خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
١٣٩
إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
١٤٠
فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ
١٤١
فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
١٤٢
فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ
١٤٣
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ
١٤٤
-الصافات

خواطر محمد متولي الشعراوي

أولاً: أثبت الحق سبحانه لسيدنا يونس - عليه السلام - أنه مُرْسَل { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 139] فلنأخذ هذه الفكرة في الاعتبار قبل الدخول في قصته، ولنفهم القصة في هذا الإطار، حتى إذا ما حدث منه شيء لا يليق برسول في نظرك، فاعلم أنه لا يطعن في منزلته كرسول، فالذي أرسله شهد له بالرسالة ولم يعزله منها، ولم يُجرِّده من منزلته بعد ما حدث.
إذن: حين تسمع قصته لا تَقُلْ أن هذا الفعل لا يليقُ برسول؛ لأنك لست أغيرَ على الله من الله.
وتأمل قول الله فيه { إِذْ أَبَقَ إِلَى ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ } [الصافات: 140] معنى أبق: هرب وليس الهروب المطلق، إنما هروب العبد من سيده، لا هروبه من مستأجره، ولا هروب ابني مني، فهذا لا يُعَدُّ أبُوقاً. فكلمة (أبق) فيها ملحظ العبودية المطلقة للسيد الأعلى، فالله سيده وهو عبده.
لأن العبد مملوك بملك اليمين فهو بذاته مِلْك لي حين آخذه أسيراً، نعم بذاته، لأن الله حقن بهذا الملْك دمه، فبدل أنْ أقتله في الحرب أسرْتُه واستعبدته، فهو لا يصير عبداً إلا إذا أسرْته، وما دُمْت أسرْته وقدرْت عليه تستطيع قتله، إذن: ملّكك اللهُ رقبته، لأنه حمى دمه أنْ يُرَاق.
فلا داعي إذن للمقارنة بين الرقِّ والحرية، وإنْ أردتَ المقارنة، فقارن بين رِقٍّ وقتل، ولو خيَّرْتَ العبد نفسه بين أن يعيش عند سيد يخدمه، وبين القتل لاختار العبودية. إذن: العبودية هنا ليست سُبَّة في الإسلام، إنما هي جميل أَسْداه الإسلام إلى هؤلاء العبيد.
ومحمد صلى الله عليه وسلم ما جاء ليشرِّع للرقِّ، ويزيد من أعداد الرقيق إنما جاء ليقضي على الرِّق، وليجفِّف منابعه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جاء والرق موجود في المجتمع وبكثرة، حيث كان له ثلاثة وعشرون مصدراً يأتي الرقُّ منها، فماذا فعل الإسلام؟
سَدَّ كل هذه المصادر، ولم يَبْقَ منها إلا الأسير في حرب شرعية، ثم أخذ يُعدِّد مصارف الرق ويفتح الأبواب لتحرير الرقيق كما رأينا في الكفَّارات وفي التطوع بتحرير الرقاب. فإنْ لم ترتكب ذنباً يستدعي كفارةً وعَتْقَ رقبة ولا حاجةَ لك في التطوع بعتق رقبة واحتفظتَ بما لديك من الرقيق فلتكرمه.
وقد وضع لنا النبي صلى الله عليه وسلم دستوراً نسير عليه في معاملة الرقيق، حين قال:
"هم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن جعل الله أخاه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلَّفه ما يغلبه فليُعنه عليه" .
هكذا أمر الإسلام في مسألة العبيد، والإسلام أبقى على الرقِّ من الحرب المشروعة؛ لأن لي عدواً كافراً يحاصرني ويحاربني، ويأخذ أولادي أَسْرى عنده، فلا بُدَّّ من المعاملة بالمثل، أسَرُوا مِنّا نأسِر منهم، فَدوْا أسْراهم نفدي أَسْرانا، أطلقوا السراح نطلق .. وهكذا، إذن: المتأمل في هذه المسألة يجد أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما جاء لِيُشرِّع للرقِّ، إنما جاء ليُشرِّع للعتق.
وقوله تعالى في شأن سيدنا يونس { إِذْ أَبَقَ } [الصافات: 140] ليس مأخذاً على نبي الله يونس، لأن (أبَقَ) تعني أنه معترفٌ بأنه عبد لربه، هذه اللقطة لم يأتِ لها تفصيل هنا، إنما جاء في سورة أخرى لنعرف أن المسألة ليستْ (ميكانيكا)، المسألة مرادات حَقٍّ تأتي في موضعها لحكمة، ولسيدنا يونس سورة باسمه، ولن يُذكر اسمه إلا مرة واحدة، ثم يذكر في غير السورة المسمَّاة باسمه كل تاريخه.
فمعنى (أَبَقَ) هرب من سيده أو ترك قومه دون إذن من ربه، وهذه المسألة فُصِّلَتْ في قوله تعالى
{ { وَذَا ٱلنُّونِ } [الأنبياء: 87] أي: صاحب الحوت، وهو سيدنا يونس { { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } [الأنبياء: 87] والمغاضب غير الغاضِب، المغاضب: فيها مفاعلة ومشاركة، فهو غاضب، والمقابل له أيضاً غاضب، فهي مثل شارك محمد علياً، فهي شارك عليّ مُحمداً، أما غاضب فيعني من ناحيته هو فحسب.
لكن مُغَاضباً لمن؟ الطرف الآخر هنا هم القوم لما كذبوه وآذوه لم يُطِق، فهو ليس مُغَاضِباً لربه، إنما مغاضباً لقومه وعنده أمل، وظن في ربه أن يسامحه في هذا التصرف؛ لذلك قال تعالى بعدها:
{ { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء: 87] البعض فهم (نقدر) من القدرة، وحاشا لله أن يظن نبي الله أن الله لن يقدر عليه، ولن يعيده إلى قومه.
إنما معنى (نقدر) هنا أي: نُضيِّق عليه، كما في قوله تعالى:
{ { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ ٱللَّهُ } [الطلاق: 7] فهي ثقة منه في رحمة من أرسله، وأنه سبحانه لن يُضيِّق عليه أنْ يُنفِّس عن عواطفه حين ترك قومه دون إذن من ربه.
ومعنى (الفُلْك) السفينة (المشْحُون) المملوء، وهذا يدلُّنا على أن السفينة حملاً خاصاً، لا ينبغي أنْ يزيد، وإلاَّ تعرضت السفينةُ للغرق حسب قاعدة أرشميدس، وبهذه القاعدة تطفو الأشياء، وعليها قامتْ فكرة الغوَّاصات، معنى غواصة يعني: تغوص تحت الماء، لأن وزنها أثقلُ من إزاحة الماء؛ لذلك يقولون: خِفْ تعوم.
وما دام أن الفلك مشحون، والعدد أزيد من حِمْل السفينة فقرر القبطان أن يُلقي بأحد الركاب لِيَخفَّ الحملُ، فأجروا القرعة، فخرج سهم سيدنا يونس، فألقَوْا به في البحر فالتقمه الحوت، هذا معنى { فَسَاهَمَ .. } [الصافات: 141] أي: دخل معهم في القرعة، وألقى بسهمه مع سهامهم، { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ } [الصافات: 141] معنى { ٱلْمُدْحَضِينَ } [الصافات: 141] المدْحَض الخاسر في الصفقة، والمراد القرعة حيث كان من نصيبه أنْ يُلْقى هو في البحر.
والقرعة طريقة للاختيار، تبرئ مالك السفينة من أنْ يُتَّهم بالتحيز أو المحاباة، وعملية إلقاء السهام مسألة قدرية خالصة، لا دَخْلَ فيها للهوى، وهي دليلٌ على عدالة الحكم؛ لذلك كثيراً ما نلجأ في إجراء القرعة إلى طفل صغير، يختار الأوراق الملقاة مثلاً، لماذا؟ لأنه لا يستطيع التمييز بينها؛ لذلك يأتي اختياره قَدَراً مُنزَّهاً عن الهوى.
فقوله تعالى { فَسَاهَمَ } [الصافات: 141] يعني: دخل معهم في القرعة يعطينا لقطة اجتماعية تعفينا من الحرج والضغائن، لأنه إذا وُجد شيء لا يتسع للطالبين له، لا يصح أنْ يميزَ القائمُ عليه بين هؤلاء الطالبين؛ لأن تمييزَ واحدٍ على الآخر يُورِث في النفس شيئاً، وإجراء القرعة اختيار قدري لا دخْلَ لأحد فيه.
وهذه المسألة لجأ إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم،
"حينما دخل المدينة والتفَّ الناس حوله، كُلٌّ يريد أنْ يأخذ بزمام ناقته صلى الله عليه وسلم ليذهب برسول الله إلى بيته، فكيف يفعل رسول الله وهو يريد ألاَّ يكسرَ خاطر أحد منهم؟ لقد حسم رسول الله هذا الموقف، حين قال: دعوها فإنها مأمورة" فأخرج نفسه من الاختيار، وتركه لله تعالى ولقدره، وسارتْ الناقة حتى بركتْ عند ديار بني النجار.
قد يقول قائل: هل تنجو السفينة أو تغرق بسبب شخص واحد خَفَّ من وزنها أو زادَ عليه؟ نقول: نعم ألم تسمع عن القشَّة التي قصمتْ ظهر البعير، فأنت حين تُحمِّل الجمل يتحمَّل على قدر طاقته، حتى إذا زدْتَ عليه عوداً واحداً برك بحمله، والحقيقة أن العود الواحد أو القشة لا تقصم ظهر البعير، إنما مجموع العيدان والقشة الأخيرة هي فقط التي رجَّحتْ الوزن ووصلت به إلى درجة عدم التحمُّل، كذلك الحال في سفينة سيدنا يونس، حيث توقف نجاتها من الغرق على إلقاء واحد من ركابها، وهلاك واحد خير من هلاك الجميع.
ونتعلم من هذه المسألة أنه لا مانعَ حين يحل الخطر بالجماعة أنْ يدفعه عنهم أحدهم، والقرعة هي التي تحدد هذا الواحد.
ثم يقول سبحانه { فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات: 142] أي: ابتلعه الحوت، وقد فعل عليه السلام ما يُلاَم عليه، واللوم نوع من العتاب، وفَرْق بين ما تُلاَم عليه وما تُعَاقب عليه، سيدنا يونس فعل ما يُعاتَبُ عليه من ربه - عز وجل - وكأن الله يقول له: لقد تسرعتَ حين تركتَ قومك وضِقْتَ بهم لأول إيذاء تتعرَّض له، وكان عليك أنْ تصبر، وأنْ تتحمل الأذى في سبيل دعوتك. فاللوم ضَرْب من العتاب، لا يصل إلى درجة العقاب، وغالباً ما ينشأ العتاب بين الأحبة لاستبقاء المودة، لذلك قال الشاعر:

أمّا العِتَابُ فَبِالأَحِبَّةِ أَخْلَقُ والحبُّ يَصْلُحُ بالعِتَاب وَيَصْدُقُ

ومعلوم أنك لا تعاتب إلا مَنْ تحرص عليه ليظل في صحبتك.
إذن: يشفع لسيدنا يونس هنا عدة أشياء أولها { إِذْ أَبَقَ } [الصافات: 140] يعني: كان عبداً لله تعالى، ثم
{ { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } [الأنبياء: 87] أي: لا نُضيِّق عليه، وهذا حُسْن ظن بالله، ثم { وَهُوَ مُلِيمٌ } [الصافات: 142] فالله عاتبه ولامه مجرد لَوْمٍ، على أمر لا يصحُّ من نبي، والعتاب دليل المحبة.
وقوله تعالى: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ ٱلْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [الصافات: 144] التسبيح يعني: التنزيه المطلق لله تعالى فكوْنه من المسبحين جعله موضعاً للَّوْم والعتاب، لا للإيذاء والعذاب، فلولا إيمانه وتسبيحه لَظَلَّ في بطن الحوت إلى يوم يُبْعَثُون.
مسألة عتاب الحق سبحانه لنبيه يونس على تركه لقومه وتخلِّيه عنهم، لمجرد أنهم عاندوه وكذَّبوه يُذكِّرنا بسنة الله تعالى في رسُله، وهي النُّصْرة والتأييد
{ { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ ٱلأَشْهَادُ } [غافر: 51].
لكن قد يتأخر هذا النصر، مع أن الله قادر أنْ ينصرهم من أول وهلة، لكن الحق سبحانه يريد بذلك أمرين:
أولاً: أنْ يستشريَ الفسادُ ويعُمَّ، حتى يضيق الناس به فيتطلَّعون إلى الحق وإلى الخير، ويَسعَوْنَ هم إليه.
ثانياً: ليُمحِّص اللهُ المؤمنين بالرسل، ويميز منهم أصحاب الثبات والقدرة على تحمُّل مشاقِّ الدعوة فيما بعد. إذن: تأخُّر النّصْرة ليس خُذْلاناً للرسل، ولا تخلياً عنهم، فما كان الله تعالى ليرسل رسولاً ويتخلَّى عنه.