خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ وَٱلدَّوَآبِّ وَٱلأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ
٢٨
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

إذن: فالاختلاف في كل الأجناس؛ لأن الخَلْق قائم على طلاقة القدرة، فالناس مع كثرتهم مختلفون، وهذا إعجاز دالّ على طلاقة القدرة، فالخَلْق ليس على قالب واحد يُخرِج نسخاً متطابقة، إنك تنظر إلى الرجل فتقول هو شبه فلان، لكن إذا دققتَ النظر لا بُدَّ أنْ ترى اختلافاً، إذن: طلاقة القدرة تقتضي اختلاف كل أجناس الوجود: الجماد، والنبات، والحيوان، والإنسان.
ومعنى الدوابّ: كل ما يدبّ على الأرض عدا الإنسان والأنعام التي هي البقر والغنم والإبل والماعز.
وقوله سبحانه: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء.. } [فاطر: 28].
والخشية هي الخوف الممزوج بالرجاء، وهذا من العلماء عمل من أعمال القلوب، وأنت تخاف مثلاً من عدوك، لكن لا رجاءَ لك فيه، إنما حين تخاف من الله تخافه سبحانه وأنت ترجوه وأنت تحبه، لذلك قالوا: لا ملجأ من الله إلا إليه.
والعلم إما علم شرعي، وهو علم الأحكام: الحلال والحرام والواجب والسنة .. الخ. أو علم الكونيات، وهذه الآية وردت في سياق الحديث عن آيات كونية ولم يُذكر قبلها شيء من أحكام الشرع؛ لذلك نقول: إن المراد بالعلماء هنا العلماء بالكونيات والظواهر الطبيعية، وينبغي أن يكون هؤلاء هم أخشى الناس لله تعالى؛ لأنهم أعلم بالآيات الكونية في: الجمادات، والنبات، وفي الحيوان، والإنسان، وهم أقدر الناس على استنباط ما في هذه الآيات من أسرار لله تعالى.
وكونيات الوجود هي الدليل على واجب الوجود، وهي المدخل في الوصول إلى الخالق سبحانه وإلى الإيمان به؛ لذلك كثيراً ما نجد في القرآن:
{ { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِٱلَّيلِ وَٱلنَّهَارِ وَٱبْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } [الروم: 23].
وإذا كان العلم قضية يقينية مجزوماً بها وعليها دليل، فإن الحق سبحانه وتعالى نزَّل لنا علم الشرع وحدَّد لنا حدوده، فلا دَخْلَ لنا فيه، لذلك عصمه الله وأحكمه؛ لأن الأهواء تختلف فيه، والحق سبحانه يقول:
{ { وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ } [المؤمنون: 71]. أما علم الكونيات فقد تركه الخالق سبحانه للعقول تبحث فيه وتستنبط منه وتتنافس فيه، بل وتسرقه بعض الدول من بعض.
وآفة العصر الحديث أنْ يُدخِل علماء الشرع أنوفهم في الكونيات، أو أن يُدخِل علماء الكونيات أنوفهم في أحكام الشرع، وقد رأينا مثلاً لما قالوا بأن الأرض كروية، وأنها تدور حول الشمس، أسرع بعض علماء الشرع فاتهموا هؤلاء بالكفر، وهذا خطأ فادح، وكان عليهم أنْ يأخذوا من الحق سبحانه ما عصم به الأهواء من أن تختلف؛ لأن شكل الأرض وحركتها مسألة كونية لا صِلَة فيها بالحلال والحرام.
والحق سبحانه يقول:
{ { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [النحل: 43] فأهل الذكر في العلوم الشرعية غير أهل الذكر في العلوم الكونية، ويجب أنْ يحترم كل منهما تخصص الآخر في مجاله، ولا يَنْسَى علماء الشرع أن علماء الكونيات هم الذين يكتشفون لنا أسرار الله في الخَلْق، وهم الذين يُربُّون في نفوسنا أدلة الإيمان بواجب الوجود الذي تصدر عنه أحكام الحلال والحرام.
والحق سبحانه وتعالى خلق الكون على هيئة الصلاح، فلو دخلْتَ مثلاً غابة من الغابات الأنُف - يعني: التي لم يدخلها أحد، وما زالت على طبيعتها كما خلقها الله - لا تجد فيها قذارة ولا رائحة كريهة ولا قمامة ولا غُصناً مكسوراً .. الخ، بل تراها نظيفة متناسقة، فالفضلات بها غذاء لحيوانات أخرى، فنظافتها ذاتية.
وأذكر أننا رأينا في وادي فاطمة في السعودية عَيْنَ ماء تروى الوادي من حولها، وفي أحد الجداول رأينا أسماكاً صغيرة في حجم واحد مثل عُقْلة الأصبع فسألت صاحب البستان: هل يكبر هذا السمك؟ قال: لا بل يظل على هذه الصورة، وهو ما جاء إلا بعد أنْ ألقينا بعض فضلات الطعام في الماء فظهر ليتغذَّى عليها ثم يختفي، وكأن له مهمة محددة هي نظافة الماء، ولما جئنا إلى مصر وجدنا بها هذا السمك في "مُتْحف الأحياء المائية" يقوم بنفس هذه المهمة، وهي تنظيف أحواض الأسماك من الفضلات.
لذلك نقول: لا يأتي الفساد في الطبيعة إلا حين يتدخَّل فيها الإنسان، بدليل أن المخلوقات التي لا دخل للإنسان فيها تسير بنظام محكم دقيق لا اختلاف فيه؛ لذلك حين ترى في الكون مثلاً أزمة في القوت، فاعلم أنها نتيجة حركة خاطئة للإنسان، أو نتيجة تكاسل عن استنباط خيرات الأرض.
إذن: على علماء الشرع ألاَّ يُدخِلوا أنفسهم في الكونيات، وقد علَّمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نهاهم عن تأبير النخل يعني: تلقيحه، فلم يثمر النخل، فلما رأى رسول الله ذلك قَبِلها في نفسه وقال:
"أنتم أعلم بشئون دنياكم" يعني: المسائل الكونية والعلمية والمعملية التجريبية، هذه أمور لا دخْلَ لأحكام الشرع فيها، لكن آفة العلماء اليوم ألاَّ يلتزم كُلٌّ بما يخصُّه.
لذلك خَصَّ الله هنا علماء الكونيات؛ لأنهم الأقدر على التمعُّن في أسرار الله، فالحق سبحانه ملأ كونه بأسرار تتناسب مع تطور العصر ومُضيّ الزمن، فالأسرار التي عرفها الإنسان في العصر الحجري مثلاً غير التي عرفها في العصر الحديث، وشاءتْ حكمة الله أنْ يجعل لكل سرٍّ من أسراره ميلاداً يظهر فيه، بحيث لا تظهر الأسرار في زمن واحد، ويستقبل الإنسان باقي الزمن بدون جديد.
وحين تتأمل هذه المسألة تجد أن الحق سبحانه أظهر للإنسان ما فيه مقومات حياته، ثم ترك الأمور البدهية التي يعرفها الناس ليترقوا فيها، فالإنسان مثلاً استخدم بدهية أن الماء ينساب من أعلى إلى أسفل، ورقّى هذه البدهية وأصبح يستقبل الماء في بيته من الصنبور (الحنفية)، بعد أنْ كان ينقل الماء من الآبار والأنهار، ويتحمل في سبيل ذلك المشاق، فلما أعمل عقله في بدهيات الكون ترقَّى وجنى ثمرة هذا الترقِّي.
لذلك تجد أن أعقد النظريات العلمية والالكترونية مأخوذة في بدايتها من بدهيات، وقلنا في علم الهندسة: إنك تبرهن على صدق النظرية المائة باستخدام النظرية التسعة والتسعين، وهكذا حتى تصل إلى النظرية الأولى، وهي قائمة على بدهية من بدهيات الكون، لا تختلف فيها العقول.
لذلك دائما يدعونا الحق سبحانه إلى التفكُّر والتأمُّل والتدبُّر .. الخ وما توصل إليه البشر الآن من آلات ووسائل حديثة مثل: الغسالة، والثلاجة، والتلفاز .. الخ ما هي إلا ثمرة هذا الفكر الذي رقَّى البدهيات، حتى وصل بها إلى ما وصل إليه الآن، ومَنْ أراد أن يقف على هذا الترقي، ويرى قدرة الله في توارد الصناعات وارتقاءاتها من حلقة إلى حلقة فليذهب إلى (ديترويت) ليرى هناك معرض (فورد) الذي يضم ارتقاءات الصناعات من إبرة الخياطة للصاروخ.
إذن: الكون فيه أسرار يكتشفها الإنسان، ولكل سرٍّ ميلاد يظهر فيه، إما نتيجة بحث للإنسان أو حتى صدفة، ومن لُطْف الله تعالى أن الملاحدة لما اكتشفوا بعض أسرار الكون قالوا اكتشفنا، ولم يقل أحد منهم: اخترعنا. وكأن الله تعالى صرفهم وألهاهم عن النطق بكلمة الاختراع ولوى ألسنتهم حتى لا يجترئوا على الله، فالجاذبية مثلاً موجودة منذ خُلِقت السماوات والأرض، ودور الإنسان أنه اكتشف هذا السر؛ لذلك الذي يقول اخترعت نقول له: هذا كذب والصواب أنك اكتشفتَ.
وقوله تعالى: { إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } [فاطر: 28] عزيز لا يُغلب، وغفور لكم إنْ بدر منكم سهو أو تقصير في استنباط أسرار الله في كونه، يغفر لهم إنْ أخطأوا في تجربة من تجاربهم، فسوف يأتي مَنْ بعدهم ويصححها.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ... }.