خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٦٢
-النمل

خواطر محمد متولي الشعراوي

(يجيب) الإجابة هي تحقيق المطلوب لداعيه، والمضطر: هو الذي استنفد الأسباب، وأخذ بها فلم تُجْدِ معه، فليس أمامه إلا أنْ يترك الأسباب إلى المسبِّب سبحانه فيلجأ إليه؛ ذلك لأن الخالق - عز وجل - قبل أنْ يخلق الإنسان خلق له مُقوِّمات حياته وضرورياتها وسخَّرها لخدمته.
لذلك جاء في الحديث القدسي:
"يا ابن آدم خلقت الأشياء كلها من أجلك، وخلقتك من أجلي فلا تنشغل بما هو لك عما أنت له" .
ثم خلق الله لك الطاقة التي تستطيع أن تُسخِّر بها هذه الأشياء وضمن لك القوت الضروري من ماء ونبات، فإنْ أردتَ أنْ تُرفِّه حياتك فتحرك في الحياة بالأسباب المخلوقة لله، وبالطاقة الفاعلة فيك، وفكِّر كيف ترتقي وتُثرِي حركة الحياة من حولك.
فالماء الذي ينساب في داخل البيت حين تفتح الصنبور، والضوء الذي ينبعث بمجرد أن تضغط على زر الكهرباء، والسيارة التي تنقلك في بضع دقائق .. كلها ارتقاءات في حركة حياة الناس لما أعملوا عقولهم فيما أعطاهم الله من مادة وعقل وفكر وأسباب، وهذه كلها يد الله الممدودة لعباده، والتي لا ينبغي لنا ردّها.
فإذا ما حاولتَ ولم تفلح، ولم تثمر معك الأسباب، فعليك أنْ تلجأ مباشرة إلى المسبِّب سبحانه، لأنه خالقك والمتكفِّل بك.
واقرأ قوله تعالى:
{ وَإِذَا مَسَّ ٱلإِنسَانَ ٱلضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً .. } [يونس: 12] ويا ليته ساعةَ دعا ربه ولجأ إليه فاستجاب له يجعل له عند ربه رَجْعة، ويتوقع أنْ يصيبه الضُّر مرة أخرى؛ لكن إنْ كشف الله عنه سرعان ما يعود كما كان. { { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَىٰ ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذٰلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [يونس: 12].
{ أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ } [النمل: 62] فالمضطر إذن لابدَّ أنْ يُجيبه الله، فمَنْ قال: دعوتُ فلم يُستجب لي. فاعلم أنه غير مضطر، فليست كل ضائقة تمرُّ بالعبد تُعَدُّ من قبيل الاضطرار، كالذي يدعو الله أن يسكن في مسكن أفضل مما هو فيه، أو براتب ودَخْل أوفر مما يأخذه .. الخ، كلها مسائل لا اضطرارَ فيها، وربما علم الله أنها الأفضل لك، ولو زادك عن هذا القدر طغيتَ وتكبرتَ.
كما قال الحق سبحانه وتعالى:
{ كَلاَّ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ * أَن رَّآهُ ٱسْتَغْنَىٰ } [العلق: 6-7].
فلقد طلبتَ الخير من وجهة نظرك، وربُّك يعلم أنه لا خيرَ فيه
{ وَيَدْعُ ٱلإِنْسَانُ بِٱلشَّرِّ دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ عَجُولاً } [الإسراء: 11].
فربُّك يُصحِّح لك هذا الخطأ في فهمك للمسائل فيقول لك: سأحقق لك الخير، لكن بطريقة أخرى أنسب من هذه، فلو أجبتُك إلى ما تريد لحدث مَا لا تُحمد عقباه، وكأن الله - عز وجل - وهو ربُّنا والمتولِّي أمرنا يجعل على دعائنا (كنترول) ولو كان الله سبحانه موظفاً يلبي لكل مِنّا طلبه ما استحق أن يكون إلهاً - حاشا لله.
فالإنسان من طبيعته العجلة والتسرع، فلا بُدَّ للرب أن يتدخل في أقدار عبده بما يصلحه، وأنْ يختار له ما يناسبه؛ لأنه سبحانه الأعلم بعواقب الأشياء وبوقتها المناسب، ولكل شيء عنده تعالى موعد وميلاد.
واقرأ قول الله تعالى:
{ وَلَوْ يُعَجِّلُ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ ٱلشَّرَّ ٱسْتِعْجَالَهُمْ بِٱلْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ .. } [يونس: 11].
أَلاَ ترى بعض الأمهات تحب الواحدة ولدها وتشفق عليه، فإنْ عصاها في شيء أو ضايقها تقول رافعةً يديها إلى السماء (إلهي أشرب نارك) أو (إلهي أعمى ولا أشوفك) فكيف لو أجاب الله هذه الحمقاء؟
إذن: من رحمته تعالى بنا أنْ يختار لنا ما يُصلِحنا من الدعاء، ويُعافينا من الحمق والعجلة.
وقوله تعالى: { وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ } [النمل: 62] فكما أنه لا يجيب المضطر إلا الله لا يكشف السوء إلا الله، ولو كان هناك إله آخر يجيب المضطر ويكشف السوء لتوجَّه الناسُ إليه بالدعاء، لكن حينما يُصاب المرء لا يقول إلا يا رب، ولا يجد غير الله يلجأ إليه لأنه لن يغشَّ نفسه في حال الضائقة أو المصيبة التي ألمت به.
وقد مثَّلنا لذلك - ولله المثل الأعلى - بحلاق الصحة في الماضي، وكان يقوم بعمل الطبيب الآن، فلما أنشئت كلية الطب وتخرَّج فيها أحد أبناء القرية اتجهتْ الأنظار إليه، فكان الحلاق يذمُّ في الطب والأطباء، وأنهم لا خبرةَ لديهم لتبقى له مكانته بين أهل القرية، لكن لما مرض ابن الحلاق ماذا فعل؟ إنْ غشَّ الناس فلن يغشَّ نفسه: أخذ الولد في ظلام الليل ولفّه في البطانية، وذهب به إلى (الدكتور) الجديد.
لذلك يقول كل مضطر وكل مَنْ أصابه سوء: يا رب يا رب حتى غير المؤمن لا بُدَّ أن يقولها، ولا بُدَّ أنْ يتجه بعينه وقلبه إلى السماء إلى الإله الحق، فالوقت جِدّ لا مساومة فيه.
ويقول تعالى بعدها: { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ .. } [النمل: 62] أي: يخلفُ بعضكم بعضاً فيها، كما قال:
{ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ .. } [النور: 55].
فهل يملك هذه المسائل إلا الله: { أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ } [النمل: 62] والاستفهام هنا ينكر وجودَ إله غير الله يفعل هذا { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [النمل: 62] يعني: لو تفكرتُم وتذكرتُم لعرفتم أنه لا إله إلا الله.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ ... }.