خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ
١٣
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

صحيح أن الليل والنهار يتساويان في بعض الأحايين، لكن يطول الليلُ في الشتاء فيأخذ جُزْءاً من النهار، ويطول النهار في الصيف فيأخذ جزءاً من الليل، إذن طُول أحدهما نَقْص من الآخر، هذا معنى { يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ } [فاطر: 13] يعني: يُدخِل هذا في هذا.
وظاهرة إدخال الليل في النهار وإدخال النهار في الليل ناشئة من ميل المحور، فالحق سبحانه كما وزَّع الماء وحفظه في البحر الواسع، كذلك وزَّع الحرارة، فالشمس لولا وجود المحور المائل لاحترقتْ الجهة المقابلة للشمس وتجمدتْ الجهة الأخرى.
ومن عجائب الخلق أن الإنسان الذي يعيش عن القطب الشمالي أو القطب الجنوبي حرارته 37 مثل الذي يعيش عند خط الاستواء، لأن الجسم البشري مبنيٌّ على هندسة خاصة تحفظ له حرارته المناسبة أيَّاً كان، بل تحفظ لكل عضو فيه حرارته التي تناسبه مع أن الأعضاء كلها في جسم واحد، والحرارة تُشِعُّ وتستطرق في المكان كله.
عجيب أن الكبد مثلاً لا يؤدي وظيفته الطبيعية إلا في درجة حرارة 40، والعين لا تزيد حرارتها عن 7، فمَنْ يمنع حرارة الكبد أن تستطرق في الجسم كله وتصل إلى العين مثلاً؟ إنه الخالق
{ { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ * وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [الأعلى: 2-3].
وقوله سبحانه: { وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } [فاطر: 13] يعني: ذلَّلهما للإنسان، وجعلهما في خدمته دون قدرة له عليهما، ودون إرادة منه، فالشمس والقمر آيتان في الهيكل العام للكون لا دّخْلَ للإنسان فيهما، ولو كان له دَخْل لَفَسد أمرهما وما استقام، وصدق الله:
{ { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ .. } [المؤمنون: 71].
فإنْ قُلْت: إفساد الإنسان في الأرض أمر ممكن، فكيف يكون إفساده للسماء؟ قالوا: ألم يتمَنَّ قوم أنْ تسقط السماءُ عليهم، فقالوا:
{ { أَوْ تُسْقِطَ ٱلسَّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً } [الإسراء: 92] فلو اتبع الحقُّ أهواءَ هؤلاء لَخَرِبَتْ الدنيا.
وهذه مسألة تكلمتْ فيها المدرسة الفلسفية في ألمانيا أمام مدرسة أخرى، وكان لهما رأيان متناقضان، وهما في عصر واحد، وكل منهما تتخذ من رأيها دليلاً على الإلحاد وقولاً بعدم وجود إله، وهذا عجيب.
فواحدة تقول: لا شذوذ في العالم، فهو يسير على قوانين مستقيمة أشبه ما تكون (بالميكانيكا)، ولو كان لهذا الكون إله خالق لاختلف الخَلْق وحدث فيه شذوذ.
والأخرى تقول: إن الكون لا يسير على نظام ثابت، بل يحدث فيه شذوذ في الخَلْق، بدليل أن البعض يُولَد مثلاً مُعوَّقاً، ولو كان للعالم إله خالق لجاء الخَلْق واحداً مستوياً لا اختلافَ فيه.
سبحان الله، فهم يريدون الإلحاد على أيِّ وجه، فمزاجهم أنْ يلحدوا.
ونقول لهؤلاء: تعالوا نردّكم إلى الصواب وإلى كلمة سواء: يا مَنْ تريد شذوذ الأشياء دليلاً على وجود إله قادر الدليل موجود، ويا مَنْ تريد ثبات الأشياء دليلاً على وجود إله حكيم الدليل موجود، لكن الجهة مُنفكة، كيف؟
النظام الثابت الذي لا شذوذَ فيه موجود في الكون العلوي الذي يسير على رتابة ونظام لا يتخلَّف، فحركة الشمس والقمر والكواكب والأفلاك تسير كلها على نظام واحد لا يختلُّ أبداً، والآن استطعنا مثلاً تحديد لحظة الكسوف والخسوف، وفعلاً نشاهده في وقته بالضبط.
إذن: إنْ أردتَ الثبات دليلاً فَخُذْه من الأفلاك العليا؛ لأنها لا بُدَّ أنْ تُبنى على نظام ثابت لا شذوذَ فيه، وإلا لاَخْتلَّ الكون كله.
فإنْ كنت تريد الشذوذ فشاهده في الجزئيات؛ لأن شذوذَ الجزئيات لا يؤثر على النظام العام للكون؛ لذلك ترى: هذا سليم، وهذا أعمى، وهذا أعور.. إلخ. إذن: الثبات في موضعه لحكمة والشذوذ في موضعه لحكمة، وهذا وذاك دليلان على وجود الإله الخالق القادر.
وقوله تعالى { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [فاطر: 13] أي: الشمس والقمر يجري كل منهما إلى وقت معلوم يتم فيه فَنَاؤهما ونهايتهما { ذَلِكُمُ } [فاطر: 13] أي: الذي فعل هذا وقدَّره { ٱللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ ٱلْمُلْكُ } [فاطر: 13] أي: العالم المحسّ المشَاهَد لك، أما الذي لا تراه من مُلْك الله فهو عَالَم الملكوت، وهو ما غاب عنك، ولا تدركه حواسُّك.
لذلك لما نجح سيدنا إبراهيم في الابتلاء كما قال تعالى:
{ { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124] أعطاه الله منزلة عظيمة، وأطلعه على الملكوت الذي غاب عن غيره، فقال سبحانه: { { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [الأنعام: 75] وما يترتب من عالم المُلْك المشاهد لنا ناشئ عن عالم الملكوت الذي لا ندركه.
والحق سبحانه وتعالى يشير إلى هذا العالم - عالم الملكوت - في قوله تعالى:
{ { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [الأنفال: 29].
كيف، ونحن ما اتقينا الله إلا بالفرقان أي: بالقرآن، فما معنى
{ { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [الأنفال: 29]؟ قالوا: الفرقان هنا أن يُريك الله ملكوتَ السماوات والأرض.
وقوله سبحانه: { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13] يعني: إنْ كان الإله الحق خلق لكم كذا كذا، وسخَّر لكم الشمس والقمر، فإن آلهتكم المدَّعاة المزعومة { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13] فما القطمير؟
المتأمل في القرآن الكريم يجده يُولي اهتماماً كبيراً للنخلة، وأول ما خاطب خاطب العربَ، وهم أول مَنْ وُوجهوا بالإسلام ودُعوا إليه، فخاطبهم القرآن بما يناسبهم، وذكر لهم أمثلة من بيئتهم، والنخلة مشهورة في البيئة العربية، ولها في ديننا منزلة، حتى أنه نُسِب إلى سيدنا رسول الله أنه قال "أكرموا عمتكم النخلة".
وهذا القول وإن لم يصح عن رسول الله إلا أن الذي قاله لم يَقُلْهُ من فراغ، ولا بُدَّ أن لهذا القول أصلاً، وأن هناك صلة بين الإنسان والنخلة.
وقد صَحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه:
"إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها" .
فلما سمع عبد الله بن عمر هذا قال لأبيه: لقد وقع في نفسي أنها النخلة، لأنها لا يسقط ورقها، وهي أشبه بالمؤمن، فكل ما فيها نافع فبكَّر عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله، إن ابني عبد الله قال عن الشجرة التي ذكرتَ أنها النخلة. فقال: صدق، فقال عمر: فوالله ما يسرني أنْ يكون لي بها حُمر النعم، يعني: فرح أن يفهم ابنه مقالة رسول الله.
وقد حاول العلماء تقريب هذه الحقيقة إلى الأذهان وإثبات النسب بين الإنسان والنخلة، وأنها ربما تكون قد خُلِقَت من بقية طينة سيدنا آدم، فقالوا: إن رائحة طلع النخلة الذي يتم به التلقيح هي نفس رائحة المنيِّ عند الإنسان، وهذا يرجح صِدْق قول مَنْ قال إنها عمَّتنا.
وفي خَلْق النخلة على هذه الصورة عجائب وأسرار، ويكفي أن كل ما فيها نافع، ولا يُرْمى منها شيء، وقد جعلها الله موضعاً للمثَل والعبرة، فلما حدَّثَ العرب عن الهلال، قال:
{ { وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يس: 39].
والعرجون هو السُّباطة التي تحمل البلح حين تيبس تلتوي وتتقوَّس، فقرَّب لهم الأعلى بذِكر الأدنى المعروف لهم.
خُذْ مثلاً نواة التمرة، وهي أهون ما يكون، إلا أن الله تعالى كرَّمها حين ذكر منها ثلاثة أجزاء جعلها أمثالاً توضيحية. ذكر القطمير الذي معنا في هذه الآية { وَٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [فاطر: 13] وهو الغشاء الشفاف الذي يحيط بالنواة، ونجد مثله بين بياض البيضة وقشرتها.
وذكر النقير في قوله سبحانه:
{ { فَأُوْلَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ ٱلْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [النساء: 124] والنقير تجويف صغير، أو نقرة في ظهر النواة.
وذكر الفتيل في قوله تعالى:
{ { قُلْ مَتَاعُ ٱلدُّنْيَا قَلِيلٌ وَٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ ٱتَّقَىٰ وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [النساء: 77] والفتيل خيط أبيض تجده في بطن النواة، وهذه الثلاث: القطمير والنقير والفتيل تُضرب مثلاً للشيء اليسير المتناهي في القلة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا ٱسْتَجَابُواْ لَكُمْ... }.