خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً
٤٥
-فاطر

خواطر محمد متولي الشعراوي

الحق سبحانه وتعالى رحيم يُوالي نعمه حتى على الكافرين به، والعاصين لأوامره، ولو أن الله تعالى آخذهم بظلمهم - وظلمهم كثير - ما ترك أحداً منهم، فلماذا يعاملنا الله هذه المعاملة؟ ولماذا يمهلنا هذا الإمهال؟ قالوا: لأنه تعالى ربنا وخالقنا، ويعلم أن الإنسان ضعيف أمام شهوات نفسه، ضعيف أمام هواه وأمام شيطانه؛ لذلك سبق حِلْمُه غَضَبه، وسبق عفوُه مؤاخدته، وقال سبحانه { { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [الشورى: 30].
وورد في الأثر أن الحق سبحانه يخاطبنا بقوله تعالى: " .. لو لم تذنبوا لخلقتُ خلقاً غيركم يذنبون، فيستغفرون فأغفر لهم" وإلاَّ فكيف يُوصف الحق سبحانه بأنه توَّاب غفَّار، فالحق سبحانه يريد أنْ يثبت لنفسه سبحانه كل صفات الكمال، وأولها الوجود الواجب، ثم الحياة، وكل الصفات تابعة لهاتين الصفتين.
وهذه الصفات لله تعالى يمكن أنْ تقسم إلى قسمين: قسم له مقابل: وهي صفات الفِعْل من الله تعالى، مثل: المحيي يقابلها المميت، والمعز يقابلها المذل، وقسم ليس له مقابل وهي صفات الذات مثل: الحي العزيز القهار الحليم، فهي صفات لا نقيضَ لها.
والحق سبحانه لا يُؤاخذ الناسَ بما كسبوا. أي: من التعدي والظلم؛ لأن الله خلق الإنسان، وخلق له شهوات وغرائزَ، وكل أمور الدين جاءت لِتُعلي هذه الشهوات، وتسمو بهذه الغرائز، لا لتمحوها، جاءت لتهذبها لا لتقضي عليها، وإلا لو أن الحق سبحانه أراد ألاَّ تحدث هذه التعديات وهذا الظلم ما جعل الغرائز أصلاً.
فمثلاً غريزة الجنس خلقها الله لعمارة الكون، ويريد الله من الإنسان أنْ يُعلي من هذه الغريزة بحيث تكون في الحلال وتحت مظلة الشرع، وسبق أنْ بيَّنا الفرق في هذه المسألة حين تتم في النور وتحت مظلة شرع الله، وعلى كلمات الله، وكيف نفرح بها ونعلنها ونفخر بها، أما لو تمت في الخفاء بعيداً عَمَّا شرعَ اللهُ فنحاول كتمانها، والتخلص من ثمرتها إنْ كان لها ثمرة، وإنْ ظهرت للناس كانت وصمةَ عار لا تُمحَى.
لذلك جاء في الحديث
"أن رجلاً من الصحابة كان شديد الغيرة على بناته، فلما تقدم رجل لخطبة واحدة منهن ذهب ليخبر رسول الله، فتبسَّم رسول الله وقال له: جدع الحلال أنف الغيرة" .
يعني: الأمر الذي كنت تغار منه ولا تقبله، الآن تفرح به وتدعو الناس إليه، لماذا؟ لأنه جاء من طريق الحلال الذي شرعه الله، وكلمة الحق هي التي أبرزتْ العواطف، وجعلتْ المهيِّج المثير مُسْعِداً لا غضاضة فيه.
كذلك غريزة حب الاستطلاع موجودة في الإنسان ليتأمل الكون من حوله، ويبحث عن أسرار الله فيه، وما جعلها الله للتلصُّص على الناس، وتتبُّع عوراتهم وأعراضهم. كذلك الأكل والشرب غريزة جعلها الله لأنها مُقوِّم من مُقوِّمات الحياة، وينبغي أنْ تكون في هذه الحدود حدود استبقاء الحياة، لا أنْ تتحوَّل إلى نَهَم وشَراهة، وتصل إلى حَدِّ التُّخمة.
والغريزة جعلها الله في الإنسان لحكمة، فالولد مثلاً يتحمل أبوه مشقة تربيته والإنفاق عليه، ويظل الولد عالة على أبيه طيلة خمس عشرة سنة، ولولا أن الله تعالى ربط النسل بالعملية الجنسية، وجعل فيها لذة الجماع لزَهدَ كثيرون في الإنجاب، كذلك الأم تتحمل مشقة الحمل والولادة والرضاعة .. إلخ، حتى أنها لتُقسم في الولادة أنها لا تحمل مرة أخرى، لكن عندما يذهب ألم الوضع، ويكبر الولد تشتاق إلى غيره .. وهكذا.
وحين تتأمل مسألة الغريزة تجد أن الخالق سبحانه جعل في الإنسان الغريزة ونقيضها، فتراه في موقف رحيماً وفي موقف آخر غَضُوباً، أو عزيزاً في موقف، ذليلاً في موقف آخر، وهاتان الغريزتان لا تجتمعان في الإنسان في وقت واحد، فالظرف الإيماني يحكم عليه مرة بأن يكون عزيزاً، ومرة بأن يكون ذليلاً.
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى:
{ { فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } [المائدة: 54].
وقوله سبحانه:
{ { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح: 29].
إذن: الخالق عز وجل جعل فيك الغرائز المتناقضة، لا يكبت شيئاً منها، لكن لِتُستعمل كل غريزة منها في موقعها المناسب.
ومعنى: { يُؤَاخِذُ } [فاطر: 45] يعني: يعاقب ويجازي { بِمَا كَسَبُواْ } [فاطر: 45] نقول: كسب واكتسب، كلمة كسب تدل على وجود تجارة فيها ربح ومكسب زيادة على رأس المال، وهي تدل على المكسب الذي يأتي طبيعياً، أما اكتسب ففيها مفاعلة، وهي على وزن افتعل، ففيها افتعال وتكلُّف.
لذلك يستعمل القرآن كسب في الخير واكتسب في الشر
{ { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا ٱكْتَسَبَتْ } [البقرة: 286] لأن فعل الخير يأتي منك طبيعياً، لا تكلفَ فيه ولا افتعال على خلاف الشر، فيحتاج إلى محاولات وإلى حِيَل واحتياط وتلصُّص .. الخ.
لذلك قلنا: إن الطاعة لا تُكلِّف الإنسان شيئاً، أما المعصية فهي التي تكلف الكثير؛ لأن الطاعة تأتي منك طبيعية، أما المعصية فتحتاج إلى حِيَل واحتيال وافتعال.
فإن قُلْتَ: فما بَالُ قوله تعالى في السيئة
{ { بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيـۤئَتُهُ فَأُوْلَـۤئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ } [البقرة: 81].
نقول: استعمل القرآن كسب مع السيئة؛ لأنه يتحدث عن الذين أسرفوا على أنفسهم، وبالغوا في المعصية حتى أحبوها وعشقوها، بل ويتحدثون بها ويجاهرون، وحتى أن المعصية تأتي منهم طبيعية، كأنها طاعة، ويفعلونها بلا افتعال ولا احتياط، فهي في حَقِّهم كسبٌ لا اكتساب، ويفرحون بها كأنها مكسب فلا يُؤنِّبون أنفسهم، ولا يلومونها، ولا يندمون على معصيتهم.
والآية هنا بنفس هذا المعنى { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ .. } [فاطر: 45] يعني: عشقوا المعصية والظلم وفرحوا به كأنه مكسب. ثم يأتي جواب الشرط: { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ .. } [فاطر: 45] معنى الدابة: كل ما يدبّ على الأرض. أي: يمشي عليها الهُوَيْنَا، لكن غلبتْ الكلمة على ما يُركب ويحمل الأثقال.
لذلك قال العربي لآخر: لقد أَعْيَيْتَني شبَّ ودبَّ يعني في شبابك، وفي شيخوختك، وأنت تدبّ وتمشي الهُوَيْنا.
لكن، ما ذنب الدوابِّ تتحمل عاقبة ظلم الإنسان؟ قالوا: العلاقة هنا أن الدابة مخلوقة مُذلَّلة لخدمة الإنسان وراحته، فمعنى هلاك الدواب أنْ تمتنع راحة الإنسان، وأنْ يمتنع المطر وتجدب الأرض، وعندها لا يجد الإنسان قُوته، لا من لحوم الدواب ولا من نبات الأرض، وفي هذا إذلال للإنسان الذي يرى وسائل حياته وأسباب راحته تُسلَب منه دون أنْ يفعل شيئاً، ولا يقدر على شيء.
وحين نتتبع آيات القرآن نجد أنه تكلَّم عن هذا المعنى في موضعين:
الأول: في سورة النحل:
{ { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّىٰ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } [النحل: 61].
والآخر هنا في فاطر: { وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَـٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [فاطر: 45].
قد يرى البعض في الآيتين تكراراً، وحاشا لله أن يكون في كلامه تكرار، فإذا تأملتَ لوجدتَ بينهما خلافاً، يجعل لكل منهما معناها الخاص. فالأولى تتكلم عن ظلم الناس، والأخرى عَمَّا اكتسبوه من السيئات عامة، وكل من اللفظين يعطيك لقطة جديدة لأنني قد أظلم، لكن أندم على ظلمي، ولا أفرح به، ولا أتمادى فيه، أما إنْ صار عادةً لي حتى عشقته، فهو اكتساب وافتعال بالمعنى الذي ذكرنا.
الأولى تقول: { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا } [فاطر: 45] والأخرى:
{ { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } [النحل: 61] كذلك في تذييل الآيتين، ففي الأولى يتحدث الحق سبحانه عن الزمن والأجل الذي لا يتقدم ولا يتأخر، وفي الأخرى يتحدث عن الجزاء، وأن الله تعالى بصير بأعمال عباده، لا يخفى عليه منهم شيء، إذن: فالآيتان متكاملتان، ليس فيهما تكرار أبداً.
وضمير الغائب في { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا } [فاطر: 45] و
{ { مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا } [النحل: 61] هذا الضمير متصل بالآية قبلها: { { ..وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي ٱلسَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي ٱلأَرْضِ } [فاطر: 44] فالضمير يعود على أقرب مذكور، وهو الأرض، ويفهم هذا المرجع أيضاً بالقرينة العقلية؛ لأن المعنى ينصرف إليها.
وهذه الآية لها معنا قصة ونحن صغار في كُتَّاب الشيخ حسنرحمه الله ، وكان الشيخ يكلف العريف أنْ يُصحِّح لنا الألواح، وفي هذا اليوم جلس الشيخ حسن يصحح لنا بنفسه، لكن في هذا اليوم لم أكُنْ صححت اللوح (وطلعت خالص) وانتظرت الفَلَكة والمقرعة (تشتغل)، لكن الشيخ قال لي: اسمع أنا سأعلمك كيف تقرأ هذه الآية دون أنْ تخلطها بآية النحل، لا تجمع الظائين ولا السينين يعني: إن قلت (بِظُلمِهِمْ) فلا تقل (عَلَى ظَهْرِهَا) وإنْ قلتَ (بِمَا كَسَبُوا) فلا تقل (لاَ يَسْتأخِرون سَاعةً) وهكذا كان شيخنارحمه الله يعايش القرآن ويتفاعل معه، وصدق الله العظيم
{ { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [القمر: 22].
وكان لي معه أيضاً - رحمة الله عليه - قصة أخرى، ما زلت أذكرها في سورة الشورى، وجلس الشيخ يُصحِّح لنا اللوح وكنا هربنا ولم نصحح، فلما جلستُ أمام الشيخ قرأت (حم عسق) وقد مرت بنا حم وطه وغيرهما لكن لم يمر بنا مثل (عسق) فقرأتها كما هي عَسَق، فضربني الشيخ فقرأتُ أيضاً عَسَق فضربني، وفي المرة الثالثة عرف أنني لم أصحح اللوح على العريف، فقال: قُلْ عين سين قاف، فظلت ملازمة لي لا أنساها حتى الآن، رحمهم الله ورَضي عنهم أجمعين.
والمراد بالأجل في { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [فاطر: 45] أي: القيامة والعذاب، أو جاء أجل إفنائهم بعذاب يستأصلهم، وعرفنا أن عذاب الاستئصال مثل الصيحة والرجفة والخسف .. الخ لا ينزل إلا على يأس من هداية القوم، بحيث لم يَعُدْ هناك أمل في حياتهم، كما جاء في قصة سيدنا نوح - عليه السلام - لما قال:
{ { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأَرْضِ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [نوح: 26-27].
لكن إنْ كان هناك أمل في أنْ يؤمن بعض القوم فلا ينزل بهم مثل هذا العذاب.
أو: يراد بالأجل هنا أجل الأمة، كما قال سبحانه:
{ { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } [يونس: 49] فكأن الآجال ثلاثة: أجل للدنيا ونهايته قيام الساعة، وأجل للشخص الواحد بانتهاء عمره، وأجل للأمة كلها حين يأتيها عذاب عام يقضى عليهم جميعاً مرة واحدة.
أو: لكل أمة أجل تنتصر فيه، وتغلب مع وجود المعاندين والكافرين، كما حدث لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا انتصر المسلمون في بدر، فقد كان لأمة الظلم والكفر أجل انتهى بالإسلام وقوة المسلمين، مع أن الأمل كان بصيصاً من نور، بحيث يغلب اليأسُ على الأمل.
حتى أن سيدنا عمر - رضي الله عنه - يقول لما نزلت:
{ { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45] قال عمر: أىُّ جمع هذا ونحن عاجزون عن حماية أنفسنا؟
فلما جاءت بدر وانتصر المسلمون، قال: صدق الله
{ { سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 45] فقد اشتدتْ شوكة الإسلام، وقوَى المسلمون، وأذنت دولة الكفر بالزوال، انتهى أجل الأمة الكافرة الظالمة، وبدأ أجل الأمة المؤمنة.
لذلك حين نتأمل قوله تعالى:
{ { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ * وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ * وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ .. } [فاطر: 19-22].
نجد أربعة متقابلات، الأولان منها مطابقان لحاله صلى الله عليه وسلم مع أمته قبل انتشار الإسلام في فترة غلبة الجاهلية على سيدنا رسول الله وأتباعه في مكة، فالأعمى أي: الجاهل بالحكم، والبصير العالم به، والظلمات يعني: الضلال والكفر، والنور هو الإيمان، لأنهم كانوا عمياً، فأراد الله أنْ يُبصِّرهم، وكانوا في ظلمات الجهل والضلال فأخرجهم الله منها إلى نور الإيمان.
أما المتقابلان الأخيران فيطابقان حاله صلى الله عليه وسلم مع أمته بعد أن أرسى الإسلامُ دعائمه، وتمكّن من نفوس المؤمنين
{ { وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } [فاطر: 21-22] فتراه بدأ بصفة الإيجاب فلم يقل الحرور ولا الظل كما قال { { ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ } [فاطر: 19] لماذا؟ لأن الحديث هنا عن أمة النصر وأمة الإيمان، فناسب أنْ يبدأ التقابل بصفة الخير التي تناسب هذه الأمة الجديدة.
وفي هذا المعنى إشارة لطيفة إلى انتهاء الجاهلية وظلماتها وعماها، وإيذان ببداية أجل جديد، لأمة الإيمان الوليدة التي تستظل بواحة الإيمان بعد أنْ أحياهم الله بالإيمان وكانوا أمواتاً بالكفر، كما قال سبحانه في آية أخرى:
{ { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا .. } [الأنعام: 122].
وسبق أنْ بيَّنا الفرق بين مَيْت وميِّت، الميِّت بالتشديد هو مَنْ يؤول أمره إلى الموت وإنْ كان حياً، ومن ذلك خطاب الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم:
{ { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [الزمر: 30] يعني: سيؤول أمرك إلى الموت. أما ميْت بالسكون فهو الذي مات بالفعل.
إذن: نستطيع أن نقول { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } [فاطر: 45] أي: بنُصْرة الإيمان على الكفر { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [فاطر: 45] كلمة عباد وعبيد جمع لعبد، ومع أنهما جَمْع لمفرد واحد إلا أن معناهما مختلف؛ لأن الإنسان العبد مِلْك سيده، وما دام مِلْكه فهو مطيع لأوامره، والإنسان المؤمن له اختيار، فالله تعالى يخاطبه وهو يطيع أو يعصي، في حين أن العبد لا يعصي سيده إنْ كان من البشر.
نعم قد يخالف أمر الله، لكنه لا يخالف أمر سيده، كيف؟ قالوا: لأن الله تعالى هو الحليم الغفار، أما السيد من البشر فلا يخلو من جبروت، أو طغيان، أو استبداد وتسلُّط.
وفَرْق بين طاعة العبد وهو مختار أنْ يعصي وطاعته وهو مقهور على الطاعة، وسبق أنْ مثَّلْنا لهذه المسألة بعبدين سعيد وسعد، سعيد شُدَّ إلى سيده بسلسلة لا يستطيع الفكاك منها، وسعد أُطلِق حُراً لا يقيده شيء، وحين ينادي السيد على أحدهما يأتيه، فأيهما أطوع؟ لا شك أن سعداً أطوع من سعيد؛ لأنه يأتي سيده وهو قادر مختار ألاَّ يأتي، أما سعيد فلا يملك إلا أنْ يجيب؛ لأنه لو عصى لجذبه السيد من السلسلة.
كذلك الحق سبحانه خلق الخَلْق مختارين، ووضع لهم هذه القاعدة:
{ { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف: 29] مَنْ شاء أطاع، ومَنْ شاء عصى، وهذا تصرُّف العبيد مع سيدهم، فإنْ قال العبد: يا ربِّ أنت خلقتني ورزقتني وجعلتَ لي الجوارح، وجعلتني مختاراً، وأنا عبد من عبيدك؛ لذلك أتنازل عن اختياري لاختيارك، وعن مرادي لمرادك، لقد اختار هذا العبد أنْ يكون مقهوراً لربه مسخراً كما سُخِّرت السماء والأرض.
وهؤلاء هم العباد، وهم الصفوة من الخَلْق الذين آثروا مراد الله على مراد أنفسهم؛ لذلك يتحدث عنهم الحق سبحانه ويعطينا صورة لهم:
{ { وَعِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَىٰ ٱلأَرْضِ هَوْناً } [الفرقان: 63] يعني: متواضعين غير متكبرين، وعلامَ التكبر { { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ ٱلأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ ٱلْجِبَالَ طُولاً } [الإسراء: 37]. { { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً * وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَٱلَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ ٱلنَّفْسَ ٱلَّتِي حَرَّمَ ٱللَّهُ إِلاَّ بِٱلْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ يَلْقَ أَثَاماً } [الفرقان: 63-68].
هذه صفات ثمانٍ ترسم لنا صورة كاملة لمن استحقوا أن يكونوا عباد الله؛ لذلك يخاطبهم ربهم في موضع آخر:
{ { قُلْ يٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الزمر: 53].
ومن رحمة الله بعباده أن الحسنة تمحو السيئة، كما قال سبحانه:
{ { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيْلِ إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ ذٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ } [هود: 114].
بل وأعظم من ذلك، ألاّ تقتصر رحمة الله على محو السيئة، إنما تُبدَّل السيئة بعد التوبة حسنة:
{ { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [الفرقان: 70].
وحول معنى (عباد) و (عبيد) الذي أوضحناه سمعنا مَنْ يعترض ويقول: في القرآن ما يناقض هذا المعنى، وهو قوله تعالى في موقف القيامة يخاطب الكبراء والسادة الذين أضلُّوا الناس وزيَّنوا لهم الكفر:
{ { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا ٱلسَّبِيلَ } [الفرقان: 17].
ونقول: ليس بين الآيات تعارض كما تقولون؛ لأن الحديث هنا عن الآخرة، وليس في الآخرة اختيار، فلا فَرْق بين (عباد) و (عبيد) في الآخرة.
وقوله تعالى: { فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } [فاطر: 45] ذكر هنا صفة البصر؛ لأنها أقوى وسائل العلم والإدراك، فللعلم وسائل متعددة ذكرها الحق سبحانه في قوله:
{ { وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأَبْصَارَ وَٱلأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل: 78].
فالسمع أول وسائل الإدراك، وهو أول جارحة تتنبه وتؤدي مهمتها في المولود، بدليل أنك تضع مثلاً أصبعك أمام عينه، فلا تطرف، أما إنْ صرخْتَ في أذنه ينزعج ويستجيب للصوت، والسمع كذلك هو الحاسة التي لا تتعطل أثناء النوم؛ لأن بها يتم الاستدعاء، والسمع هو الوسيلة الأولى في القيم والمعنويات، وبه يستقبل الإنسان منهج الله.
أما البصر وإنْ جاء في المرتبة الثانية إلا أنه أكبر من السمع وأقوى؛ لأنك قد تسمع عن الشيء، لكن لا تلتفت إليه، فإنْ تحوّل من السمع إلى البصر فقد وصل إلى قمة الإدراك الذي لا شكَّ فيه؛ لذلك يقولون: ليس من العين أين. والشيء الذي تسمع عنه قد يكون كاذباً، أمَّا الشيء الذي تبصره فإنه لا يكون إلا حقاً.
لذلك، فالحق - سبحانه وتعالى - حين يريد أن يؤكد لنا معلومة، يقول سبحانه:
{ { أَلَمْ تَرَ } [الزمر: 21] لأن الذي تراه العين هو الآكد. وأبو جعفر لما قال لمقاتل: عِظني يا مقاتل، قال له: أعظك بما سمعتُ، أم ربما رأيتُ؟ بالله أجيبوا أنتم بماذا؟ قال: عِظْني بما رأيتَ، نعم لأنك قد تسمع كذباً، أمَّا إنْ رأيتَ بالعين فهو الحق.