خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ ٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ
٢٧
-المؤمنون

خواطر محمد متولي الشعراوي

استجاب الله تعالى دعاء نبيه نوح - عليه السلام - في النُّصْرة على قومه، فأمره بأن يصنع الفلك. والفُلْك هي السفينة، وتُطلق على المفرد والجمع، قال تعالى: { { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الشعراء: 119] وقال: { { وَتَرَى ٱلْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [فاطر: 12] فدلَّتْ مرة على المفرد، ومرة على الجمع.
وقوله تعالى: { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا .. } [المؤمنون: 27] دليل على أن نوحاً - عليه السلام - لم يكن نجاراً كما يقول البعض، فلو كان نجاراً لهداه عقله إلى صناعتها، إنما هو صنعها بوحي من الله وتوجيهاته ورعايته، كما قال سبحانه:
{ { وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ } [طه: 39] فالمعنى: اصنع الفُلْك، وسوف أوفقك إلى صناعتها، وأهديك إلى ما يجب أن يكون، وأُصحِّح لك إنْ أخطأت في وضع شيء في غير موضعه، إذن: أَمَرْتُ وأَعَنْتُ وتابعتُ. والوحي: هو خطاب الله لرسوله بخفاء.
ثم يقول تعالى: { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [المؤمنون: 27].
وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة، والتي جاءت في قوله تعالى:
{ { وَيَصْنَعُ ٱلْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ } [هود: 38] ذلك لأنهم لا يعلمون شيئاً عن سبب صناعتها.
وفي موضع آخر يُعْلِمنا - سبحانه وتعالى - عن كيفية صُنْعها فيقول:
{ { وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } [القمر: 13] وقلنا: إن الدُّسُر: الحبال التي تُضَمُّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض شريطة أن تكون جافة، وتُضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرَّبت منه يزيد حجمها فتسدُّ المسام بين الألواح، كما نراهم مثلاً يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب.
وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة، وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلاً من المسامير.
ثم يقول سبحانه: { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا .. } [المؤمنون: 27] يعني: بإنجاء المؤمنين بك، وإهلاك المكذبين { وَفَارَ ٱلتَّنُّورُ } [المؤمنون: 27] والتنور: هو الفرن الذي يخبزون فيه الخبز، ويقال: إنه كان موروثاً لنوح من أيام آدم، يفور بالماء يعني: يخرج منه الماء، وهو في الأصل محلٌّ للنار، فيخرج منه الماء وكأنه يغلي. لكن هل كل الماء سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الأرض وسينزل من السماء، وفوران التنور هو إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها.
إذا حدث هذا { فَٱسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ } [المؤمنون: 27] يعني: احمل وأدخل فيها زوجين ذكراً وأنثى من كل نوع من المخلوقات، كما في قوله تعالى:
{ { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [المدثر: 42] يعني: أدخلكم، وقال سبحانه: { { ٱسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ .. } [القصص: 32] يعني: أدخلها، وقال سبحانه: { { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ ٱلْمُجْرِمِينَ } [الحجر: 12].
ومن مادة (سلك) أخذنا في أعرافنا اللغوية. نقول: سلَّك الماسورة أو العين يعني: أدخل فيها ما يزيل سدَّتها.
والتنوين في { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ .. } [المؤمنون: 27] يعني: من كل شيء نريد حِفْظ نوعه واستمراره؛ لأن الطوفان سيُغرق كل شيء، والحق - تبارك وتعالى - يريد أن يحفظ لعباده المؤمنين مُقوِّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والأنعام وجميع أنواع المخلوقات الأخرى من كل ما يلِدُ أو يبيض.
ومعنى { زَوْجَيْنِ } [المؤمنون: 27] ليس كما يظنُّ البعض أن زوج يعني: اثنين، إنما الزوج يعني فرد ومعه مثله، ومنه قوله تعالى:
{ { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ أَمَّا ٱشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ ٱلأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَمِنَ ٱلإِبْلِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ ٱثْنَيْنِ .. } [الأنعام: 143-144].
فسمَّى كلَّ فرد من هذه الثمانية زوجاً؛ لأن معه مثله.
هذا في جميع المخلوقات، أما في البشر فلم يقُلْ زوجين، إنما قال { وَأَهْلَكَ } [المؤمنون: 27] أياً كان نوعهم وعددهم، لكن الأهلية هنا أهلية نسب، أم أهلية إيمانية؟
الأهلية هنا يُراد بها أهلية الإيمان والاتباع، بدليل أن الله تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى، فقال على لسان نوح عليه السلام:
{ { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ٱبْنِي مِنْ أَهْلِي .. } [هود: 45].
فقال له ربه:
{ { إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [هود: 46]
فبنوة الأنبياء بنوة عمل واتباع، فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلاً وسهلاً، وإنْ جاءت من الغير فأهلاً وسهلاً.
"لذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي: سلمان منا آل البيت" فقد تعدى أن يكون مسلماً إلى أن صار واحداً من آل البيت.
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم: { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ مِنْهُمْ } [المؤمنون: 27] وكان له امرأتان، واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان، والتي ذُكرت في قول الله تعالى في سورة التحريم:
{ { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱمْرَأَتَ نُوحٍ وَٱمْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا .. } [التحريم: 10].
وكنعان هو الذي قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لأن أحداث القصة جاءت مُفرَّقة في عِدَّة مواضع، بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة، فإنْ قُلْتَ: فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلام؟
نقول: جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق - سبحانه وتعالى - نموذجاً للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على الإتيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك، فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك، وها هي قصة يوسف، إنما الهدف من القصص في القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:
{ { كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [الفرقان: 32]؛ لأنه صلى الله عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه، وسيتعرض لأزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلِّيه ويُثبِّته أمام هذه الأحداث.
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول الله، والتخفيف عنه كلما تعرَّض لموقف من هذه المواقف، وبجَمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة المستوية.
وقد أدخل نوح معه زوجته الأخرى المؤمنة وأولاده: سام وحام ويافث وزوجاتهم، فهؤلاء ستة ونوح وزوجه فهم ثمانية، ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول الإيمان الباقي مع نوح عليه السلام.
ولما كان الحكم بغرق مَنْ كفر من أهله أمراً لا استئناف فيه، قال تعالى بعدها:
{ { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } [هود: 37] لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بالله، والحق سبحانه يقول: { { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان: 13].
صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقَّ الله في أنه واحد أحد موجود، وإله لا معبود غيره، وأعطيتَه لغيره، لكن هذا الظلم لم يضر الله تعالى في شيء إنما أضرَّ بك وظلمتَ به نفسك، ومنتهى الحُمْق والسفه أن يظلم الإنسان نفسه.
ثم يقول سبحانة:
{ فَإِذَا ٱسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى ٱلْفُلْكِ فَقُلِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ... }.