خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
٣٩
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

قلنا: يبسط يعني يُوسِّع. ويقدر يعني: يُضيق، وقد ورد هذا المعنى قبل عدة آيات، لكن هنا يضيف لفتة جديدة، فيقول سبحانه بعدها مباشرة { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39] وكأن الحق سبحانه يلفت أنظارنا إلى أن الخَلْق جميعاً خَلْقه وعباده، وهو قادر سبحانه أنْ يعطي الجميع، وأنْ يُوسِّع على الجميع، لكن يريد أنْ يتحابَّ الخَلْق، وأنْ يتكافل الناس؛ لذلك وسَّع على بعضهم، وضَيَّق على بعضهم، ثم أشار لمن وسَّع عليه ولوَّح له بجزاء الإنفاق، لينفق على أخيه الذي ضُيَّق عليه.
وهذه الآية تعطينا ملخصاً لاقتصاد العالم كله؛ لأن معنى الاقتصاد موازنة المصروفات بالواردات، فالمصروفات لمصروف له، والواردات لوارد عليه، إذن: لا بُدَّ أن يكون في المكان الواحد فئة تعطي وفئة تأخذ، لا بُدَّ أن يكون فيها فقراء وأغنياء، لذلك الحق سبحانه لم يترك بَسْطة الغنى هكذا حرة، كذلك لم يترك تقتير الفقير، بل جعل لهذا مَبْذلاً، ولهذا مصدراً.
فبعد أن أخبر سبحانه: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } [سبأ: 39] حكمها فقال: { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ: 39] فالحق سبحانه يراعي مبدأ النفعية لصاحب المال، ويراعب حب الأغنياء للمال؛ لذلك يطمئنهم على أموالهم، ويتكفَّل هو سبحانه بأنْ يخلفها لهم.
والحق سبحانه بسط الرزق للأغنياء وهم يحبون المال ولكنه يقول لهم: إذا أُحِلْت على غنى فاتبع، يعني: إنْ كان لك دَيْن عند فقير فأحالك بدينك إلى غنى قادر على السداد فتحوَّل؛ لأنك لا تضمن متى سيُوسِّع الله على الفقير ليُسدِّد ما عليه.
وهكذا طمأن اللهُ الأغنياءَ بأنّ أموالهم لن تنقص بالإنفاق؛ لأنها أحيلت إلى الله وتكفَّل هو بالسداد.
لذلك يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول:
"ليس لك من مالك إلا ما أكلتَ فأفنيتَ، أو لبستَ فأبليتَ، أو تصدقْتَ فأبقيْتَ" .
"ولما أُهديَتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة تصدَّقَتْ بها السيدة عائشة، وأبقَتْ لرسول الله كتفها؛ لأنها تعلم أنه يحب الكتف، فلما عاد رسول الله سألها: ماذا صنعت بالشاة يا عائشة؟ قالت: ذهبتْ كلُّها إلا كتفها، فقال صلى الله عليه وسلم: بل بقيَتْ كلها إلا كتفها" .
لماذا؟ لأنه مال تحوَّل إلى ذمة الله، وقد تعهد الله بأنْ يُخلفه، وما بالك إنْ كان الإخلاف من الله القائل: { { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [النساء: 86].
وأنت حييْتَ الله في الفقير بتحية فلا بُدَّ أن يردَّها لك بأحسن منها، بل ويُضاعفها لك أضعافاً كثيرة بما يفوق الحَصْر والعَدَّ، ومثَّلْنا لذلك بالحبة يزرعها الفلاح، فتُعطي سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، فإذا كان هذا عطاء الأرض المخلوقة لله تعالى، فما بالك بعطاء الخالق عز وجل؟
فقوله تعالى: { فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [سبأ: 39] يريد سبحانه أنْ يُطمئن الغنيَّ بأن ماله لن ينقص، ويُطمئن الفقير بأنه لن يتخلَّى عنه، ولن يتركه للفقر، بدليل أنه سبحانه اقترض من أجله، فقال تعالى:
{ { مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } [البقرة: 245] فالله يقترض من الخَلْق للخَلْق، وهو قادر سبحانه أن يُوسِّع على الجميع، إنما الهدف أنْ يتعايش الناس بوداد المعونة، وأنْ يحب الغنيُّ الفقيرَ، ولا يحقد الفقير على الغني.
لذلك تُختم الآية بقوله تعالى: { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39] قال سبحانه خير الرازقين؛ لأن الرازق: كل مَنْ يمدُّ لك يده بما تنتفع به، وعليه فأبوك بالنسبة لك رازق، والذي يعولك ويتكفَّل بك رازق، كذلك ربُّك عز وجل رازق، لكن فَرْق بينهما، فأبوك رازق؛ لأنه يأتي لك بالرزق، لكن إنْ سألته من أين هذا الرزق يقول: من عند الله، فهو سبب ومناول، أما الحق سبحانه فهو خالق الرزق؛ لذلك قال { وَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ } [سبأ: 39].
وسبق أنْ أوضحنا: إذا رأيتَ صفة مشتركة بين الخَلْق والخالق فاعلم أن الجهة مُنفكّة، فلكلٍّ ما يناسبه. إذن: حيثية الخيرية هنا أنه تعالى هو الرازق، وهو خالق الرزق، وهو الذى يُيسِّر لك أسبابه حتى يصل إليك.
وقالوا: خيرية الله في الرزق ناشئة من ثلاث مسائل: الأولى: أنه سبحانه لا يُؤجِّل الرزق لوقت الحاجة إليه، إنما خلقه لك قبل أنْ يخلقك، وأعدَّ لك مُقوِّمات الحياة قبل أنْ يستدعيك إليها. الثانية: أنه لا يحاسبك على ما رزقك. الثالثة: لا يطلب منك ثواباً على ما وهبك.
لهذا كله كان الحق سبحانه وما يزال خير الرازقين، وتأمل مثلاً فرعون لما ربَّى موسى عليه السلام امتنَّ عليه، فقال:
{ { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [الشعراء: 18].
والمعنى: كان ينبغي عليك يا موسى أنْ تُجاملنا، وتحفظ جميلنا عليك، وألاَّ تصادمنا هذا الصدام.
ومثل ذلك قول الحق سبحانه وتعالى:
{ { حَتَّىٰ يَحْكُمَ ٱللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ ٱلْحَاكِمِينَ } [يونس: 109].
وقوله تعالى:
{ { .. فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
في هذه الآيات كلها، الحق - تبارك وتعالى - راعَى مواهب الخَلْق وقدَّر حركتهم الإيجابية في الحياة؛ لذلك أثبتَ لهم صفة من صفاته وهي الخَلْق، ومعنى الخَلْق إيجاد شيء لم يكُنْ موجوداً، فالإنسان يُعَدُّ خالقاً حين يصنع من الرمل (الكريستال) مثلاً: والحق سبحانه لا يضنّ عليه فيسميه خالقاً، لكن إنْ كان الإنسان خالقاً، فالحق - سبحانه وتعالى - أحسن الخالقين، لماذا؟
قالوا: حيثيات هذه الخيرية في عملية الخَلْق من عدة وجوه: منها: أولاً: أن الإنسان يَخلق من مادة موجودة، أما الخالق سبحانه فيخلق من لا شيء من العدم. ثانياً: صنعة الإنسان تظل على حالة واحدة، فلا تنمو ولا تتكاثر، أما خَلْق الله ففيه حياة، فهو يتغذَّى وينمو ويتكاثر .. الخ.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ... }.