خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ
٢٤
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق: هو الشيء الثابت الذي لا يتغير، والله تعالى يضرب لنا مثلاً حسياً لتوضيح الحق والباطل، فيقول سبحانه: { { أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ } [الرعد: 17].
وقد ترجمنا هذه العلاقة بين الحق والباطل ترجمة عصرية فقلنا: لا يصح إلا الصحيح، نعم لأن الباطل وإنْ أخذ صورة الحق مرة بعض الوقت، فهو كالزَّبَد الذي سرعان ما تزيحه الرياح لتكشف وجه الحقيقة الناصع والحق الواضح.
وقوله تعالى لنبيه: { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } [فاطر: 24] يدل على أنه الرسول الخاتم الذي لا رسول ولا نبي بعده يغير شيئاً مما جاء به، فالنبي جاء بالحق الثابت الذي لا يتغير أبداً، ولا يستدرك عليه أحد بعده. لذلك فإن آفة البشرية الآن أنها تحكم العصر وتطور الأوضاع في الحكم على المخالفات الشرعية، فحين نتعرض لمخالفة نسمع مَنْ يقول إنه التطور الذي لا بُدَّ منه، وهؤلاء هم دعاة (عَصْرنة) الدين، يعني تطويع الدين ليلائم العصر.
وهذا يعني أن تطور العصر هو المشرع، في حين أن المفروض أن العصر هو الذي يستقبل تشريع السماء ويبني حركة حياته على هَدْيه ونوره؛ لأن الحركة التي تُبْنى على هَدْي السماء هي الحركة العليا من الرب الأعلى الذي يعلم حقيقة الخير لك ولا يستدرك عليه، أما إنْ شرع لك إنسانٌ مثلك، فحتى هو لو دَلَّك على الخير فهو خير من وجهة نظره وعلى قدر علمه، فلا بُدَّ أنْ يكون فيه نقص وقصور، ولا بُدَّ أنْ يأتي بعده مَنْ ينقضه ويستدرك عليه.
لذلك رأينا حتى غير المسلمين تُلجئهم أقضية الحياة إلى أن يأخذوا بحلول الإسلام للتغلب على مشاكلهم، وهم بالطبع لا يأخذون أحكام الإسلام حباً فيه، إنما لأنهم لم يجدوا حلاً في غيره. ومن هذه القضايا قضية الطلاق التي طالما أثاروا حولها الشكوك وظنوها مأخذاً على الإسلام، والآن في إيطاليا يقررون الطلاق، لا لأن الإسلام شرَّعه، إنما لأن مشاكلهم لا تُحَلُّ إلا به.
وهذه المسألة توضح لنا معنى قوله تعالى:
{ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [التوبة: 33].
لذلك سُئِلْنا في بعض رحلاتنا: القرآن يقول:
{ { لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9] وفى آية أخرى: { { وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8] فكيف تم نور الله ومع الإسلام ديانات أخرى كثيرة، ما زالت موجودة، وأغلبها أكثر من الإسلام عَدَداً وقوة؟
لقد فهم هؤلاء أن معنى
{ { مُتِمُّ نُورِهِ } [الصف: 8] أنْ يصير الناس جميعاً مسلمين، ولو كان الأمر كذلك ما قال الله تعالى { { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ } [الصف: 9] { { وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ } [الصف: 8] إذن: الحق سبحانه يقرر وجود الشرك والكفر مع الإسلام. والمعنى: أن الله مُتِم نوره يعني مع كفرهم ومع شركهم طوال المدة، إلا أنهم لن يقدروا على إطفاء هذا النور، فسوف يظل، وسوف يتغلب على أحكامهم ويظهر عليها، بحيث لا يجدون حلاً لأقضيتهم إلا في هذا النور.
وقوله تعالى: { بَشِيراً وَنَذِيراً } [فاطر: 24] البشير: الذي يُخبر بالخير قبل أوانه. والنذير: الذي يُحذِّر من الشر قبل أوانه { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر: 24] إنْ هنا بمعنى ما النافية، مثل:
{ { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } [فاطر: 23] فالمعنى: ما من أمة إلا خلا فيها نذير يعني: جاءها نذير ومضى.
والأمة: الجماعة من الناس، تجمعهم أرض واحدة، أو يجمعهم سلوك واحد، أو عقيدة واحدة. ومن معاني كلمة أمة ما جاء في قوله تعالى:
{ { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل: 120] يعني: جامعاً وحده كُلَّ خصال الخير، بحيث لو جمعت كل صفات الخير في أمة تجدها في سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وإذا كانت الأمم السابقة مضى في كل منها نذير، فرسول الله هو النذير الأخير، لماذا؟ قالوا: لأن واقع العالم في القديم كان بعيد التواجد منقطعاً بعضُه عن بعض لصعوبة الاتصال، فالجماعات تعيش منفصلة لا اتصال بينها، فترى لكل بيئة داءاتها وعيوبها وعاداتها، فيأتي الرسول ليعالج داءات قومه فحسب، فسيدنا نوح عليه السلام جاء للذين عبدوا وَداً وسُواعاً ويَغُوث ويَعُوق ونَسْراً، وسيدنا لوط عليه السلام جاء ليعالج داء الشذوذ في قومه .. الخ
أما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جاء على ميعاد مع التقاء الدنيا كلها، حين تداخلت الحضارات والمجتمعات، فصار العيب في أمة عيباً في كل الأمم، وزاد هذا الالتقاء حتى أصبحنا اليوم نرى ونسمع ما يحدث في أقصى بلاد الدنيا في التَّوِّ واللحظة، كذلك نرى ونسمع سلبيات وعيوب الآخرين وكأنها في بلادنا، إذن: ستتوحد الداءات، وتتوحد النقائص، ويصبح العالم كله بيئة واحدة، لذلك كانت رسالة الإسلام رسالة عالمية، وبُعث سيدنا رسول الله للناس كافة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ... }.