خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ
٥٨
-العنكبوت

خواطر محمد متولي الشعراوي

هذه في مقابل: { { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِٱلْكَافِرِينَ * يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ .. } [العنكبوت: 54-55] وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين، كما يقول سبحانه: { { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13-14].
فجَمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن، ويزيد من حَسْرة الكافر.
ومعنى { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً .. } [العنكبوت: 58] أي: نُنزلهم ونُمكِّنهم منها، كما جاء في قوله تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ ٱلْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ .. } [آل عمران: 121] يعني: تُنزِلهم أماكنهم.
والجنة تُطلق على الأرض ذات الخضرة والأشجار والأزهار في الدنيا، كما جاء في قوله سبحانه:
{ { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ .. } [البقرة: 266].
وقوله سبحانه:
{ { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ .. } [القلم: 17].
وقوله سبحانه:
{ { وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ .. } [الكهف: 32].
فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من الخِصْب والنماء والجمال، وفيها أسباب القُوت والترف، إذا كان ذلك في دنيا الأسباب التي نراها، فما بالك بما أعدَّه الله لخَلْقه في الآخرة؟
ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ .. } [العنكبوت: 58] ونحن نعرف أن أنهار الدنيا تجري خلالها عبر الشُّطآن التي تحجز الماء، أمّا في الجنة فتجري أنهارها بلا شُطآن.
لذلك لما كنا نسافر إلى بلاد المدنية والتقدّم، ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي: خذوا من هذا النعيم عِظَة، فهو ما أعدَّه البشر للبشر، فما بالكم بما أعدَّه ربُّ البشر للبشر؟
فإذا رأيتَ نعيماً عند أحد فلا تحقد عليه، بل ازْدَدْ به يقيناً في الله تعالى، وأن ما عنده أعظم من هذا. أَلاَ ترى أن الحق - تبارك وتعالى - حينما يخبرنا عن الجنة يقول:
{ { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ .. } [محمد: 15] فيجعلها مثلاً؛ لأن ألفاظ اللغة لا تؤدي المعاني التي في الجنة ولا تَصِفها.
لذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"فيها ما لا عَيْن رأت، ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر" فكل ما جاء فيها ليس وصفاً لها إنما مجرد مثَل لها، ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة صَفّى المثل من شوائبه، فقال: { { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى .. } [محمد: 15] ويكفي أن تعلم أن نعيم الجنة يأتي مناسباً لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه.
وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا .. } [العنكبوت: 58] لأن النعيم مهما كان واسعاً، ومهما تعددتْ ألوانه، فيُنغِّصه ويُؤرِّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر، أما نعيم الجنة فدائم لا يزول ولا ينقطع، فلا يفوتك ولا تفوته، كما قال سبحانه:
{ { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [الواقعة: 33] لا يُكدِّرها شيء.
إذن: فالرابح مَنْ آثر الآخرة على الدنيا؛ لأن نعيم الدنيا مآله إلى زوال، ولا تقُلْ: إن عمر الدنيا كم مليون سنة، إنما عمرها مدة بقائك أنت فيها، وإلا فماذا تستفيد من عمر غيرك؟
ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك، فنعيم الدنيا بالأسباب، لكن نعيم الآخرة بالمسبِّب سبحانه، لذلك ترى نعيماً صافياً لا يُنغِّصه شيء، فأنت ربما تأكل الأكْلة في الدنيا فتسبِّب لك المتاعب والمضايقات، كالمغص والانتفاخ، علاوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلُّص من فضلات هذه الأكلة.
أما في الآخرة فقد أعدَّ الله لك الطعام على قَدْر الحاجة، بحيث لا تكون له فضلات، لأنه طُهِي بكُنْ من الله تعالى.
لذلك سُئِل أحد علماء المسلمين: تقولون: إن الجنة تأكلون فيها، ولا تتغوطون، فكيف ذلك؟ فقال: ولم التعجب، أَلاَ تروْنَ الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ولا يتغوط؛ لأن الله تعالى يعطيه غذاءه على قدر حاجته للنمو، فلا يبقى منه فضلات، ولو تغوَّط في مشيمته لمات في بطن أمه.
وقوله تعالى: { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [العنكبوت: 58] نعم، نعْم هذا الأجر؛ لأنك مكثْتَ إلى سِنِّ التكليف ترْبَع في نعم الله دون أنْ يُكلِّفك بشيء، ثم يعطيك على مدة التكليف أجراً لا ينقطع، ولا نهاية له، فأيُّ أجر أَسْخى من هذا؟ ويكفي أن الذي يقرِّر هذه الحقيقة هو الله، فهو سبحانه القائل: { نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ } [العنكبوت: 58].
ثم يقول الحق سبحانه:
{ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ... }.