خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ
٣٢
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الكتاب هو القرآن، إذن: هذا الميراث كان بعد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو دليل على أن المرحلة التي بعد رسول الله مرحلة ميراث للكتاب وللمنهج؛ يرثه العلماء عن رسول الله؛ لذلك جاء في الحديث: "إن العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يُورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر" .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان هو المبلِّغ والمعلِّم حال حياته، أما بعد وفاته فقد وَكَل الله هذه المهمة إلى العلماء. ومعنى { أَوْرَثْنَا } [فاطر: 32] يعني: طلبنا منهم أنْ يفعلوا فيه فَعْل الوارث في المال؛ لأن الوارث للمال يُوجِّهه وجهةَ النفع العام، وهذه هي وِجْهة الرسالة أيضاً.
لذلك قال تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَيَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [البقرة: 143] فنحن ورثة محمد، ومَنْ علم مِنَّا حكماً فعليه أنْ يبلغه. فالرسول شهيد على مَنْ بلَّغهم، كذلك أمته سيكونون شهداء على الناس الذين يُبلِّغونهم.
ومعنى { ٱصْطَفَيْنَا } [فاطر: 32] أي: اخترنا وفضَّلنا على سائر الأمة، ثم يُقسِّم الحق سبحانه هؤلاء إلى ثلاثة أصناف: { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [فاطر: 32] ظلمها بالتقصير في حَقِّ هذا الكتاب الذي ورثه، فلم يعمل به كما ينبغي أنْ يعمل، بل قد يرتكب كبيرة والعياذ بالله.
وهذا الصنف ظلم نفسه؛ لأنه حرمها الثواب؛ فكُلُّ تكليف يطلب منك العمل اليسير ويعطيك عليه الجزاء الوفير، فحين تُقصِّر في اليسير من العمل فإنك لا شكَّ ظالمٌ لنفسك.
{ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [فاطر: 32] يعني: يعمل به في بعض الأوقات، فيخلط عملاً صالحاً بآخر سيء.
{ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ } [فاطر: 32].
اللهم اجعلنا منهم إنْ شاء الله، وكلمة (سابق) تدل على أن هناك سباقاً ومنافسة: أيّ المتسابقين يصل أولاً إلى الغاية الموضوعة للسباق، وأهل هذا الصنف يتسابقون في الخيرات.
وقوله تعالى: { ٱصْطَفَيْنَا } [فاطر: 32] دلتْ على أن كلمة التوحيد لها ثمن، والإيمان برسول الله له ثمن، والعمل بما جاء به رسول الله له ثمن، وإنْ كان من بين هؤلاء المصطفين مَنْ يظلم نفسه بالتقصير بل وارتكاب المعاصي، وهو مع هذا كله من المصطفين؛ لأنه قال لا إله إلا الله، والحق سبحانه لا يُسوِّي بين مَنْ قال هذه الكلمة ومَنْ جحدها "لا إله إلا الله حِصْني، مَنْ قالها دخل حصني".
لذلك ذكر الحق سبحانه لهؤلاء المؤمنين الذين وَرِثوا الكتاب وصفين: { ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا } [فاطر: 32] فوصفهم بالاصطفاء، والعبودية له سبحانه.
إذن: نزل الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم وورثتْ أمته الكتاب من بعده، فهي امتداد لرسالته؛ لذلك أَمِن الله على هذه الأمة على أنْ تحمل منهج الله إلى الناس كافة إلى أن تقوم الساعة، في حين لم يأْمَن غيرنا.
وقد تكفل الحق سبحانه بحفظ هذا الكتاب، ولم يكِلْ حفظه إلى أحد كما حدث في الكتب السابقة على القرآن، كما قال سبحانه:
{ { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ .. } [المائدة: 44].
ومعنى { ٱسْتُحْفِظُواْ } [المائدة: 44] طُلِب منهم أنْ يحفظوه، لكنهم قصَّروا فَنَسُوا بعض الآيات، وحرَّفوا بعضها، وكتَموا بعضها، بل ومنهم مَنْ كان يأتي بكلام من عنده ويقول هو من عند الله، ولأن القرآن هو الكتاب الخاتم حفظه الله بنفسه، ولم يأْمَن أحداً على حفظه.
فإنْ قُلْتَ: كيف يكون الظالمُ نفسَه من المصطفين، وهو مرتكب للذنوب وربما للكبائر؟ نقول: بمجرد أن يقول العبد أشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو مُصْطفىً، اصطفاه الله على الكفار بهذه الكلمة، وإنْ حدثت منه المعصية بعد ذلك.
والحق سبحانه وتعالى حين يذكر الذنب ويُجرِّمه ويضع له عقوبة، فهذا إذْنٌ بأنه سيقع، فمثلاً جرَّم الله السرقة ووضع لها حَدّاً، وجرَّم الزنا ووضع له حداً، فكأن مثل هذه الأمور تحدث في مجتمع المسلمين، أما الكذب مثلاً فلم يضع له حَدّاً ولا عقوبة، لذلك ورد في حديث سيدنا رسول الله لما سُئِل: أيزني المؤمن يا رسول الله؟ قال: نعم، أيسرق المؤمن يا رسول الله؟ قال: نعم، أيكذب المؤمن يا رسول الله؟ قال: لا.
فكأن المؤمن يُتوقَّع منه الزنا والسرقة، ولا يُتوقَّع منه الكذب، فهو أبعد الصفات عن المؤمن، لماذا؟ قالوا: لأن الكذب يخالف الواقع ويقلب الحقائق، والمؤمن لا يكذب؛ لأنه ينطق بلا إله إلا الله، فإنْ كان كذاباً ما يدريني أنه صدق في هذه الكلمة، فكأن الكذب يهدم الإيمان من أساسه؛ لذلك لم يجعل الله له عقوبة؛ لأنه لا يُتصوَّر من المؤمن.
والمقتصد: هو الذي تساوتْ حسناته وسيئاته، وخلط عملاً صالحاً بآخر سيء، وفي موضع آخر يقول تعالى فى حق هذا الصنف:
{ { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [التوبة: 102].
يقول النحاة: إن عسى تدل على الرجاء، وأغلب الرجاء التوقّع واحتمال الحديث، على خلاف (ليت) التي وُضعت للتمني، والتمني يكون لشيء بعيد أو مستحيل الحدوث، فهي لمجرد إظهار المحبوبية للشيء المتمنَّى فقط، ولا تدل على رجاء.
ومن ذلك قول الشاعر:

ألاَ لَيْتَ الشبابَ يَعُود يَوْماً فَأخْبِرُ بِمَا فَعَلَ المشِيبُ

وسبق أنْ قُلنا: إن عسى وإنْ دَلَّتْ على رجاء حدوث الفعل، إلا أنها درجات بعضها أوثق من بعض ومراتب، فمثلاً إنْ كان الرجاء في بشر مثلك كأن تقول: عسى فلان أنْ يعطيني. فهذا رجاء على درجة معينة من احتمال التحقق، فإنْ قُلْتَ عسى أن أعطيك بصيغة المتكلم، فهي أقوى من الأولى وأوثق، فإنْ قُلْتَ: عسى الله أنْ يعطيك فهي أوثق؛ لأنه رجاء في الله، فإنَّ قوله سبحانه: { { عَسَى ٱللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [التوبة: 102] فعسى هنا للرجاء المحقق، إذن: هذه من أرجى الآيات التي ينتظرها المقتصد المقصِّر في حَقِّ ربه.
أما السابق بالخيرات، فهو الذي يعمل بالأمر ويُتمه ويأتي به على أكمل أوجه، ومن ذلك قوله تعالى:
{ { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].
وتأمل مثلاً قوله تعالى في سيدنا إبراهيم عليه السلام:
{ { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [البقرة: 124].
يعني: أتمَّ ما أمر به أولاً بالقدرة العادية، ثم بالحيلة والقدرة العقلية، فلما أمره الله مثلاً بأنْ يرفع القواعد من البيت:
{ { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَٰهِيمُ ٱلْقَوَاعِدَ مِنَ ٱلْبَيْتِ وَإِسْمَٰعِيلُ } [البقرة: 127] ماذا طلب منه؟ وماذا فعل هو؟
طلب منه أنْ يرفع قواعد البيت، وكان يكفي في طاعة هذا الأمر أنْ يبني القواعد على قدر ما تطوله يده من الارتفاع، لكنه زاد على ذلك واستخدم الحيلة العقلية، فبعد أنْ وفَّى الأمر وأدَّاه أراد أنْ يزيد شيئاً من عنده، وأن يحسن العمل فوق ما طُلِبَ منه، فكان يأتي بالحجر الضخم ويضعه كـ (السقالة)، ويقف عليه ليرفع البناء بقدر ارتفاع الحجر، وولده إسماعيل يناوله.
كذلك لما ابْتُلي في شبابه بالإحراق صبر ووثق بالله، فلما جاءه جبريل عليه السلام يعرض عليه المساعدة، وهو الواسطة بينه وبين ربه أبَى وقال: أما إليك فلا، يعني: أنت وَصَلْتني بالله فلم يَعُد بيني وبين ربي واسطة.
وهذه مسألة عجيبة، ودرجة من الإيمان عالية، وثقة بالله لا يتطرق إليها شك ولا ارتياب؛ لذلك أنقذه الله وخرق له العادة، وأبطل من أجله قانون النار والإحراق، فقال سبحانه للنار
{ { يٰنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء: 69].
وتأمل هذا الاحتياط من رب الأمر
{ { كُونِي بَرْداً وَسَلَٰماً } [الأنبياء: 69] لذلك قال العلماء: لو أن الأمر كان للنار كُوني برداً (وفقط) لتحولتْ عليه برداً قاتلاً ربما أشد من النار.
ثم إن هذا الابتلاء وقع لإبراهيم عليه السلام في نفسه وهو صغير والإنسان قبل أنْ يكون له ولد يكون كل حظه في نفسه، فإنْ رُزق الولد انتقل حظّه إلى ولده فيحبه أكثر من حُبه لنفسه، ويتمنى أن يُعوِّض في ولده ما لم يستطعه في نفسه، لذلك يقولون: إن الإنسان لا يحب أن يكون أحدٌ أفضل منه إلا ولده، إذن: عصبية الإنسان في حبه لولده أكثر من عصبيته لنفسه.
وسيدنا إبراهيم - عليه السلام - بعد أن نجح في الابتلاء في النفس ابتلاه الله في الولد، وتعلمون أن سيدنا إبراهيم رزقه الله بالولد على كِبَر وبعد يأس من الإنجاب، فجاء إسماعيل على شوق من إبراهيم حتى إذا شَبَّ الولد وبلغ مبلغ السعي مع أبيه يأتيه الأمر من السماء أنْ يذبحه، وجاء هذا الأمر في صورة رؤيا، والرؤيا تحتمل التأويل، لكن إبراهيم عليه السلام لم يؤولها، وأخذها على الحقيقة.
وهذا الابتلاء في الحقيقة ينطوي على ابتلاءات أربع: الأول: أن يذبح الولد الذي جاءه على كِبَر وبعد طول انتظار. الثاني: ألاّ يذبحه شخص آخر فيكون غريماً لإبراهيم عليه السلام. الثالث: أنْ يذبحه هو بيده, الرابع: أنْ يشرك ولده معه في الابتلاء وألاَّ يأخذه على غِرَّة.
ذلك أن إبراهيم عليه السلام لما هَمَّ بتنفيذ ما أُمِرَ به لم يُرِدْ أنْ يأخذ ولده غِرَّة لِعدْة أمور: أولاً: حتى لا يُتَّهم بالقسوة والغلظة. ثانياً: لكي لا تتغير خواطر الولد نحو والده فيتهمه بما لا يليق. ثالثاً: ليشركه ولده معه في الابتلاء وفي الثواب، وفي الرضا بقضاء الله؛ لذلك قال له:
{ { يٰبُنَيَّ إِنِّيۤ أَرَىٰ فِي ٱلْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَٱنظُرْ مَاذَا تَرَىٰ } [الصافات: 102].
فكأنه يأخذ رأيه في الموضوع:
{ { قَالَ يٰأَبَتِ ٱفْعَلْ مَا تُؤمَرُ .. } [الصافات: 102] ولم يقل مثلاً: افعل ما تريد، فالأمر انصياع وخضوع لأمر الله: { { سَتَجِدُنِيۤ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّابِرِينَ } [الصافات: 102].
وهكذا اشترك الاثنان في الرضا، وفي الصبر، وفي الجزاء وخطفَ إسماعيلُ الفوز في الابتلاء في آخر الشوط؛ لذلك قال تعالى:
{ { فَلَمَّا أَسْلَمَا } [الصافات: 103] الولد وأبوه { { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [الصافات: 103] يعني: هَمَّ بذبحه، أو كاد يفعل { { وَنَادَيْنَاهُ أَن يٰإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ ٱلرُّؤْيَآ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلْبَلاَءُ ٱلْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } [الصافات: 104-107].
وحين تتأمل هذه القصة تجد أن الحق سبحانه قابلَ هذه الابتلاءات الأربعة، بعطاءات أربعة: أنقذ إسماعيل من الذبح، وفداه بذبح عظيم، ثم بشَّر إبراهيم بإسحاق. ومن وراء إسحاق يعقوب، ثم جعلهم جميعاً من الأنبياء فضلاً من الله.
{ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } [فاطر: 32] نعم، الحق سبحانه يعاملنا بالفضل الكبير، ويعطينا مُثُلاً ليحبِّبنا في الدين، فالحسنة عنده بعشر أمثالها، أو يزيدها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، والسيئة بمثلها.
ومَنْ غلبت حسناته سيئاته يُرْجَى له الجنة، ومَنْ غلبت سيئاته حسناته فهو مُرْجأ لأمر الله، إنْ شاء عذبه بعدله ومآله إلى الجنة، وإنْ شاء غفر له بفضله، فإنْ بادر بالتوبة النصوح وأخلص بدَّل الله سيئاته حسنات.
حتى أن بعض الظرفاء يقول: ليتني كنت من أهل الكبائر. وجاء في دعاء العارفين: اللهم عاملنا بالفضل لا بالعدل، وعاملنا بالإحسان لا بالميزان، وعاملنا بالجبر لا بالحساب.
يعاملنا ربنا بالفضل بدليل أنه أدخل الظالم لنفسه، وأدخل المقتصد في ساحة المصطفين من عباده.
ثم يوضح لنا الحق سبحانه هذا الفضل الكبير فيقول:
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ... }.