خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي ٱلأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٤
-القصص

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { عَلاَ .. } [القصص: 4] من العلو أي: استعلى، والمستعلَى عليه هم رعيته، بل علا على وزرائه والخاصة من رعيته، وعلا حتى على الله - عز وجل - فادَّعى الألوهية، وهذا منتهى الاستعلاء، ومنتهى الطغيان والتكبُّر، وما دامت عنده هذه الصفات وهو بشر وله هوىً فلا بُدَّ أنْ يستخدمها في إذلال رعيته.
{ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً .. } [القصص: 4] جمع شيعة، وهي الطائفة التي لها استقلالها الخاص، والمفروض في المُمَلَّك أنْ يُسوِّي بين رعيته، فلا تأخذ طبقة أو جماعة حظوة عن الأخرى، أما فرعون فقد جعل الناس طوائف، ثم يسلِّط بعضها على بعض، ويُسخِّر بعضها لبعض.
ولا شكَّ أن جَعْل الأمة الواحدة عدة طوائف له مَلْحظ عند الفاعل، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف ويشغل بعضها ببعض، فلا تستقر بينهم الأمور، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه ويهزّ عرشه من تحته، فيظل هو مطلوباً من الجميع.
والقبط كانوا هم سكان مصر والجنس الأساسي بها، ثم لما جاءها يوسف - عليه السلام - واستقرَّ به الأمر حتى صار على خزائنها، ثم جاء إخوته لأخْذ أقواتهم من مصر، ثم استقروا بها وتناسلوا إلا أنهم احتفظوا بهويتهم فلم يذوبوا في المجتمع القبطي.
وبالمناسبة يخطىء الكثيرون فيظنون أن القبطيَّ يعني النصراني وهذا خطأ، فالقبطي يعني المصري كجنس أساسي في مصر، لكن لما استعمرت الدولةُ الرومانية مصرَ كان مع قدوم المسيحية فأطلقوا على القبطي (مسيحي).
لكن، ما السبب في أن فرعون جعل الناس طوائف، تستعبد كلٌّ منها الأخرى؟ قالوا: لأن بني إسرائيل كانوا في خدمة المستعمر الذي أزاح حكم الفراعنة، وهم ملوك الرعاة، فلما طُرِد ملوك الرعاة من مصر كان طبيعياً فيمَنْ يحكم مصر أن يضطهد بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا موالين لأعدائه، ويسيرون في ركابهم، ومن هنا جاء اضطهاد فرعون لبني إسرائيل.
والقرآن الكريم حينما يتحدث عن ملوك مصر في القديم وفي الحديث يُسمِّيهم فراعنة، كما في قوله تعالى:
{ وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } [الفجر: 10].
وهنا في قصة موسى - عليه السلام - قال أيضاً: فرعون: أما في قصة يوسف عليه السلام فلم يأْتِ ذكْر للفراعنة، إنما قال
{ ٱلْمَلِكُ .. } [يوسف: 43] وهذه من مظاهر الإعجاز في القرآن الكريم؛ لأن الحكم في مصر أيام يوسف كان لملوك الرعاة، ولم يكُنْ للفراعنة، حيث كانوا يحكمون مصر قبله وبعده لما استردوا مُلْكهم من ملوك الرُّعاة؛ لذلك في عهد يوسف بالذات قال { ٱلْمَلِكُ .. } [يوسف: 50] فلم يكُنْ للفرعون وجود في عصر يوسف.
فمعنى { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ .. } [القصص: 4] يعني: تستبد طائفة الأقباط، وهم سكان مصر الأصليون بطائفة بني إسرائيل لينتقموا منهم جزاءَ موالاتهم لأعدائهم.
وأول دليل على بطلان ألوهية فرعون أن يجعل أمته شِيَعاً، لأن المألوهين ينبغي أن يكونوا جميعاً عند الإله سواء؛ لذلك يقول تعالى في الحديث عن موكب النبوات:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ .. } [الأنعام: 159].
ذلك لأن دين الله واحد، وأوامره واحدة للجميع، فلو كنتم مُتمسِّكين بالدين الحق لجعلتُم الناس جميعاً شيعة واحدة، لا يكون لبعضهم سلطة زمنية على الآخرين، فإذا رأيت في الأمة هذه التفرقة وهذا التحزُّب فاعلم أنهم جميعاً مدينون؛ لأن الإسلام - كما قُلْنا - في صفائه كالماء الذي لا طعمَ له، ولا لون، ولا رائحة.
وهذا الماء يحبه الجميع ولا بُدَّ لهم منه لاستبقاء حياتهم، أما أن نُلوِّن هذا الماء بما نحب، فأنت تحب البرتقال، وأنا أحب المانجو. وهذا يحب الليمون .. إلخ إذن: تدخلتْ الأهواء، وتفرَّق الدين الذي أراده الله مجتمعاً.
لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ستفترق أمتي بِضْع وستون، أو بضع وسبعون فرقة، كلُّهم في النار إلا ما أنا عليه وأصحابي" .
فشيعة الإسلام إذن واحدة، أما أن نرى على الساحة عشرات الفِرَق والشِّيَع والجماعات، فأيّها يتبع المسلم؟ إذن: ما داموا قد فرَّقوا دينهم، وكانوا شِيعاً فلسْتَ منهم في شيء.
ثم يُفسِّر الحق سبحانه هذا الاستضعاف { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ .. } [القصص: 4] فيقول { يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ .. } [القصص: 4] وقلنا: إن الإفساد أن تأتي على الصالح بذاته فتفسده، فمن الفساد - إذن - قتْل الذُّكْران واستحياء النساء؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع، فقتل الذّكْران يمنع استبقاء النوع، واختار قَتْل الذكْران: لأنهم مصدر الشر بالنسبة له، أمّا النساء فلا شوكة لهُنَّ، ولا خوفَ منهن؛ لذلك استبقاهُنَّ للخدمة وللاستذلال.
وحين نتتبع هذه الآية نجد أنها جاءت في مواضع ثلاثة من كتاب الله، لكل منها أسلوب خاص، ففي الآية الأولى يقول تعالى:
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ .. } [البقرة: 49].
وفي موضع آخر:
{ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ .. } [الأعراف: 141] وهاتان الآيتان على لسان الحق تبارك وتعالى.
أما الأخرى فحكاية من الله على لسان موسى - عليه السلام - حين يُعدِّد نِعَم الله تعالى على بني إسرائيل، فيقول:
{ { ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ .. } [إبراهيم: 6].
فالواو في
{ وَيُذَبِّحُونَ .. } [إبراهيم: 6] لم ترد في الكلام على لسان الله تعالى، إنما وردتْ في كلام موسى؛ لأنه في موقف تَعداد نِعَم الله على قومه وقصده؛ لأن يُضخِّم نعم الله عليهم ويُذكِّرهم بكل النعم، فعطف على { يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ .. } [إبراهيم: 6] قوله { وَيُذَبِّحُونَ .. } [إبراهيم: 6].
لكن حين يتكَلَّم الله تعالى فلا يمتنُّ إلا بالشيء الأصيل، وهو قتْل الأولاد واستحياء النساء؛ لأن الحق - تبارك وتعالى - لا يمتنّ بالصغيرة، إنما يمتنُّ بالشيء العظيم، فتذبيح الأبناء واستحياء النساء هو نفسه سوء العذاب.
وقوله مرة
{ يُذَبِّحُونَ .. } [البقرة: 49] ومرة { يُقَتِّلُونَ .. } [الأعراف: 141] لأن قتل الذّكْران أخذ أكثر من صورة، فمرَّة يُذبِّحونهم ومرة يخنقونهم.
ومعنى:
{ يَسُومُونَكُمْ .. } [الأعراف: 141] من السَّوْم، وهو أنْ تطلب الماشية المرعى، فنتركها تطلبه في الخلاء، وتلتقط رزقها بنفسها لا نقدمه نحن لها، وتسمى هذه سائمة، أما التي نربطها ونُقدِّم لها غذاءها فلا تُسمَّى سائمة.
فالمعنى
{ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ .. } [الاعراف: 141] يعني: يطلبون لكم سوء العذاب، وما داموا كذلك فلا بُدَّ أنْ يتفنَّنوا لكم فيه.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ ... }.