسيكون إصلاحاً وتقنيناً بشرياً تلجئهم إليه أحداث الحياة ومشاكلها، فلن يجدوا أفضل من شرع الله يحكمون به، وإنْ لم يؤمنوا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: لا تنازعهم ولا ينازعونك، وخُذ ما أمرك الله به:
{ { فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْمُشْرِكِينَ } [الحجر: 94] الذين يجادلونك وينازعونك في الرسالة، وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك ليحلوا به مشاكلهم.
والهدى وُصِف بأنه مستقيم، لأنه هدى من الله صنعه لك، هدى الخالق الذي يعلم ملَكات النفس الإنسانية كلها، وشرع لكل ملكة ما يناسبها، وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن الله لخلافته في الأرض.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ ... }.