خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ
٤٨
قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ
٤٩
-سبأ

خواطر محمد متولي الشعراوي

لك أنْ تلحظ هنا حدة الأسلوب، خلافاً للآيات السابقة التي كانت تعظهم وتتودد إليهم، وكأن الحق سبحانه يقول لهم: لا تظنّوا أننا سنظل نتودد إليكم، أو أنكم الذين ستسيِّرون المراكب، فالدين سيُظهِره الله رغم عنادكم، والحق سيعلو رغم كفركم.
فقال سبحانه: { قُلْ } أي: ردًّا عليهم { إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } [سبأ: 48] فبعد أنْ أعطاكم الفرصة، وبعد أنْ طال تمردكم، فالآن ربي سيقذف بالحق، كما قال سبحانه في موضع آخر
{ { بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلَى ٱلْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ ٱلْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } [الأنبياء: 18].
والقذف: الرمي بشدة، وهي كلمة تُوحِي بالعنف والقوة، إنْ جاءت من البشر، فما بالك إنْ كان القذف من الله، والمقذوف من الله هو الحق، والحق كما قلنا هو الشيء الثابت الذي لا يتغير.
والقذف لا بُدَّ أنْ له غرضاً وغاية، ومَنْ أراد أنْ يقذف شيئاً عليه أنْ يُحدِّد المسافة لقريب أم لبعيد، فإن كان لقريب فقلَّما يخطىء القاذفُ المقذوفَ، وإنْ كان القذف لهدف بعيد فاحتمال الخطأ أكثر، وهكذا كلما بَعُدَتْ المسافة؛ لأن معنى القذف تحديد موضع لتصل القذيفةُ إليه، وتصيب الغايةَ المقصودة منها.
وعندما يكون الموضع قريباً، فالتغيرات التي ستطرأ عليه قليلة؛ لأن زمن وصول القذيفة إليه قصير، على خلاف الهدف إنْ كان بعيداً فهو عُرْضة لأنْ يتغير، فتختلف مثلاً زاويته بسبب الريح، أو الأعاصير أو خلافه؛ لذلك نحتاج في هذه الحالة إلى أجهزة وحسابات دقيقة تحسب بُعْد الهدف وقوة المقذوف، وقوة الريح أي: تتصادم معه وغير ذلك من حسابات السرعة والزمن، كالذي يرمي الطير مثلاً وهو في الهواء، لا بُدَّ أنْ يغير نقطة التنشين لتناسب حركةَ واتجاه الطائر.
ولا أَقْدَر على هذه العملية من علاَّم الغيوب سبحانه، الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض؛ لذلك جاء الحق سبحانه بالصفة التي تناسب الدقة في هذه العملية، فقال: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [سبأ: 48] فهو سبحانه أولاً يقذف بالحق، وقذيفته سبحانه لا تخطىء هدفاً؛ لأنه تعالى علاَّم الغيوب.
والحق الذي يقذف الله به هو المنهج الذي أنزله من السماء يقذفه لغاية وهي الرسالة، كما قال سبحانه:
{ { ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام: 124].
إذن: القاذف هو الله، والمقذوف الحق، وهو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والغاية المقصودة هي وصول الرسالة إلى مَن اختاره الله لها، وهذه العملية لا تخطىء؛ لأن القاذف عالم بكلِّ غيب يؤثر على مسار المقذوف، فالحق لا بُدَّ أنْ يصل إلى صاحبه المختار له والمصطفى لحمله، لا إلى سواه.
لذلك هذه الآية تردُّ على هؤلاء الذين يقولون: إن الرسالة أو الوحي أخطأ، فنزل على محمد بدل أنْ ينزل على فلان، فهذا تخبُّط لا سند له.
وكلمة { ٱلْغُيُوبِ } [سبأ: 48] هنا تدل على كثرة المؤثرات التي يمكن أن تعترض القذيفة، فتُحول بينها وبين هدفها، وهذه المؤثرات لا يعلمها إلا الله.
فإنْ قلت: الفعل يقذف جاء في صيغة المضارع الدال على الحال والاستقبال، يعني: أن الحق سبحانه عمله أنه يقذف بالحق إلى الرسل، فهل قذفه إلى رسول الله؟
تأتي الإجابة في قوله تعالى في الآية بعدها:
{ قُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ .. } [سبأ: 49] يعني: قذفه بالفعل في صورة القرآن الذي نزل على محمد الذي اختاره الله للرسالة ولحمل منهجه إلى خَلْقه لينظم به حركة حياتهم، وإذا كان الحق الواضح الثابت قد جاء وظهر، والذي قذفه علام الغيوب، فما موقف الباطل المقابل له؟ لا بُدَّ أنه يتراجع، ولا يستطيع الصمود أمام قوة الحق.
{ وَمَا يُبْدِىءُ ٱلْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ } [سبأ: 49] فلا يبدىء في الأولى، ولا يعيد في الأخرى، يعنى: كما نقول: لا في العير ولا في النفير (لا يهش ولا ينش)، هذا إذا كان للباطل وجود أو ثبات، إنما الباطل ما هو إلا خيال بعيد في أذهان أصحابه لا وجودَ له.
والحق - سبحانه وتعالى - يعطينا صورة حسِّية للحق والباطل، فيقول سبحانه:
{ { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا .. } [الرعد: 17] يعني: كل وادٍ يحوي من الماء على قدر اتساعه { { فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً } [الرعد: 17].
والزَّبَد هو القشّ والفتات الذي يحمله الماء، وهو تافه لا نفعَ فيه، يأتي الهواء فيزيحه هنا وهناك، وتبقى صفحة الماء نقية لينتفع الناس به.
ومعنى رابياً: طافياً على السطح، وفي هذا إشارة إلى أن الباطل لا نفعَ فيه، ولا بقاءَ له مهما علا، وأن وجوده كوجود هذا الغثاء، الذي لا قيمةَ له، ولا فائدة منه.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ عَلَىٰ نَفْسِي... }.