خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِٱلَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَىٰ إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
٣٧
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

الكلام هنا مُوجَّه إلى الكفار الذين ظلموا بأموالهم وأولادهم، فمثل هذا المال، ومثل هؤلاء الأولاد لا يكونون أبداً زلفى، ولا قربى إلى الله، لكن إن استغل هذا في مرضاة الله وفي سبيل الله وفي أبواب الخير فهو من أعظم القربات.
المال يُنْفَق منه في نواحي الخير، والأولاد يُربوْن التربية الصالحة ليكونوا أسوة خَيْر في مجتمعهم، لذلك استثنى الله تعالى فقال: { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [سبأ: 37] أى: فيما أعطاه الله من نعمة المال ومن نعمة الأولاد.
{ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ } [سبأ: 37] وهكذا فتح الله الباب للنعمة، حين تُستغل في مرضاة الله، فليس كل الأموال ولا كل الأولاد نعمة، فالمال قد يجرُّ صاحبه إلى الهلاك، ويلقي به في النار، والأولاد الذين ظننتَ أنهم لك عِزْوة وقوة قد تنقلب هذه العِزْوة عليك.
ورأينا كثيراً من الذين يبحثون عن هذه العِزْوة في الباطل، لكن يريد الله أنْ يُذِلَهم بما فتنوا، يذهب الرجل مثلاً فيخطب لولده بنت أحد الأعيان، أو الأغنياء، أو أحد أصحاب المناصب، ويفرح بهذا النسب ويفخر به، لكن أضمنتَ أنك سترضي هذه البنت؟ وأنك لن تختلف معها في يوم من الأيام؛ لذلك كثيراً ما تنقلب هذه العِزْوة وهذا الجاه على صاحبنا، فيُذله الله من حيث ظنَّ هو العزة والكرامة.
وقوله تعالى: { فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ } [سبأ: 37] لا يأتي الضعف إلا في جزاء الحسنة، أما السيئة فلا تُضاعف، إنما يكون الجزاء بمثلها، وهذا من رحمة الله تعالى بنا، وقال { ٱلضِّعْفِ } [سبأ: 37] ولم يقُلْ الأضعاف؛ لأن (الضعف) اسم جنس يصلح للقليل وللكثير، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [العصر: 1-3] فاستثنى (الذِينَ) وهي جمع من المفرد (الإنْسَانَ) لأنه اسم جنس.
والضِّعْف أي: مضاعفة الحسنة، أو مضاعفة الصدقة، ومن معاني الضِّعف أنك إذا وزنتَ الأصل الذي أنفقتَه وجدته ضعيفاً بالنسبة لما أخذتَ عليه من الجزاء.
وليست المضاعفة هي نهاية العطاء عند الله؛ لأن الحديث النبوي الشريف أكمل هذه المسألة، فقال صلى الله عليه وسلم:
"الحسنة بعَشْر أمثالها إلى سبعمائة ضِعْف" .
فالله تعالى يُضاعف لمن يشاء على قَدر النيات في العطاء والبَذْل، فواحد يعطي وفي نفسه أنه أعطى وبذل من ماله ومن جهده، وآخر يعطي ويؤمن أنه مجرد مُناول عن الله، فالمال عنده مال الله، والعطاء من الله.
ومن صور العطاء ما تعلَّمناه من السيدة فاطمة، فرُوي أن سيدنا رسول الله دخل عليها فوجدها تجلو درهماً لها، فَسألها رسول الله عنه فقالت: لأنني نويت أنْ أتصدق به، وأنا أعلم انه يقع في يد الله قبل أنْ يقع في يد الفقير.
ثم إن المتصدق بمجرد أنْ يُخرج الصدقة من يده تخرج قيمتها من قلبه، ولا يتتبعها، ولا تتعلق نفسه بها، أما حين يُقْرِض قرضاً، فإن نفسه لا تنساه وتتعلق به، وكلما تحركت نفسه لطلب القرض صبر عليه، فكان له الثواب على قَرْضه كلما صبر عليه.
لذلك أثار المستشرقون ضجة حول مسألة الجزاء على الصدقة وعلى القرض، وادعَوْا تضارب الآية والحديث في هذه المسألة، ففي الحديث قال صلى الله عليه وسلم:
"مكتوب على باب الجنة: الحسنةُ بعشر أمثالها، والقرض بثمانية عشر" .
والحق سبحانه يقول: { { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَٰعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً .. } [البقرة: 245].
وبالجمع بين الاثنين يكون القَرْض حين يُضَاعف بعشرين لا بثمانية عشر، والحمد لله فتح الله لنا ما أُغْلِق من هذه المسألة، فقُلْنا: لو أن رجلاً تصدَّق بدينار مثلاً، فالله يجازيه الحسنة بعشر أمثالها، لكن هل أعاد إليه الدينا الذي دفعه؟ لا، إنما ذهب الدينار مقابل العشرة، إذن: أخذ في الواقع تسعة، فحين تُضاعف تساوي ثمانية عشر.
نعود إلى قوله تعالى: { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [سبأ: 37] في مواضع كثيرة من كتاب الله يجمع الله بين الإيمان والعمل الصالح، لماذا؟ لأنهما جناحان لا يتم العمل إلا بهما معاً، فالعمل الصالح بلا إيمان هَبَاء لا قيمةَ له كأعمال الكفار الخيرية التي يأخذون الجزاء عليها في الدنيا شهرةً وتكريماً وتخليداً لهم، لكن لا نصيبَ لهم في ثواب الآخرة، كذلك لا قيمة للإيمان إنْ لم يُترجم إلى عمل صالح.
{ فَأُوْلَـٰئِكَ } [سبأ: 37] أي: الذين آمنوا وعملوا الصالحات { لَهُمْ جَزَآءُ ٱلضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37] الغرفات جمع غرفة، وهي المكان الذى يُبْنى عادى أعلى البيت، وتكون خاصة للاستقرار الذاتي، لذلك نرى حتى الآن في بناء الفيلات مثلاً يجعلون الدور الأرضي للاستقبال العام وللطعام، فإنْ أراد صاحب البيت أنْ يرتاح يصعد إلى الدور العلوي الذي جُعِل للاستقلالية والخصوصية.
وللإنسان خصوصيات، حتى داخل بيته وبين أولاده، فإذا كان صاحب البيت مثلاً في غرفة نومه، فله الحرية أن يلبس ما يشاء، أو حتى يجلس فيها عرياناً، فإن أراد أن يخرج إلى الصالة تهيَّأ لها وارتدى الملابس التي تناسبها، فإنْ أراد أنْ يخرج إلى الشارع تهيَّأ أيضاً له بما يناسبه منة ملابس، كذلك النادي، أو مكان اجتماع القوم، لكُلٍّ زي خاص وسَمْت خاص.
ولهذه الاستقلالية والخصوصية جعل الناس الآن غرفة للبنين، وغرفة للبنات، فإنْ لم تَكُنْ هناك سَعَة في المكان جعلوا سريراً للولد، وسريراً للبنت.
فالحق سبحانه يحفظ لعبده قَدْره، ويحفظ له هذه الخصوصية، وهي خصوصية آمنة لا يُنغص أمنها فَزَع { وَهُمْ فِي ٱلْغُرُفَاتِ آمِنُونَ } [سبأ: 37].