خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ
٤٥
-النمل

خواطر محمد متولي الشعراوي

مرَّتْ بنا قصة نبي الله صالح - عليه السلام - مع قومه ثمود في سورة الشعراء، وأُعيد ذكرها هنا؛ لأن القرآن يقصُّ على رسول الله من موكب الأنبياء ما يُثبِّت به فؤاده، كلّما تعرض لأحداث تُزلزل الفؤاد، يعطيه الله النَّجْم من القرآن بما يناسب الظروف التي يمرُّ بها، وهذا ليس تكراراً للأحداث، إنما توزيع للقطات، بحيث إذا تجمعتْ تكاملتْ في بناء القصة.
وقوله سبحانه { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً .. } [النمل: 45] لا بُدَّ أنه أرسل بشيء ما هو؟ { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ .. } [النمل: 45] لذلك سُمِّيت (أنْ) التفسيرية، كما في قوله تعالى:
{ وَأَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ .. } [القصص: 7] ماذا؟ { أَنْ أَرْضِعِيهِ .. } [القصص: 7].
وقد يأتي التفسير بجملة، كما في:
{ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ ٱلشَّيْطَانُ .. } [طه: 120] بأي شيء؟ { قَالَ يٰآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ ٱلْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ } [طه: 120].
فشرح الوسوسة وهي شيء عام بقوله:
{ قَالَ يٰآدَمُ .. } [طه: 120] فرسالتنا إلى ثمود ملخصها ومؤداها { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ .. } [النمل: 45].
والعبادة كما ذكرنا أن نطيع الله بفعل ما أمر، وبترْك ما نهى عنه وزَجر، أما ما لم يرِدْ فيه أمر ولا نَهْي فهو من المباحات إنْ شئتَ فعلتها، وإنْ شئت تركتها، وإذا ما استعرضنا حركة الأحياء والخلفاء في الأرض وجدنا أن 5% من حركتهم تدخّل فيها الشارع بافعل ولا تفعل، أما الباقي فهو مُباح.
إذن: فالتكليف منُوط بأشياء يجب أنْ تفعلها؛ لأن فيها صلاحَ مجتمعك، أو أشياء يجب أن تتركها؛ لأن فيها فساد مجتمعك.
فماذا كانت النتيجة؟
{ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } [النمل: 45].
والاختصام أنْ يقف فريق منهم ضد الآخر، والمراد أن فريقاً منهم عبدوا الله وأطاعوا، والفريق الآخر عارض وكفر بالله.
وقد وقف عند هذه الآية بعض الذين يحبون أنْ يتهجَّموا على الإسلام وعلى أسلوب القرآن، وهم يفتقدون الملَكة العربية التي تساعدهم على فَهْم كلام الله، وإنْ تعلَّموها فنفوسهم غير صافية لاستقبال كلام الله، وفيهم خُبْث وسُوء نية.
واعتراضهم أن { فَرِيقَانِ .. } [النمل: 45] مثنى و{ يَخْتَصِمُونَ } [النمل: 45] دالة على الجمع، فلماذا لم يَقُل: يختصمان؟ وهذه لغة القرآن في مواضع عدة.
ومنها قوله تعالى:
{ وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱقْتَتَلُواْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ فَإِن فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا .. } [الحجرات: 9].
والقياس يقتضي أن يقول: اقتتلتا. لكن حين نتدبَّر المعنى نجد أن الطائفة جماعة مقابل جماعة أخرى، فإنْ حدث قتالٌ حمل كُلٌّ منهم السلاح، لا أن تتقدم الطائفة بسيف واحد، فهم في حال القتال جماعة.
لذلك قال (اقتتلوا) بصيغة الجمع، أما في البداية وعند تقرير القتال فلكُلِّ طائفة منهما رأْيٌ واحد يعبر عنه قائدها، إذن: فهما في هذه الحالة مثنى.
كما أن الطائفة وإنْ كانت مفردة لفظاً إلا أنها لا تُطلَق إلا على جماعة، فيقف كل واحد من الجماعة بسيفه في مواجهة آخر من الطائفة الأخرى.
وهنا أيضاً { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ .. } [النمل: 45] أي: مؤمنون وكافرون { يَخْتَصِمُونَ } [النمل: 45] لأن كل فرد في هذه الجماعة يقف في مواجهة فرد من الجماعة الأخرى.
وفي موضع آخر، شرح لنا الحق - تبارك وتعالى - هذه المسألة، فقال سبحانه:
{ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ } [الحج: 19-22].
أما الفريق الآخر:
{ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَهُدُوۤاْ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْحَمِيدِ } [الحج: 23-24].
فبيَّن لنا الحق - سبحانه - كل فريق منهما، وبيَّن مصيره وجزاءه.
ونلحظ هنا { فَإِذَا .. } [النمل: 45] يسمُّونها الفجائية، ويُمثِّلون لها بقولهم: خرجتُ فإذا أَسَدٌ بالباب، والمعنى: أنك فُوجِئْت بشيء لم تكُنْ تتوقعه، كذلك حدث من الكافرين من قوم ثمود حين قال لهم نبيهم { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ .. } [النمل: 45] لكن يفاجئوننا بأنهم فريقان: مؤمنون وكافرون.
ومنطق العقل والحق والفطرة السليمة يقتضي أنْ يستقبلوا هذا الأمر بالطاعة والتسليم، ولا يختلفوا فيه هذا الاختلاف: فريق في الجنة وفريق في السعير
{ إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14].
وقالوا: إن الله تعالى لا يرسل الرسل إلا على فساد في المجتمع، الخالق عز وجل خلق في الإنسان النفس اللوامة التي تردُّه إلى رُشْده وتنهاه، والنفس المطمئنة التي اطمأنتْ بالإيمان، وأَمنت الله على الحكم في افعل ولا تفعل، والنفس الأمَّارة بالسوء، وهَي التي لا تعرف معروفاً، ولا تنكر مُنْكَراً، ولا تدعو صاحبها إلا إلى السوء.
والله - عزَّ وجلَّ - رب، ومن عادة الرب أنْ يتعهّد المربَّى ليؤدي غايته على الوجه الأكمل، أرأيتم أباً يُربِّي أبناءه إلا لغاية؟ وما دام هو سبحانه ربي فلا يأمرني إلا لصالحي، وصالح مجتمعي، فلا شيء من طاعتنا يعود عليه بالنفع ولا شيء من معاصينا يعود عليه بالضرر؛ لأنه سبحانه خلق الكون كله بصفات الكمال المطلق. إذن: كانت الفطرة السليمة تقتضي استقبال أوامر الله بالقبول والتسليم.
وهذه الخصومة تجمع المؤمنين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الإيمان. والكافرين في جهة؛ لأنهم اتفقوا على الكفر. لكن يمتاز المؤمنون بأن يظل وفاقهم إلى نهاية العمر، بل وعند لقاء الله تعالى في الجنة؛ لأنهم اتفقوا في الدنيا في خطة العمل وفي الآخرة في غاية الجزاء، كما يقول تعالى:
{ ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [الزخرف: 67].
أما الكفار فسوف تقوم بينهم الخصومات يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، ويتبرَّأ بعضهم من بعض، والقرآن حين يُصوِّر تخاصم أهل النار يقول بعد أنْ ذكر نعيم أهل الجنة:
{ { هَـٰذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ * هَـٰذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ * وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ * هَـٰذَا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ ٱلنَّارِ * قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ ٱلْقَرَارُ * قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هَـٰذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي ٱلنَّارِ * وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نَرَىٰ رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ ٱلأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ ٱلأَبْصَار * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ ٱلنَّارِ } [ص: 55-64].
إذن: فالخصومة في الدنيا بين مؤمن وكافر، أما في الآخرة فبين الكافرين بعضهم البعض، بين الذين أَضَلُّوا والذين أُضِلُّوا، بين الذين اتَّبعُوا، والذين اتُّبِعوا.