خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ ٱلَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩١
-النمل

خواطر محمد متولي الشعراوي

فما دام أن الله تعالى أعطانا هذه المعلومات التي تلفتنا إلى قدرته في آياته الكونية، وذكَّرنا بالآخرة، وما فيها من الثواب والعقاب، فما عليك إلا أنْ تلتزم (عرفت فالزم) واعلم أن مَنْ أبلغك منهج الله سيسبقك إلى الالتزام به، فالشرع كما أمرك أمرني.
{ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ .. } [النمل: 91] فإنْ طلبتُ منكم شيئاً من التكاليف فقد طالبتُ نفسي به أولاً؛ لأنني واثق بصدق تبليغي عن الله؛ لذلك ألزمتُ نفسي به.
والعبادة كما قلنا: طاعة العابد للمعبود فيما أمر وفيما نهى؛ لأن ربك خلقك من عَدَم، وأمدك من عُدْم، ونظّم لك حركة حياتك، فإنْ كلَّفك فاعلم أن التكليف من أجلك ولصالحك؛ لأنه رب مُتولٍّ لتربيتك، فإنْ تركك بلا منهج، وبلا افعل ولا تفعل، كانت التربية ناقصة.
إذن: من تمام الربوبية أن يوجهني ربي كما نُوجِّه نحن أولادنا الصغار ونُربِّيهم، ومن تمام الربوبية أن توجد هذه الأوامر وهذه النواهي لمصلحة المربِّي، وما دام أن ربك قد وضعها لك فلا بُدَّ أن تطيعه.
لذلك نلحظ في هذه الآية { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ .. } [النمل: 91] ولم يقُلْ: أُمِرت أن أطيع الله؛ لأن الألوهية تكليف، أمّا الربوبية فعطاء وتربية، فالآية تُبيِّن حيثية سماعك للحكم من الله، وهي أنه تعالى يُربِّيك بهذه الأوامر وبهذه النواهي، وسوف تعود عليك ثمرة هذه التربية.
لذلك، الصِّديق أبو بكر حينما حدثوه عن الإسراء والمعراج لم يُمرِّر المسألة على عقله، ولم يفكر في مدى صِدْقها، إنما قال عن رسول الله: "إن كان قال فقد صدق" فالميزان عنده أن يقول رسول الله، ثم يُعلِّل لذلك فيقول: إني لأُصدِّقه في الخبر يأتي من السماء، فكيف لا أُصدِّقه في هذه.
وقال تعالى: { رَبَّ هَذِهِ ٱلْبَلْدَةِ .. } [النمل: 91] أي: مكة وخصّها بالذكْر؛ لأن فيها بيته
{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً .. } [آل عمران: 96] ثم يذكر سبحانه وتعالى من صفات مكة { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا .. } [النمل: 91] فهي مُحرَّمة يحرم فيها القتال، وهذه وسيلة لحماية العالم من فساد الحروب وفساد الخلاف الذي يُفضي بكل فريق لأنْ تأخذه العزة، فلا يجد حلاً إلا في السيف.
وكأن الحق - تبارك وتعالى - يعطي لخَلْقه فرصة للمداراة وعُذْراً يستترون خلفه، فلا ينساقون خلف غرورهم، فحين تمنعهم من الحروب حُرْمة المكان في الحرم، وحُرْمة الزمان في الأشهر الحرم - لأن كل فعل لا بُدَّ له من زمان ومكان - حين يمنعهم الشرع عن القتال فإن لأحدهم أن يقول: لم أمتنع عن ضعف. ولولا أن الله منعني لفعلْتُ وفعلْتُ، ويستتر خلف ما شرَّع الله من منع القتال، إلى أنْ يذوق حلاوة السلام فتلين نفسه، وتتوق للمراجعة.
ولحرمة مكة كان الرجل يلاقي فيها قاتل أبيه، فلا يتعرَّض له احتراماً لحرمة البيت، وقد اتسعتْ هذه الحرمة لتشمل أجناساً أخرى، فلا يُعضد شجرها، ولا يُصاد صَيْدها.
ثم يقول تعالى: { وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ .. } [النمل: 91] لأن الله تعالى حين يصطفي من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، ويصطفي من الأرض أمكنة، ومن الزمان، يريد أن يشيع الاصطفاء في كل شيء.
فالحق - تبارك وتعالى - لا يُحَابي أحداً، فحين يرسل رسولاً يُبلِّغ رسالته للناس كافة، فيعود نفعه على الجميع، وكذلك في تحريم المكان أو الزمان يعود نفعه على الجميع؛ لذلك عطف على { ٱلَّذِي حَرَّمَهَا .. } [النمل: 91] فقال { كُلُّ شَيءٍ .. } [النمل: 91] فالتحريم جُعل من أجل هؤلاء.
ثم يقول سبحانه: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } [النمل: 91] أي: المنفذين لمنهج الله يعني: لا أعتقد عقائد أخبر بها ولا أُنفِّذها، وقد قرن الله تعالى بين الإيمان والعمل الصالح؛ لأن فائدة الإيمان أنْ تعملَ به، كما قال تعالى:
{ وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ .. } [العصر: 1-3].
فالله تعالى يريد أن يُعدِّي الإيمان والأحكام إلى أن تكون سلوكاً عملياً في حركة الحياة.