خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

حَتَّىٰ إِذَآ أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
١٨
-النمل

خواطر محمد متولي الشعراوي

الضمير في { أَتَوْا .. } [النمل: 18] يعود على جنود سليمان من الإِنس والجن والطير، أي: جاءوا جميعاً صَفَّاً واحداً ومرُّوا { عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ .. } [النمل: 18] يعني: قرية النمل، وقوله { عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمْلِ .. } [النمل: 18] يدلُّ على أنهم جاءوا من أعلى الجبل، أو أنهم قطعوا الوادي كله، كما نقول: فلان أتى على الطعام كله.
عندها { قَالَتْ نَمْلَةٌ يٰأَيُّهَا ٱلنَّمْلُ ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ .. } [النمل: 18] لماذا هذا التحذير؟ { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ .. } [النمل: 18] ثم احتاطتْ النملة للأمر، فقالت { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [النمل: 18] فما كان سليمان وجنوده ليُحطِّموا بيوت النمل عن قَصْد منهم.
والمعنى: حالة كونهم لا يشعرون بكم، وهذا من عدالة حكمها ومعرفتها بسليمان، وأنه ليس جباراً ولا عاتياً. إذن: فالنملة رأتْ عن بُعْد، ونطقتْ عن حق، وحكمتْ بعدل، لهذا كله تبسَّم سليمان ضاحكاً.
وواضح في هذا القول ما تتميز به مملكة النمل من نظام يعرف فيه كُلٌّ مهمته، ويؤديها على أكمل وجه، فهذه النملة لا بُدَّ أنها كانت تقوم بمهمة الحراسة وتقف في الدَّرَك، ترقب الجو من حولها، وكأنها جندي الدورية اليقظ.
وسبق أن قُلْنا: لو أنك جلستَ في مكان، وتركتَ فيه بعض فضلات الطعام مثلاً أو الحلوى لرأيتَ بعض النمل يدور حولها دون أنْ يقربها، ثم انصرفوا عنها، وبعد مدة ترى جماعة منهم جاءت وحملت هذه القطعة، وكأن الجماعة الأولى أفراد الاستطلاع الذين يكتشفون أماكن الطعام، ويُقدِّرون كم نملة تستطيع حمل هذا الشيء.
بدليل أنك لو ضاعفتَ القطعة الملقاة لرأيتَ عدد النمل الذي جاء لحملها قد تضاعف هو أيضاً. ولو قتلتَ النمل الأول الذي جاء للاستطلاع تلاحظ أن النمل امتنع عن هذا المكان، لماذا؟ لأن النملة التي نجتْ من القتل ذهبت إلى مملكتها، وحذَّرتهم من هذا المكان.
وفي مملكة النمل عجائب وآيات، سبحان خالقها، وسبحان مَنْ هداها إلى هذه الهندسة المحكومة بالغريزة.
ومن عجائب النمل أنك ترى في عُشِّ النمل الحبوب مفلوقة إلى نصفين حتى لا تنبت، وتهدم عليهم عُشَّهم، لكن حبَّة الكُسْبرة مثلاً تنبت حتى لو انفلقتْ نصفين، حيث ينبت كل نصف على حِدَة، لذلك لاحظوا أن النمل يفلق هذه الحبة بالذات إلى أربعة أقسام.
كما لاحظ المهتمون بدراسة النمل وجود حبات بيضاء صغيرة مثل رأس الدبوس أمام أعشاش النمل، وبفحصها تبيَّن أنها زريعة النبات التي تحمل خلايا الإنبات أخرجوها كي لا تنبت.
وصدق الله العظيم:
{ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ .. } [الأنعام: 38].
وقد سمَّى الله تعالى ما قالت النملة قولاً { قَالَتْ نَمْلَةٌ .. } [النملة: 18] ولابُدَّ أن هذا التحذير { ٱدْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ .. } [النملة: 18] جاء قبل أنْ يأتي سليمان وجنوده، وهم على مشارف الوادي.
وكلمة { مَسَاكِنَكُمْ .. } [النمل: 18] تدل على أن لهم بُيوتاً ومساكنَ، ومجالَ معيشة، وكسْبَ أرزاق، كما نقول (بيلقّطوا رزقهم) من هنا ومن هناك؛ لذلك تجده يتتبع مواضع الطعام والفضلات، ويدخل إليها من أضيق الأماكن، لكن نرى مثلاً محلات الحلوى مليئة بالسكر الذي يعشقه النمل، ومع ذلك لا نجد في هذه المحلات نملة واحدة، لماذا؟ لما تتبَّعوا هذه الظاهرة بالدراسة وجدوا أن النمل لا يدخل المكان إذا كان به سِمْسم، وهذه من عجائب النمل أيضاً.
وقوله تعالى: { لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ .. } [النمل: 18] الحَطْم هو التكسير، ومنه قوله سبحانه عن النار:
{ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْحُطَمَةُ } [الهمزة: 5] لأنها تحطم ما يُلْقى فيها.