خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ
٦٠
-المؤمنون

خواطر محمد متولي الشعراوي

{ يُؤْتُونَ .. } [المؤمنون: 60] يعني المال، وقال بعدها: { مَآ آتَواْ .. } [المؤمنون: 60] حتى لا يجعل لها حدّاً، لا العُشْر ولا نصف العُشر، يريد سبحانه أن يفسح لأريحية العطاء وسخاء النفس، لذلك جاءت { مَآ آتَواْ .. } [المؤمنون: 60] هكذا مُبْهمة حتى لا نظن أنها الزكاة، ونعرف أن الله تعالى يفتح المجال للإحسانية والتفضُّل، وهذا هو مقام الإحسان الذي قال الله تعالى عنه: { { إِنَّ ٱلْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } [الذاريات: 15-16].
والمحسن: الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه الله، لكن من جنس ما فرض الله عليه، فإن كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في الأداء القرآني، حيث يقول بعدها:
{ { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن ٱللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِٱلأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [الذاريات: 17-18].
وهذه أمور فوق ما فرض الله عليهم، ولم يطلب منك أن تقوم الليل لا تنام، لكن صَلِّ العشاء ونَمْ حتى الفجر، وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها:
{ { وَفِيۤ أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ } [الذرايات: 19] ولم يقل (معلوم) لأن الآية لا تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة، إنما عن الصدقة والتطوع فوق ما فرض الله.
والإبهام في { مَآ .. } [المؤمنون: 60] جاء أيضاً في قول الله تعالى:
{ { فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } [طه: 78] ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم، وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ، ولتذهب الظنون في هَوْلها كل مذهب.
لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدُّوا أيديهم للآخرين بالعطاء، فلماذا يقول تعالى: { وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ .. } [المؤمنون: 60].
نقول: لأن العبرة ليست بمجرد العمل، إنما العبرة بقبول العمل، والعمل لا يُقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله لا يخالطه رياء ولا سمعة، فهم إذن يعملون ويتحرَّوْن الإخلاص وأسباب القبول ويتصدّق أحدهم بالصدقة، بحيث لا تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه، ومع ذلك يخاف عدم القبول، وهذه أيضاً من علامات الإيمان.
وكأن ربك عز وجل يَغَار عليك أنْ تعمل عملاً لا تأخذ عليه أجراً؛ لأنك إنْ رأيت الناس في شيء من العمل تركك الله وإياهم تأخذ منهم الجزاء، فهذا إذن جَهْد مُهْدر لا فائدة منه، وهذه المسألة لا يرضاها لك ربك.
وفي الحديث القدسي:
"الإخلاص سِرٌّ من أسراري أودعته قلب مَنْ أحببت من عبادي، لا يطلع عليه مَلَك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده" .
والوجل: انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية، والخوف شيء يخيفك أنت، أما الخشية فهي أعلى من الخوف، وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه.
ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الآية { وَٱلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ .. } [المؤمنون: 60] جاءت في الرجل الذي يسرق، والذي يزني، والذي يشرب الخمر، لكن قلبه وَجلٌ من لقاء الله وخشيته، فما يزال فيه بقية من بقايا الإيمان والحياء من الله تعالى. وقالوا: إن عائشة رضي الله عنها فهمت هذا من الآية.
لكن هذا الفهم لا يستقيم مع قوله تعالى { يُؤْتُونَ .. } [المؤمنون: 60] أي: يؤتون غيرهم، فهناك إذن مُؤتٍ ومُؤْتىً له، ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال: يَأْتُون.
فالمراد: يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق، سواء أكانت هذه الحقوق لله تعالى كالزكاة والكفارات والنذور والحدود، أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والأمانات والعدالة في الحكم بينهم .. الخ فيؤدي المؤمن ما عليه من هذه الحقوق، وقلبه وَجِلٌ أَلاَّ يصاحب الإخلاص عمله فلا يقبل.
ثم يقول تعالى: { أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } [المؤمنون: 60] فالمؤمن يؤدي ما عليه، ومع ذلك تراه خائفاً وَجِلاً؛ لأنه يثق في الرجوع إلى الله والوقوف بين يديه سبحانه، وهو ربه الذي يُجازيه على قّدْر إخلاصه، ويخاف أيضاً أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لأن ربه غيور لا يرضى معه شريكاً في العمل، وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى ذرات الشر.
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين، لكن في طيها شيء من الرياء، وإنْ لم يَدْرِ الإنسان به، ومن ذلك قولهم: أفعل هذا لله ثم لك، أو: توكلت على الله وعليك.. الخ، فهذه العبارات وأمثالها تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزِّه الله منها، فلا نعطف على الله تعالى أحداً حتى لا نشركه مع الله، ولو عن غير قصد.
لذلك يقول تعالى:
{ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِٱللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [يوسف: 106] ويوم القيامة يطمئن أهل الإخلاص إلى الجزاء، ويُفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود الله تعالى، ولم يكن على بالهم حين عملوا: { { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ .. } [النور: 39] إذن: ما دُمْنَا سنفاجأ بوجود الحق، ولا شيء غير الحق، فليكُنْ عملنا للحق، ولا شيء لغير الحق.
{ أُوْلَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ ... }.