خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
٢٧
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

تلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يُذكِّرنا ببعض نِعَمه علينا، ثم يُتبع ذلك ببعض المطلوبات، وهكذا ليُؤنِس قلبك بالإحسان إليك لتستجيب لمطلوباته. والحق سبحانه حين يُذكِّر عباده بهذه الآية الكونية، آية إنزال الماء من السماء بعد أنْ بيَّن لنبيه أخْذه الشديد للكافرين، كأنه سبحانه يقول لرسوله: دَعْك من أمر هؤلاء الكافرين، فأنا قادر على معاقبتهم، وتأمل في هذه الآية الكونية { أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً.. } [فاطر: 27].
وقوله { أَلَمْ تَرَ } [فاطر: 27] أي: تشاهد؛ لأن الجميع يرى الماء، وهو ينزل من ناحية العلو، والسماء هي كل ما علاك فأظلَّك، وقد تأتي
{ { أَلَمْ تَرَ } [الفيل: 1] بمعنى: ألم تعلم. وهذا في الأشياء التي لم يَرَها رسول الله كما في قوله سبحانه: { { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ ٱلْفِيلِ } [الفيل: 1].
ومعلوم أن سيدنا رسول الله لم يَرَ حادثة الفيل، لكن خاطبه ربه بـ
{ { أَلَمْ تَرَ } [الفيل: 1] ليدل على أن إخبار الله له أوثقُ وأصدقُ من رؤية العين.
ومسألة إنزال الماء من السماء أي من ناحيتها، وإلا فالسماء شيء آخر، المطر إنما ينزل من السحاب القريب من الأرض. نقول: مسألة إنزال الماء من ناحية السماء يبدو أمراً طبيعياً، فبخار الماء ينعقد في السماء على هيئة سُحُب ممتلئة بالماء، والماء له ثِقَل ينزل إلى أسفل بجاذبية الأرض، لذلك يرتب الله على إنزال المطر إخراج النبات { فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا } [فاطر: 27] فإنْ قُلْتُ: إن نزول الماء من السماء أمر طبيعي قد يُشك فيه أنه من فعل الطبيعة، فهل إحياء الأرض وإنبات النبات مختلف الثمرات والألوان أيضاً من فعل الطبيعة؟
وكلمة { أنزَلَ } [فاطر: 27] تفيد العُلُو من المُنزِل والدُّنُو من المُنزَل إليه، حتى لو كان هذا الأمر معكوساً وأتى الإنزال من أسفل إلى أعلى كما في قوله تعالى:
{ { وَأَنزَلْنَا ٱلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } [الحديد: 25] والحديد في الواقع نُخرجه من باطن الأرض، لكن سماه الله إنزالاً؛ لأن المراد به الإتيان من أعلى لأدنى بصرف النظر عن جهته أعلى أو أدنى.
ونحن نشاهد عملية إنزال الماء من السماء، لكن لم نشاهد عملية البخر التي تتم على سطح الماء في الأرض، ثم صعودها إلى طبقات الجو العليا حيث تتكوَّن السُّحب عن طريق التكثيف، والإنسان لم يكُنْ يعلم شيئاً عن هذه العمليات حتى تقدَّمتْ العلوم، وعرفنا عملية تقطير الماء.
أما عملية إخراج النبات والثمرات المختلفة الألوان فهي واضحة مُشَاهدة في البساتين والحقول، فكلنا يرى بدائع الألوان واختلاف الأشكال بحيث لا تتناهى حصراً؛ لأن ألوان الطيف إنْ كانت هي الألوان الأصلية فيمكن أن يتولَّد منها مَا لا حصر له، فاللون الأسود مثلاً لو أضفتَ إليه قطرة واحدة من اللون البني مثلاً يعطيك لوناً آخر، فإنْ أضفتَ قطرتين يعطيك لوناً ثالثاً، وهكذا لا تتناهى الألوان، وهذه المسألة نشاهدها الآن في صناعة الأقمشة، فقد تعددت ألوانها بدرجات مختلفة وزركشات لا حصر لها. إذن: نقول: إن الألوان كائن لا يتناهى.
ولك أن تتأمل تداخل الألوان وتناسقها في زهرة أو وردة في الحديقة، وسوف ترى في ألوانها الإعجاز المبهر، فالحبة واحدة، والأرض واحدة، والماء واحد، لكن تولَّد من هذا كله هذا الشكل البديع وهذه الألوان المتداخلة المتناسقة؛ لأن الحدث آثار المحدِث، فإذا كان المحدِثُ محدودَ القدرة ظهرتْ آثاره كذلك محدودةَ القدرة، وإذا كان المحدِث فائقَ القدرة تأتي آثاره فائقة القدرة، أما الحق سبحانه فله طلاقة القدرة؛ لذلك تأتي آثاره كذلك.
وتلحظ في سياق الآية أن الحق سبحانه لم يتكلم عن إنزال المطر من السماء قال { أنزَلَ } [فاطر: 27] بصيغة ضمير الغائب، لكن لما تكلّم عن إخراج الثمرات قال: { فَأَخْرَجْنَا } [فاطر: 27] فنقلنا إلى ضمير الجماعة المتكلمة الدالّ على التعظيم؛ لماذا؟ لأن إنزال الماء من السماء ليس هدفاً في ذاته، فليس هو المهم، بدليل أن الماء قد ينزل على الأرض السّبخة فلا تستفيد به، أما عملية إخراج الثمار فهي العملية المهمة التي أنزل اللهُ الماءَ من أجلها؛ لذلك ذكرها بضمير الجمع الدالّ على التعظيم، فالحق سبحانه يُعظِّم نفسه في الفعل كما في قوله سبحانه:
{ { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر: 9].
ونحن نعرف في عُرْفنا أن الحدث يختلف باختلاف المحدِث، فإنْ أحدثه فرد واحد أتى الحدثُ على مستوى قدرة هذا الفرد، فإنْ تكاتفت فيه جماعة جاء على مستوى هذا التكاتف؛ لذلك نسمع عند سَنِّ القوانين التي تحكم الشعوب يقول القائد أو الملك: نحن رئيس الجمهورية، أو نحن ملك مصر، أو نحن سلطان كذا وكذا؛ لأن مسألة سَنِّ القوانين ليست مسألة فردية يقررها الحاكم أو الملك، ولا ينطق بها باسمه، إنما يشاركه فيها رعيته، وينطق باسمهم جميعاً.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى حين يُحدِّثنا عن فعل من أفعاله يُحدِّثنا بضمير الجمع، أما إنْ تكلم عن ذاته سبحانه تكلّم بضمير المفرد، مثل:
{ { إِنَّنِيۤ أَنَا ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاۤ أَنَاْ فَٱعْبُدْنِي وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [طه: 14].
وإنزال الماء في صورته أمر واحد، أما الإخراج ففيه تلوُّن للمخرج، فالماء المنزَّل من السماء واحد، لكن آثار الماء متعددة، فهذا أصفر، وهذا أبيض، وهذا أحمر .. الخ، فهذه العملية تحتاج إلى تعظيم يناسبها.
لكن، هل الإخراج للثمرات هكذا مباشرة؟ أم الإخراج للنبات الذي يعطي الثمرات؟ الإخراج للنبات الذي يعطي الثمر، فالحق سبحانه يذكر لنا الشيء بنهاية المطلوب منه وهو الثمر، وهذا الثمر يأتي مختلفاً في ألوانه، مع أن البيئة واحدة ويُسقى بماء واحد، وحين تتأمل الألوان في الثمار تجد فيها طلاقة القدرة لله تعالى، وهذه الألوان لم تُجعل هكذا لمجرد الشكل والزينة، إنما جُعِلَتْ هكذا لحكمة أرادها الخالق سبحانَه، منها أن هذه الألوان تجذب الحَشرات المخصِّبة.
ولو تأملتَ هذه الألوان لوجدتها متعددة حتى في اللون الواحد، ألاَ ترى أن بياض الثلج مثلاً غير بياض الثوب، غير بياض الجير؛ لذلك يصفون الألوان فيقولون أبيض يقق، وأصفر فاقع، وأحمر قانٍ، وأخضر مدْهَام.
وبعد أنْ حدَّثنا الحق سبحانه عن آية من آياته في النبات يُحدِّثنا عن الجماد { وَمِنَ ٱلْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] ففي الجمادات أيضاً ألوان نشاهدها مثلاً حين نشقُّ الصخر لاستخراج ما في باطن الأرض، ترى مثلاً الجرانيت والرخام والعقيق بألوان مختلفة كذلك.
وكلمة { جُدَدٌ } [فاطر: 27] جمع جُدة، وهي الخط الفاصل بين شيئين، رأيتم طبعاً الحمار الوحشي المخطط ومدى تناسق هذه الخطوط، ترى مثل هذا في طبقات الجبال، وهي مختلفة البياض ومختلفة الاحمرار.
ومعنى { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] تقول: أسود غِرْبيب يعني: شديد السواد. فالغربيب أشدُّ درجات السواد نسبةً إلى الغراب لشدة سواده.
بعد أن ذكر الحق سبحانه جنس النبات وجنس الجماد يذكر أن هذا الاختلاف موجود أيضاً في الإنسان وفي الحيوان - وهذه هي أجناس الوجود، فيقول سبحانه:
{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ... }.