خريطة الموقع > التفسير

التفاسير

< >
عرض

كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ
٢٩

خواطر محمد متولي الشعراوي

الكتاب هو القرآن، والمبارك هو الشيء الذي يعطي من الفائدة والخير فوق ما يُتصوَّر منه، تقول: هذا الشيء نأخذ منه ولا ينقص، نسميه مبروك كرجل يعيش على راتب محدود، ومع ذلك تراه يُربِّي أولاده أحسن تربية ويعيش بين الناس عيشة الأغنياء، فيقولون: إنه رجل مبارك، وأن الله يبارك في راتبه القليل فيصير كثيراً، لكن كيف يبارك الله في القليل؟
قالوا: ينزل على القليل، القناعة أولاً فيرضى صاحبها، ثم يسلب المصارف فلا ينفق منها إلاَّ في المفيد، الناس يظنون أنَّ الرزق هو المال، ولا يدرون أن سَلْبَ المصارف لونٌ من ألوان الرزق، وقلنا: إن الرزق رزقُ إيجابٍ بأنْ يزيد الدَّخْل، ورزقُ سَلْب بأنْ تقلَّ المصارف.
ومثَّلْنا لذلك بالرجل يعيش من الحلال، وحين يمرض ولده مثلاً يكفيه كوبٌ من الشاي وقرص أسبرين، أما الذي يعيش من الحرام ويكثُر المال في يده حين يمرض ولده لا بُدَّ أنْ يذهبَ به إلى أفضل الأطباء، وينفق على شفائه أضعاف ما يُنفق الأول.
والقرآن مباركٌ، وآياته مباركة من حيث الأحكام الظاهرية، لأنه سيربي النفس على استقامة، هذه الاستقامة لو نظرتَ إليها اقتصادياً تجد أنها لا تُكلِّفك شيئاً، نعم الاستقامة لا تكلفك، أمَّا الانحراف فهو الذي يُكلِّف، لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"المؤمن يأكل في مِعَىً واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" .
نعم الكافر يأكل كثيراً ليشبع، أما المؤمن فتكفيه لُقيمات يُقمْنَ صُلْبه، ثم هو لا يأكل إلا إذا جاع، وإذا جاع صار أيُّ طعام بالنسبة له لذيذاً، ولو كان الخبز الجاف والملح، لذلك قال العربي الحكيم: طعام الجائع هنيء. أما الآن فنراهم يجهزون قبل الطعام السَّلَطات والمشَهِّيات والمقبِّلات، لماذا؟ ليأكل الإنسان كثيراً، يأكل حتى التخمة، ثم بعد ذلك يحتاج إلى المسهِّلات والمهضمات .. إلخ.
وهذا ليس من صفات المؤمن؛ لأن سيدنا رسول الله وضع لنا المنهج في ذلك، فقال:
"نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع" فهذا المنهج يراعي الناحية الاقتصادية، ويوفر الخير والسعادة للكل: اقتصادياً، واجتماعياً، وسياسياً، وأمنياً بدون تكلفة.
ثم إن القرآن مُبَاركٌ من ناحية أخرى، فحين تتفاعل مع المنهج، وحين تعشقه يُبيِّن لك الحق سبحانه ألواناً من الأسرار يتعجَّب منها غيرك، ويفتح عليك فُتُوحات عجيبة، ألم يتعجَّبْ موسى - عليه السلام - وهو نبيّ الله من عمل العبد الصالح، والعبد الصالح عبد الله على منهج موسى، ومع ذلك أمر الله موسى أنْ يتبعَ العبد الصالح، وأن يتعلَّم منه، لكنه يتبعه بإخلاص وبعشق، فلما اتبعه موسى بعشق وإخلاص تعلَّم منه الأعاجيب، وهذا المعنى ورد في قوله تعالى:
{ { يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } [الأنفال: 29].
الفرقان هنا ليس هو القرآن، بل هو فرقانٌ خاصٌّ لمن يتبع الفرقان الأول وهو القرآن، ويصل به إلى درجة التقوى، يعطيه الحق سبحانه فرقاناً خاصاً لأنه اتبع القرآن بإخلاص وبعشق.
ومعنى { لِّيَدَّبَّرُوۤاْ آيَاتِه .. } [ص: 29] والتدبُّر هو ألاَّ ننظر إلى الوسيلة نظرةً سطحية، إنما ننظر بتفكُّر وتمعُّن وحساب للعاقبة، ننظر إلى الخلفيات واللوازم لنستنبط ما في الشيء من العِبَر، لذلك لما خرقَ الخِضْر السفينة اعترض موسى؛ لأنه نظر إلى سطحية المسألة والمنطق. يقول: إن السفينة السليمة أفضل من المعيبة, إنما للعبد الصالح مقياسٌ آخر، فهو لا يقارن بين سفينة سليمة وأخرى مخروقة، إنما يُقارن بين سفينة مخروقة ولا سفينة أصلاً أيهما أفضل؟ لأن الرجل الظالم كان سيأخذ السفينة، إنْ كانت سليمة فَخُرقها هو الذي نجَّاها من هذا الظالم، وبقيتْ السفينةُ لأصحابها، هذا هو علم الملكوتيات والغيبيات التي يفيض الله بها على مَنْ يشاء من عباده الذين أخلصوا له سبحانه.
وقوله: { وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } [ص: 29] أي: أصحاب العقول الواعية، وتأمل هنا أن الحق سبحانه يُنبِّه العقول، ويُحرِّك الفهم إلى تأمُّل آياته في الكون، والمقابل لك أو الذي بينك وبينه صفقة لا ينبهك إليها، إلا لأنه واثق أنك ستُقبل عليها وإلا أخفاها ودلَّسَ عليك، كالذي يبيع لك سلعة جيدة تراه يشرح لك مزاياها، ويدعوك إلى اختبارها، والتأكد من جودتها ويُنبِّه عقلك إلى ما خَفِي عنك منها.
أما صاحب السلعة الرديئة فإنه يصرف نظرك عن عيوبها، ويشغل عقلك بأمور أخرى، حتى لا تتنبه إلى عيوب السلعة، فمثلاً تدخل المحل لشراء حذاء مثلاً، فإنْ كان ضيقاً يقول لك البائع: إنه يتسع بالمشي فيه، وإنْ كان واسعاً سبقك هو بقول: أنا أرى أنه ضيق عليك قليلاً، المهم عنده أن (يلف) عقلك حتى تشتريه.
فالحق - سبحانه وتعالى - يدعونا إلى تأمُّل آياته وتدبُّرها والبحث فيها، لأنه سبحانه واثق أننا حين ننظر وحين نبحث ونتأمل سنقتنع بها، وسنصل من خلالها إلى الحق والصواب. ومع ذلك نرى البعض يقف أمام بعض المسائل الدينية يقول: هذه مسألة فوق البحث ولا عملَ للعقل فيها، ونقول: لكن أمرنا بالتدبُّر والتفكّر والتأمّل في الكون، فلا مانع أنْ نبحث.
ثم يعود بنا السياق القرآني مرة أخرى إلى سيدنا داود، لا ليقصَّ علينا قصته، إنما لأنه سيكون أباً لنبي آخر، هو سيدنا سليمان عليهما السلام:
{ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ ... }.