خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٨
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

معنى { أَرْسَلْنَاكَ .. } [سبأ: 28] أي: جعلناك رسولاً { إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28] كلمة كافة تبين منزلة الرسول الخاتم، فقبل بعثة سيدنا رسول الله كان الرسول يُبعث لقوم مخصوصين، كما قال سبحانه وتعالى: { { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ .. } [آل عمران: 49].
ذلك، لأن البشر لما تكاثروا كما قال سبحانه:
{ { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً .. } [النساء: 1] تفرَّقوا في أنحاء الأرض هنا وهناك، والعالم لا يزال في طفولة فطرته، ليس فيه ارتقاءات للقاء بين هذه الجماعات، فكانت جماعات منعزلة، لا اتصال بينها، ولكل بيئة منها داءاتها: فهؤلاء يُطفِّفون الكيل والميزان، وهؤلاء يعبدون الأصنام ... إلخ فيأتي الرسول إلى قوم مخصوصين ليعالج داءهم لا علاقة له بغيرهم.
أما سيدنا رسول الله، فكان هو الرسول الخاتم المبعوث للناس كافّة؛ لأن الله تعالى عَلِم أزلاً أنه سيأتي على التقاء مع الدنيا كلها، وعلى اتصال بين الجماعات التي كانت مُتفرِّقة، وها نحن الآن نعيش عالم القرية الواحدة، وما يحدث في أقصى بلاد الدنيا نسمعه ونراه في وقته، وما دام العالم التقت مجتمعاته وقاراته، فالداءات واحدة؛ لذلك جاء رسول واحد ليعالج كل الداءات في كل المجتمعات، هذا معنى: { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28].
ومعنى أنه صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل أنه مشهود له، وليس شاهداً لغيره، فقد أخذ الله تعالى العهد على الرسل، أنه إذا جاء محمد يشهدون له فشهدوا له جميعاً، أما هو صلى الله عليه وسلم فلم يشهد لأحد؛ لأنه لم يأْتِ بعده رسول.
قال العلماء في كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] يعني: للناس جميعاً، ففي موضع آخر يقول تعالى:
{ { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً .. } [الأعراف: 158].
يعني: لم تَعُدْ هناك خصوصية، لا زمانية ولا مكانية. وحين نتأمل كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] نجد لها مناسبة في واقع لغتنا، استقر على ألسنة العامة: نشاهد الخياط مثلاً حين يخيط ثوباً يُعمِل المقصَّ في القماش، فيقطعه إلى لُحمة وسُدة، لكن تخرج خيوط الثوب من خلال أطرافه كما نقول القماش (بينسِّل) فيجمع الخياط هذه الأطراف بعضها إلى بعض، بحيث تكون أطراف القماش إلى الداخل، وهذه العملية نسميها (كفكفة) القماش، أو نسميها الآن (السَّرفلة).
ومن ذلك كلمة (كَافَّة) يعني: جَمْع شتات الناس في كل زمان ومكان، بحيث لا يخرج منهم جنس ولا جماعة، ولا يشذّ عن منهجه أحد.
وعندنا في الفلاحين نبات ينمو على حوافِّ القنوات اسمه النجيل، وهو غير الحشيش المعروف، والنجيل لا يرتفع عن سطح الأرض، وتتشابك عيدانه وجذوره بحيث يمنع هذه الحوافّ أن تنهار، أو يسقط منها الردم فيسدّ القناة، فكأن النجيل أدى مهمة هي كفّ الردم ومنعه أنْ ينهار يعني: كفّ جنساً أن يشرد عن مهمته.
وكلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] من كفّ الشيء يكُفُّه، فهو كافٌّ، وزيدت تاء التأنيث للمبالغة، كما في عالم وعلاَّم وعلاَّمة، لذلك يقول ربنا عن نفسه سبحانه:
{ { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [التوبة: 78] فإنْ قُلْتَ: لماذا لم يَقُلْ علاَّمة؟ نقول: لأن علْم الله تعالى لا يترقى بلاغة وقِلَّة.
فمعنى { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ .. } [سبأ: 28] يعني: تكفُّهم وتمنعهم عن كل شر يفسد الصلاح في الأرض، وهذه هي مهمة المنهج الذي جاء به سيدنا رسول الله؛ لذلك قال سبحانه:
{ { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا.. } [الأعراف: 56].
إذن: كلمة { كَآفَّةً .. } [سبأ: 28] إما وَصْف للناس بمعنى جميعاً، وإما وَصْف لرسول الله بمعنى كافٌّ للناس عن الشر، والتاء للمبالغة.
ومعنى { بَشِيراً وَنَذِيراً .. } [سبأ: 28] من البشارة، وهي أنْ تخبر بخير لم يَأْتِ أوانه بعد، ويقابلها النذارة، وهي أن تخبر بشرٍّ لم يأْتِ أوانه بعد، فمَيْزة البشارة أنها نخبرك بالخير القادم لك لتأخذ بأسبابه وتُقبل عليه وتجتهد في سبيله، وأنت مشتاق إليه، كذلك النذارة تحذرك من الخطر المقبل لتنصرف عن أسبابه وتدفعه عنك.
ومثال ذلك: المعلم الذي يبشِّر التلميذ المجتهد بالنجاح والتفوق، وينذر المهمل بالفشل والرسوب، لماذا؟ لأنه يريد من المجتهد أنْ يزيد في اجتهاده، ومن الكسول المهمل أنْ يترك الكسل والإهمال ليتفوَّق هو الآخر.
وقوله: { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ } [سبأ: 28] أي: لا يعلمون أنك الرسول الخاتم، أو الرسول الذي جاء ليمنع الشر عن البشرية كلها ويصلح حركتها. وما دام أكثر الناس لا يعلمون، فمعنى ذلك أن القلة هي التي تعلم، وهذه القلة العالمة هي خميرة الخير في الوجود؛ لذلك نرى الناس مهما بالغوا في الإلحاد، وفي الخروج عن منهج الحق لا بُدَّ أن تخرج من بينهم هذه القلة التي تتمسك بالحق وتسعى إليه وتنادي به، فهي موجودة في كل زمان ومكان وإنْ قلَّتْ.
لذلك يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الخير فيَّ وفي أمتي إلى يوم القيامة" .
إذن: لا بُدَّ أنْ تبقى فينا هذه القلة كنماذج وخليّات للخير، ولاستبقائه بين الناس مهما أظلمتْ الدنيا من حولهم.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هَـٰذَا ٱلْوَعْدُ... }.