خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
٤٦
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

بعد أنْ أعطاهم الحق سبحانه درساً وعبرة بمَنْ سبقهم من المكذبين يعود ليخاطبهم من جديد، فيقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ } يعني: لهم { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } [سبأ: 46] الوعظ ليس إنشاءَ حكم، إنما هو تذكير بحكم سبق ونسيه الناس، فالواعظ يُبيِّن للناس أموراً يعرفونها ويؤمنون بها من الدين، لكم أَنْستهم الشهوات والغفلة هذه الأمور، فهو مُذكِّر بها، والعِظَة لا تكون إلا من مُحبٍّ لك حريص على مصلحتك.
لذلك فالحق - تبارك وتعالى - يعطينا نموذجاً للوعظ في قصة لقمان حين يعِظ ولده:
{ { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ .. } [لقمان: 13].
ومعنى { بِوَاحِدَةٍ } [سبأ: 46] يعني: موعظة واحدة فيها كل الآحاد، واستخدم السياق { إِنَّمَآ } [سبأ: 46] الدالة على القصر يعني: لا أعظكم إلا بواحدة، ما هي؟ { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } [سبأ: 46] يعني: إياك أنْ تقوم لشهوة نفسك، أو لسيادة تحافظ عليها، إياك أنْ تقوم وأنت تريد الاستعلاء على هذا النبي، إنما يكون قيامك لله، يعني: تتجرد عن هواك، وتتجرَّد عن شهواتك وعن تعصُّبك.
وما دُمْتَ تتودد إليهم أنْ يقوموا لله فلا بُدَّ أن لله تعالى مكانة في قلوبهم، وهو سبحانه في بالهم بدليل:
{ { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } [لقمان: 25]. { { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [الزخرف: 87].
إذن: كانوا يؤمنون بأن الله تعالى هو خالقهم، وهو خالق السماوات والأرض؛ لأن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا ينكرها منكر، مهما بلغ من الكفر والإلحاد، لماذا؟
لأن مسألة الخَلْق لم يدَّعها أحد لنفسه؛ لأن الدعوى إنما تكون عند وقوع ليس بباطل يمكن أن يكون له رواج، لكن هذه المسألة واضحة، لا لَبْسَ فيها، ومهما بحثوا فلن يجدوا خالقاً لهم وللكون من حولهم إلا الله؛ لذلك يجادلهم بالمنطق في هذه المسألة فيقول: أنتم أمام أمرين: إما إنكم خلقتم هذا الخَلْق، أو أنكم خُلِقْتم من غير خالق.
فالأولى مردودة؛ لأن أحداً لم يَدَّع الخَلْق، والأخرى مردودة؛ لأن أتفه من السماء والأرض، وأتفه من الإنسان لا بُدَّ له من صانع يصنعه، فالحذاء الذي تلبسه في قدميك، أليس له صانع؟
إذن: السماء والأرض والإنسان لا بُدَّ أن لهم صانعاً على قدر عِظمهم، وكيف ينكرون هذه المسألة وهم يعترفون بعضهم لبعض بأبسط الأمور، ويعرفون صاحبها ويفخرون به، ففلان كان يئد البنات، وفلان كان عنده جفنة طعام يأكل منها كذا وكذا من الضِّيفان، وفلان كان أشجع العرب .. إلخ وكَثُر في شعرهم قولهم: أنا ابن فلان، وأنا ابن فلان.
إذن: مسألة الخَلْق هذه لا يجرؤ أحد منهم على أنْ ينكرها، وما داموا يعترفون لله تعالى بالخَلْق، فعليهم أنْ يقوموا لهذا الإله الذي أقروا له بالخلق، وأنْ يُخلِصوا في قيامهم له، فلا يكون في بالهم أحد سواه، وعندها ثِقُوا تماماً أنكم ستصلون بهذا القيام إلى الحق؛ لأنه لا يُضَبِّبُ الحق في عقول الباحثين فيه إلا هوى النفس، كما قاله سبحانه:
{ { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [المؤمنون: 71].
والقيام المراد هنا لا يشترط فيه الجماعة ولا الجماهيرية؛ لأنه قيام للتفكُّر، فينبغي أنْ يكون { مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ .. } [سبأ: 46] مثنى: يعنى: اثنين اثنين، وفرادى: واحداً واحداً. بحيث يختلي كُلٌّ مع نفسه ليفكر في أمر محمد بواقعية وتجرُّد: كيف كان بينكم، وكيف كانت سيرته وأخلاقه، وهل جرَّبتم عليه كذباً، أو سحراً، أو كهانة؟ وهل سبق له أنْ ادَّعَى ما ليس له؟ هل رأيتم عليه قبل بعثته علامة من علامات الجنون؟ { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46].
وهذا التفكُّر في حال رسول الله يحتاج إلى موضوعية؛ لذلك اختار أنْ ينفردوا به، إما مثنى مثنى، وإما فرادى، فالإنسان حين يكون بمفرده، فلا يوجد له نظير ينهزم أمامه، ولا نظير يهيجه على غير الحق، فرأيه في هذه الحالة يكون أقرب للصواب.
والمنفرد إنْ تفكَّر وصل إلى الحق؛ لأنه لن يغشَّ نفسه، ولن يخدعها، ولن يستكبر أنْ يعود للحق، إما أن كانوا جماعة فلا بُدَّ أن يحاول كل منهم أنْ يثبت حجته، ولو اضطر للكذب وللخداع كما نراهم في مثل هذه المواقف، كُلٌّ يحلف أنه على الحق وغيره على الباطل.
فكأن الحق بهذه الطريقة في التفكير يحمينا ويعصمنا من غوغائية الجماهيرية في الحكم، هذه الغوغائية التي نشاهدها مثلاً في المظاهرات، حيث يهتف كُلٌّ بما يريد، فتختلط الأصوات، وتتداخل الهتافات، فلا تستطيع أنْ تميزها.
لذلك لما تكلم شوقيرحمه الله عن موقعة (اكتيوم) بين كليوباترا وخصومها وقد هُزِمَتْ فيها، إلا أن أبواقهم صوَّرَتْ الهزيمة على أنها نصر، وأخذتْ الجماهير الغوغائية تُردِّد ما يقولون، فقال شوقي:

اسْمِعِ الشعْبَ دُيُونُ كَيْفَ يُوحُون إليْه
مَلأَ الجوَّ هِتَافاً بحياتَىْ قَاتِلَيْه
أَثَّر البهتانُ فيهِ وانطَلى الزُّور عليْه
يَا لَهُ من بَبْغاءٍ عقلُه في أُذُنيْه!!

فالحق يُعلِّمنا كيفية التفكُّر مثنى أو فرادى، ويحمينا من الغوغائية.
وهذه المسألة تأخذنا إلى اعتراض المستشرقين على قوله تعالى:
{ { يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ مِنَ ٱلْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } [الأنبياء: 110].
ووجه اعتراضهم: إذا كان الله تعالى يمتنُّ علينا بعلم ما نكتم، فما الميزة في علم الجهر، وكلنا يعلم الجهر؟ ونقول: الخطاب هنا للجماعة، فالحق سبحانه يعلم ما تكتمون جميعاً وما تعلنون، إنِ اختلطت أصواتكم وتداخلت فهو يعلمها، ويرد كلَّ صوتٍ إلى صاحبه، وعِلْم الجهر المختلط أعظم من علم المكتوم؛ لأن المكتوم يمكن أنْ تكونَ له أمارات تدل عليه، أمّا علم الجهر المختلط، فيصعب أنْ تُميِّز بعضه من بعض.
كذلك إنْ كانوا مثنى مثنى، فالاثنان كما نقول: الرأي والرأي الآخر، ولو انهزم أحدهما أمام الآخر فهزيمته مستورة؛ لذلك دائماً ما نسمع من يقول لخصمه: أريد أن أجلس أنا وأنت على انفراد؟ لأنكما طرفا المسألة ولا يوجد طرف ثالث يُسبِّب لواحد منكما إحراجاً، أو إذلالاً، يتسبب في تغيُّر مسلكك أمامه.
ومعنى { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } [سبأ: 46] ليس القيام الذي يقابله القعود، إنما مَنْ قام بالأمر يعني: فعله وأدَّاه، وإنْ كان قاعداً، ومن ذلك نقول: فلان يقوم بأمر فلان، أو فلان يؤدي وظيفة فلان. أي: يقوم بها.
ومعنى { مَا بِصَاحِبِكُمْ } [سبأ: 46] يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِّن جِنَّةٍ } [سبأ: 46] جنون؛ لأنهم قالوا على رسول الله أنه مجنون، وعجيب منهم وهم أعرف الناس به، أنْ يصفوه بالجنون، وهم لم يَرواْ عليه علامة من علامات الجنون، ولم يصنع شيئاً مخالفاً لمجتمعه الذي عاش فيه، بل كانوا قبل البعثة يقولون عنه: الصادق الأمين، فكما ظهر كذبهم في قولهم (ساحر)، كذلك ظهر كذبهم في قولهم (مجنون).
ولو خَلاَ الواحد منهم إلى نفسه، ثم تفكَّر في شخص رسول الله لوصل بنفسه إلى الحق، ولو أدار في عقله هذه الاتهامات لوجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ منها، وما دام منفرداً في هذا التفكُّر، فلن يخجل أبداً أنْ يعود إلى الحق؛ لأنه لن ينهزم أمام أحد.
وقد تناول القرآن الكريم كل افتراءاتهم على رسول الله، وأظهر بطلانها، فقال تعالى:
{ { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } [الحاقة: 40-42].
وقال:
{ { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير: 22].
والحق - سبحانه وتعالى - هنا لم يذكر لنا نتيجة التفكُّر والبحث مثنى وفرادى؛ لأنه معلوم وواضح، إلا أنه قال عنه صلى الله عليه وسلم: { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ: 46].
شيء آخر: هل آمن الناس كلهم برسول الله بعد أن سمعوا منه قرآناً مُعْجزاً لنقول: إن القرآن هو المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول؟ نقول: لا، إنما منهم مَنْ لم يؤمن بعد أن سمع القرآن، ومنهم مَنْ آمن قبل نزول القرآن، وبمجرد أنْ قال محمد: إني رسول الله. وأولهم السيدة خديجة، والصِّدِّيق أبو بكر، فما حيثية إيمانهم برسول الله؟ وما المعجزة التي عرفوا بها صِدْقه؟ حيثيته ومعجزته عند هؤلاء سيرته صلى الله عليه وسلم فيهم أولاً، فهي كافية لأنْ يؤمنوا به إنْ قال: أنا رسول الله إليكم. أما القرآن فهو معجزة وتحدٍّ لمن جحد.
لذلك نرى سيدنا رسول الله يُذكِّر قومه بهذه السيرة بينهم ويتخذها حجة له،
"فلما بُعِث صعد إلى الصفا، ونادى في القوم، فلما اجتمعوا حوله قال: أرأيتم لو حدثتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي جاءت لتُغير عليكم، أكنتم مُصَدِّقي؟ قالوا: ما جرَّبنا عليك مِنْ كذب، فقال: أنا رسول الله إليكم فقالوا لِتَوِّهم: أنت كذاب تباً لك، أَلهذا جمعتنا؟" .
"ورُوِي في إسلام سيدنا عبد الله بن سلام، وكان أحد أحبار اليهود أنه لما اطمأنَّ قلبه للإيمان بعد ما رأى من أوصاف رسول الله التي ذُكِرت في كتبهم، وتأكَّد أنه رسول الله ذهب إليه وقال: يا رسول الله لقد شرح الله صدري للإيمان، وتعلم يا رسول الله أن اليهود قوم بُهْتٌ، فإذا أسلمتُ قالوا فيَّ ما ليس فيَّ، فادْعُهُمْ يا رسول الله، واسألهم عني، وسوف أعلن إسلامي أمامهم بعد أنْ تسمع رأيهم فيَّ، وفعلاً دعاهم سيدنا رسول الله وسألهم: ما تقولون في ابن سلام؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وحَبْرنا وابن حَبْرنا، وجمعوا له كل أوصاف المدح، عندها قال ابن سلام: أما وقد قالوا فيَّ ما قالوا: أشهد أنك رسول الله، فقالوا: بل أنت شرُّنا وابن شرِّنا.
فقال: ألم أَقُلْ لك يا رسول الله أنهم قوم بُهْت؟"
.
وتلحظ أن الذين صادموا رسول الله في أول البعثة، والذين اتهموه بالكذب من أهله وأقرب للناس إليه، وعمه هو الذي قال له: تباً لك ألهذا جمعتنا؟ وهنا موطن حكمة وحجة في بعثة سيدنا رسول الله، جعلها الله ليعلم الناس أن مكانة قريش وسيادتها في الجزيرة العربية لم تكن هي التي صنعت رسالة محمد ليسودوا بها العالم، فأعدى أعدائه كانوا من قريش، ولم يجد رسول الله نُصْرة في مكة، إنما كانت نصرته في يثرب.
لذلك سبق أن قلنا: إن الإيمان بمحمد هو الذي خلق العصبية لمحمد، لا أن العصبية لمحمد هي التي خلقتْ الإيمان به صلى الله عليه وسلم.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ... }.