خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ
٦٢
-يس

خواطر محمد متولي الشعراوي

الجِبلّ: هم القوم الأشداء الأقوياء. وحين ترى مادة (جبل) فاعلم أنها تدُلُّ على القوة والشدة والثبات والفخامة، ومن ذلك سُمِّيَ الجبل لثباته ونقول: فلان جُبل على كذا. يعني: صفة أصيلة فيه، ثابتة في شخصيته، فبَيْنَ هذه الأشياء جامع اشتقاقيّ واحد؛ لذلك نُشبِّه الرجل العاقل بالجبل؛ لأنه ثابت لا تهزه الأحداث.
ومن ذلك قول الشاعر يرثي أحد الخلفاء، وقد رأى الناسَ يحملونه إلى قبره:

رَضْوَى عَلَى أَيْدِى الرِّجَالِ يَسِير

ورَضْوى جبل معروف.
ومعنى { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } [يس: 62] يعني: لستم أول مَنْ أضلَّه إبليس، فقد أضلَّ قبلكم قوماً كثيرين كانوا أقوى منكم، ولعب بهم حتى جعل منهم أداة للضلال، فلم يقف عند حَدِّ ضلالهم هم، إنما ضَلُّوا وأضلُّوا، حتى صاروا جُنْداً من جُنْده كما قلنا.
ويكفي في عظمة الحضارات القديمة أن الحضارة الحديثة حضارة القرن العشرين - قرن الاختراعات والاكتشافات والتقدم العلمي الهائل - تقف مبهورة أمام حضارة قديمة مثل حضارة الفراعنة مثلاً، بل وتقف عاجزة عن فهمها، والوصول إلى أسرارها، وكان على رأس هذه الحضارة فرعون.
فماذا فعل به الشيطان، أغواه وأضلَّه، حتى قال لقومه:
{ { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات: 24]. وحكى عنه القرآن فقال: { { فَٱسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [الزخرف: 54].
ففرعون وأمثاله من الأقوياء ما استطاعوا أنْ يواجهوا الشيطان، وما استطاعوا النجاة من مكايده؛ لأنه دخل إليهم من مدخل شهوات النفس، ثم صعَّب عليهم الطاعات، فمالوا إلى المعاصي وانصرفوا عن الطاعات.
ثم يُؤنِّب الحق سبحانه هؤلاء العاصين: { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } [يس: 62] يعني: أين كانت عقولكم حين انسقتُمْ وراءه، بعد أن حذرناكم منه وبيَّنا لكم مداخله، وحين يردُّك خالقك إلى العقل، ويأمرك بإعماله فاعلم أن نتيجة إعمال العقل موافقة لمراده سبحانه منك، فإنْ أعملتَ عقلك في كَوْن الله وآياته، لا بد أنْ تصل إلى نتيجة مرادة لله تعالى، كذلك أنت لا تأمر مخاطبك بأنْ يُعمل عقله في شيء، إلا إذا كنتَ واثقاً أنَّ نتيجة هذا العمل في صالحك، ووِفْق هواك، ولو كنتَ تعرف أن النتيجة على خلاف ما تريد ما أعطيتَه الفرصة لإعمال عقله.
ومثَّلْنَا لذلك بالبائع الذي يبيع سلعة جيدة، فإنه يدعوك إلى فحصها وتأمُّلها والتأكد من جودتها، فبائع الأصواف مثلاً يعرض عليك الثوب، ويُبيِّن لك جودته، ويشعل الثقاب، ويحرق لك خيطاً من خيوط النسيج، إنه لا يفعل ذلك إلا وهو واثق من جودة بضاعته وأنك لا بُدَّ مقتنع بها، حريص على شرائها، أما الغَاشُّ فيحاول إقناعك بكلام نظري معظمه كذب وتدليس، ويحاول أنْ يصرف ذهنك وفكرك في الشيء، لأن النتيجة لن تكون في صالحه.
كذلك الحق - سبحانه وتعالى - يقول: { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } [يس: 62].
يعنى: لو عقلتم لَتوصلْتُم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم.